تجدها في كل مكان تذهب اليه. انها سيدة الفصول
السينمائية الاربعة. مسبّعة كارات انقذت مهرجانها من براثن
الشيوعية. على رغم
سنواتها السبع والسبعين، لا تزال المديرة الفنية لمهرجان كارلوفي فاري ايفا
زاورالوفا تدير منذ خمسة عشر عاماً، شؤون حدث سينمائي هو الأهم والأعرق
حالياً في
أوروبا الوسطى، وهي تفعل ذلك من دون ان تشعر بأن الزمن الذي
مضى خلفها قد ذهب سدى
في أروقة قصر "تيرمال" حيث تعقد هذه التظاهرة في بداية الصيف من كل عام.
فمهرجان
كارلوفي فاري، الذي عانى في زمن الشيوعية تحويل السينما آلة ضغط
وبروباغاندا، حيث
لم تكن تُعرض الا "الأفلام الصديقة" في ظلّ النظام القائم
انذاك، تخلص بفضل هذه
الصحافية المتمرسة وفريق عملها، من كل ما كان يجعل هذا المهرجان واجهة
رسمية
للعقيدة السوفياتية والسينما الملتزمة فكرا سياسيا أوحد. كانت "نفضة" لا
تزال مدعاة
فخر عند زاورالوفا وترد مراراً في حواراتها.
وعليه، حين تدحرج الستار الحديد،
وانقشع ما انقشع، و"عادت" تشيكيا الى قلب أوروبا النابضة
بالتسامح والانفتاح، بدأ
المهرجان يجني ثمار مثابرته الى أن صار اليوم مزيجاً عجيباً غريباً من
الثقافة
الخالصة والاحتفاليات. وعلى رغم أن هناك سجادة حمراء يمشي عليها المشاهير،
وطرقا
تقفل من اجل تسهيل مرورهم، الا ان البروتوكولات قليلة جداً،
ومن الممكن أن ترى
اطفالاً يلعبون في حوض سباحة على مقربة عشرة أمتار فقط من مدخل القصر
الرئيسي الذي
شهد زحمة شديدة في الويك اند الفائت. اما الصالات، فهي، سواء أكان الطقس
ممطراً ام
غائماً أم مشمساً، فمكتظة دائماً بأنواع مختلفة من المشاهدين،
ومعظمهم طلاب
وسينيفيليون شباب ملّوا الأفلام الأميركية التجارية في براغ، فاقتحموا
المساحات
الخضراء والارصفة والممرات، في مشهد يقارن الى حدّ كبير بوودستوك، الى حدّ
ان
المهنيين الموجودين هنا لا بدّ ان يصطدموا بهم، كلما أرادوا
الدخول الى القصر
والخروج منه.
في زمن أصبح الكثير من المهرجانات، "سلة مهملات" للثلاثية
المهرجانية، كانّ والبندقية وبرلين، بمعنى انها تضطر الى اختيار ما يُرفض
هناك،
فالتظاهرة هذه، المنعقدة في بلد صغير محاصر من كل الاطراف وغير مطل على أي
بحر، تظل
متمسكة، أقله في المسابقة الرسمية (14 فيلماً روائياً)، بسينما
مؤلف ذات بعد
اجتماعي ثقافوي، مولية الاكتشاف والتجريب المساحة الكبرى من اهتمامها. حول
هذا كله،
ولتقويم الدورة الحالية التي تختتم بعد غد، كان هذا اللقاء مع زاورالوفا،
التي
تحدثت بلكنتها الفرنسية الصارخة عما يميز هذا الموعد السينمائي
عن غيره، هي التي
حمّلته قضية مصيرية، وسبّعت الكارات من أجله.
نراك
في كل المهرجانات
الكبيرة. أهكذا تختارين الأفلام التي تُعرض في كارلوفي فاري؟
ـــ لا، على
الاطلاق، ليس للصدفة مكان في عملنا. نبحث عن أفلام تتماشى مع فهمنا
للجماليات، وعلى
هذه الأعمال ان تكون على قدر من الجدية، مع شرط تقني بالنسبة الى أفلام
المسابقة،
هو أن تكون عرضاً أول، وهذا شيء في منتهى الصعوبة، لأن
المهرجانات الثلاثة الأوائل
كما تعلم، تنال كل ما تريد. فأن تجد، في ظل الوضع القائم على المهرجانات
المصنفة
فئة "أ"، اعمالاً تفي بالغرض وتستجيب المهمات الموكلة اليها، وتنجز
برنامجاً يكون
على مستوى معين من الجودة، فذلك شيء في منتهى الصعوبة.
للإتيان بالأفضل نذهب
الى معظم المهرجانات المهمة، ونختار من هناك ما يعجبنا، ويتبدى ذلك من خلال
قسم "آفاق"
وأيضاً في خانة "عيون مفتوحة" التي هي اعادة عرض لبعض الأفلام التي عرضت في
كانّ. أما مسابقة "شرق الغرب" فمهمة جداً، لأنها تتضمن أهم ما انتج أخيراً
في
البلدان التابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً، ولا يهم اذا كان البعض منها سبق
أن عُرض
في العالم أو لا. تجد فيها الجديد والقديم، الحصري وغير
الحصري. الفيلم الألباني
مثلاً يعرض عندنا للمرة الأولى، خلافاً لفيلم آخر في هذا القسم هو "جندي من
ورق"
شاهدناه في البندقية، لكننا أحببناه وأردنا أن يكتشفه جمهورنا.
يساندني في
عملية الاختيار أربعة معاونين. لدينا ايضاً شبكة من الاتصالات مع متخصصين،
من
صحافيين ونقاد، في مناطق مختلفة من العالم، مهمتهم اقتراح الأفلام علينا.
نحتكم
كثيراً الى خيارات هؤلاء وأذواقهم. يُرسل الينا الكثير من
اقراص الـ"دي في دي". هذه
السنة تلقينا أكثر من 1700 منها. لا يمكن خمسة اشخاص أن يشاهدوا هذا العدد.
اذاً،
علينا الاستعانة بآخرين. لكن هذا لا يعني اننا نسلّم الأمر اليهم، اذ يحصل
أحياناً
أن نعيد النظر في فيلم كان مستشارنا اعطى فيه رأياً سلبياً،
وذلك عندما نشعر ان ثمة
تجزئة في حكمه. ذائقتنا هي المعيار والدليل. ذائقتي وذائقة معاونيي الذين
يصغرونني
بسنوات.
هل
أذواقكم متقاربة الى حدّ ما؟
ـــ (متعجبة). لدينا الذائقة
نفسها، نعم! على سبيل المثال، أعتمد عليهم لاختيار العناوين
التي ستشارك في قسم "افلام
منتصف الليل". لست حتى مهتمة بمشاهدتها، لأنني أعرف ما فيه من أشياء لا
تليق
بذائقتي السينمائية (ضحك)...
...
اصبح هذا شبه تقليد في المهرجانات اليوم:
تخصيص هامش لأفلام ركيكة لمجرد أنها تنم عن تجربة ما أو تشكل ظاهرة.
ـــ ما ابحث
عنه في الفيلم هو نوع من حقيقة. أريده أيضاً مقنعاً ويأتي اليّ بشيء ملموس.
لا أحب
الفيلم الذي لا يقول شيئاً. ليس في الضرورة أن يتضمن رسالة، بل أن يكون ذا
همّ
اجتماعي أكثر منه سياسيا. لا أعرف اذا كنتَ قد شاهدت الفيلم
البولوني "سوينكي" الذي
يشارك في المسابقة. أنا جد مهتمة برأيك في هذا الفيلم، لأنه يندرج في سياق
ما احبّه
وأدعمه للمهرجان. اليك شريط يصف واقع إحدى المدن البولونية الصغيرة التي
تقع على
الحدود المشتركة مع المانيا، يعاني قاطنوها البطالة التي
تجعلهم يعيشون في الحاجة
والعوز. من خلاله، نرى كيف يحدد البؤس ملامح الشخص على نحو سلبي. هناك
أيضاً الفيلم
الروسي "الذئب الصغير". انه عمل مؤسلب وبعيد من نمط الواقعية الاجتماعية
التي قامت
عليها الأعمال السابقة لهذا المخرج: لا نرى الواقع الملموس، لكننا نفهم ما
الدوافع
خلف سلوك هذه الشخصيات. استطراداً، فالواقعية الاجتماعية هي ما
اميل اليه، لكن ليس
في الضرورة أن تكون موجودة في كل فيلم أختاره.
في كل حال، من الصعب جداً
تحديد معيار الفيلم الجيد، والارجح انه غير موجود...
ـــ أوافقك. أحياناً اسأل
مثل هذا السؤال، وبالطبع أستعرض اسباب ميولي الى هذا الفيلم
دون ذاك، لكن لا توجد
مبادئ عامة نطبقها. خذ مثلاً "المسيح الدجال" للارس فون ترير. هذا الفيلم
استفزني
وقزز بدني عندما شاهدته في كانّ. وقلت انذاك انني لا اريده في تشكيلتنا. ثم
رضخت
عندما اشترى موزع تشيكي حقوقه، واقترحه علينا، فكيف يمكنني أن
أحرم هذا الجمهور
المهتم جداً بمعرفة ما آلت اليه حال سينما فون ترير. اليوم، مع المسافة
الزمنية،
ينبغي القول إنني لم أعد أفكر في الأشياء التي اثارت قرفي في هذا الفيلم،
وربما
يكون قد ازداد اعجابي به، انطلاقا من فكرة ان فون ترير
سيناريست ومخرج بالغ
الأهمية. ما لم أفهم عنده هو هذا الاستفزاز! هل ينم عن حاجة لمشاركتنا
استيهاماته
أم انه يريد ان يلعب مع المشاهد لمعرفة الى أي حد يستطيع ان يتحمل
الاستفزاز.
ما
دمت تتحدثين عن الذائقة، هل نستطيع الكلام عن ذائقتين سينمائيتين لدى
التشيكيين،
ما قبل التحرير وما بعده؟
ـــ (باستهزاء). قبل التحرير، كنا نحب الافلام
الفرنسية والايطالية، وبعدها صرنا نحب السينما الأميركية
(ضحك). لهذا السبب
المهرجان مهم جداً. تجول في أروقة القصر وترى الشباب يفترشون الأرض. هؤلاء
يأتون
لأنهم يعلمون جيداً اننا نتيح لهم مشاهدة ما لا تتسنى لهم مشاهدته في أمكنة
أخرى.
من يأتي الينا يعرف انه يجد ما يبحث عنه. لكن الغريب أن بعض المنتجين
التشيكيين سبق
لهم أن اشتروا حقوق بعض الافلام التي لاقت استحسانا هنا، ولكنها منيت
بالفشل لدى
عرضها في الصالات.
السبب
بسيط: كل من كان يريد مشاهدة الفيلم شاهده.
ـــ
هذا ما كان يحصل.
هل
الارتماء في حضن السينما الأميركية نوع من رد فعل أم
تعويض عن الماضي؟
ـــ قد يكون كذلك. من الغرب لم يكن في استطاعتنا مشاهدة الا
السينما الملتزمة سياسياً. كان يأتينا كوستا غافراس أو أندره كايات. كانوا
سينمائيين أوروبيين في معظمهم. السينما الأميركية كانت شبه
غائبة. واعتقد أننا كنا
نبالغ في مشاهدة الأفلام الروسية، أو تلك التي كانت تبعثها الينا
الجمهوريات
التابعة للاتحاد السوفياتي في آسيا. ولا ننسى الافلام المجرية التي انجزت
انذاك في
رعاية رسمية. لذلك، قلت وأكرر ان المهرجان كان يحتضر، لأن المشاهدين لم
يكونوا
يهتمون بما يختار لهم.
انت
تتحدثين الآن عن الثمانينات؟
ـــ اتحدث عن
السبعينات والثمانينات. في الستينات، كنا نقدم الكثير من الأفلام الأميركية
اللاتينية. وكان كارلوفي فاري يتمتع بصيت جيد. لكن بعد الاحتلال، أي في عام
1968،
عقب الاصلاح الاقتصادي المزعوم، بات المهرجان واجهة للمظاهر
الرسمية وفقد الكثير من
ألقه. في تلك الحقبة، كنت اشارك في المهرجان بصفتي صحافية، وأنا اعرف عما
أتكلم.
المرة الاولى جئت فيها الى هنا كان عام
1970. غالبية الأفلام كانت تأتينا من بلدان
"صديقة". على رغم ذلك استطاعت ماري جوزيه نات، العضو في لجنة التحكيم،
ان تقنع باقي
الاعضاء، ومن بينهم كرزيستوف زانوسي، بمنح الجائزة الكبرى لفيلم كين لوتش،
الذي لم
يكن يعرفه أحد انذاك، بدلاً من اعطائها لفيلم روسي مؤدلج سياسياً. ابتداء
من عام
1994، تاريخ تسلمي الادارة، سعينا الى تشكيل برنامج
لافت، وكان هدفنا جذب انتباه
الشباب، وصولاً الى أن صار عدد المشاهدين في الدورة الواحدة
نحواً من 140 الفاً،
معظمهم من الشباب، خلافاً للمهرجانات الأخرى حيث معدل العمر أعلى بكثير.
لكن
قبل التاريخ المفصلي، أي عام 1994، نسمع انه كان للمهرجان تاريخ مجيد وعصر
ذهبي...
ـــ بالتأكيد، فقد كان مرجعاً للفيلم السياسي، لكن فقط تلك التي كانت
تستجيب العقيدة الاشتراكية. حتى أفلام غودار التي كانت تعتبر سياسية لم يكن
يؤتى
بها الى المهرجان. كنا نرى البعض منها في الصالات التجارية. كنا نشاهد
تروفو ورومير
لكن ليس غودار. كانت الموضة آنذاك للكوميديات الفرنسية
والايطالية. والناس كانوا
يحبونها. انها الكوميديات التي لا تزعج احداً. عام 1990، وبعد حوادث تشرين
الثاني 1989،
اخرجنا كل الأفلام التي كانت تحت الحظر. وعاد الكثيرون الى المهرجان، من
ميلوش فورمان وايفان باسر...
هل
كانت محض صدفة برمجة فيلم أميركي للافتتاح في
ذكرى الـ20 للتحرير؟
ـــ (ضحك). لم نقارب المسألة من هذه الزاوية. شوهد الفيلم
في ساندانس، وأحبه شركائي في الاختيار، وأكدت مخرجته استعدادها للمجيء. لا
شيء
سياسيا في الفيلم، لا يساراً ولا يميناً. انه معالجة عاطفية لا
تستهويني، وأجده
متوسط الجودة.
في
الدورات الأخيرة، تجلى عدد اكبر من الاكتشافات في الاقسام
الموازية لا في المسابقة الرسمية. هل توافقينني؟
ـــ طبعاً، هناك في "فوروم
المستقلين" أفلام تجريبية غير موجودة في أقسام اخرى. مثل فيلم
ابن اندره جولافسكي.
او فيلم فيريباييف "أوكسيجين" الذي يتحدث عن واقع الحال في روسيا اليوم.
مثل هذا
العمل كان من المستحيل عرضه هنا في الثمانينات. وطبعاً هذا ليس فيلماً
لمحبي لوي دو
فونيس او الكوميديات الشعبية الايطالية.
لماذا
تمارسون سياسة المراعاة
الجغرافية باختياركم فيلماً واحداً من كل بلد في المسابقة الرسمية؟
ـــ هذا
ايضاً لم يكن مقصوداً. كان هدفنا أن نجد مساحة لسينما مستبعدة عن جدول
المهرجانات
الثلاثة الأهم. لذلك نسعى دائماً الى فيلم يمثل جيداً السينما البولونية أو
المجرية. تُرسَل الى مهرجان كانّ مثلاً عشرات الأفلام، لكن
الادارة تختار الاسماء
المعروفة والكبيرة. نحن لا نبحث عن المكرسين، انما عن شيء نجده على قدر من
القيمة.
ما
سرّ غياب السينما العربية في كارلوفي فاري؟
ـــ (مستهجنة). في
الحقيقة، لا احد يقترح علينا شيئاً من أفلام تلك المنطقة. ذهبت بنفسي الى
القاهرة
وبحثت عن...
(مقاطعاً).
لكن القاهرة وحدها لا تمثل العالم العربي...
ـــ
أوافقك، لكن لا أعرف أين أبحث عن الأفلام العربية. ذهبت أيضاً الى مهرجاني
مراكش
ودبيّ ولم أجد ما يشفي غليلي. ذهبت بنية طيبة بغية ايجاد اعمال مهمة، ولكن
خاب ظني.
بعض الصحافيين المصريين وعدوني بأنهم سيرسلون اليّ الأفلام، لكن لم يفوا
بوعدهم.
لدينا المشكلة عينها مع الهند، اذ يرسل
الينا الكثير من الأفلام من هناك، لكن
نادراً ما تلائم ذائقتنا. المسألة أقل اشكالية حين يتعلق الأمر
بالسينما الايرانية.
هل
تغير الكثير في المهرجان منذ توليك الادارة؟
ـــ التغيير شمل البرنامج
على وجه الخصوص، والبحث الدؤوب عن أفلام من الشرق والغرب.
اليوم بتنا احراراً لا
احد يفرض علينا فيلماً او ضيفاً. ما تغيّر أيضاً هو الجمهور. سابقاً لم نكن
نرى
هؤلاء المشاهدين الشباب، بل كانت الاروقة مملوءة بالوفود الرسمية. أما
كارلوفي فاري
فتغيرت كثيراً. قبل التحرير، كانت البيوت رمادية اللون وكئيبة.
اليوم هي مدينة
منشرحة وتملأها المقاهي والحانات، وواجهات المنازل تبتسم لك.
لم
تعد تمارَس
عليكم ضغوط سياسية؟
ـــ على الاطلاق. لم تعد موجودة. لسنا ممولين من الدولة.
وزارة الثقافة تساندنا بجزء من الموازنة.
منذ 1989 صارت لنا استقلالية واسعة
وسيادة. والمهرجان تموله مجموعة "سبونسورز". ثلاثة ارباع الموازنة هي أموال
خاصة لا
عامة.
لكن،
رئيس الجمهورية كان موجوداً هنا في الافتتاح...
ـــ نعم،
أحياناً يوجه اليّ انتقاداً حول فيلم قائلاً: "لم يكن ينبغي اختيار هذا
الفيلم، لم
أحبه". هذا أقصى ما يمارَس علينا من رقابة! (ضحك).
أيضاً،
في مرحلة من
المراحل، جرى الكلام عن نقل المهرجان الى براغ!
ـــ السبب خلف ذلك هو ان
المهرجان كان في طريقه الى الموت. الجمهور لم يكن يستجيب. فكان
أن اطلقنا مهرجاناً
في براغ، بين عامي 1995 و1996، ولم يصمد الا دورتين، كونه تعرض للفشل بسبب
عدم
تحضير برنامج شيق له، وانتهى الامر بمشكلات اقتصادية مستعصية.
وماذا
عن البنى
التحتية للمهرجان؟ وعن مصير هذا القصر الغليظ الذي بقي كأحد معالم الهندسة
على
الطريقة السوفياتية. ألن يهدم يوماً ام سيظل منتصباً الى
الأبد؟
ـــ آه، هذه
مشكلتنا الكبرى. لذلك لا نستطيع أن نستقبل عددا أكبر من المشاهدين. عدد
صالاتنا
محدود. هذا المبنى شيد عام 1974 من اجل المهرجان الذي كان يعقد حتى ذلك
الحين في
فندق
Pupp، وهو كان معروفاً انذاك باسم "موسكو". لا أخفي أن
قصرنا الحالي عملي، لكن
ليس مجهزاً كما ينبغي. ما يمنعنا من تحديث المكان هو اننا لا
نعلم من يشتريه. القصر
للدولة، وهي لا تريد استثمار الكثير من الاموال فيه، ليس لأنها لا تؤمن
بالمهرجان،
بل لأنها لا تريد أن تورط نفسها في ادارته. هي الآن تريد أن تبيعه. لكن
هناك مشكلات
مستعصية. من جملتها أن رجل أعمال عربيا اشترى المبنى ودفع جزءا من المبلغ
ثم اختفى،
ولكن اندرج اسمه في لائحة المتملكين.
هذه
حبكة جديرة بفيلم من أفلام المافيا
الروسية!
ـــ (ضحك). نعم، اليوم، كما تعلم، المافيا الروسية هي التي تتحكم
بالمدينة. الروس يستثمرون كثيراً في شراء العقارات في كارلوفي فاري، ونحن
نخاف أن
يشتري شخص روسي القصر، لأننا في منافسة شرسة مع مهرجان موسكو السينمائي.
حتى انهم
غيروا تاريخ انعقاد مهرجانهم خوفاً على مصلحتهم. رئيس المهرجان
جاء الى هنا ولاحظ
أن الأمور تسير على ما يرام عندنا، خلافاً للحال التي هي عندهم.
المآسي والمعضلات عنواناً عريضاً للدورة السادسة من "اسبوع
النقاد"
النسخة البيروتية لأسبوع النقاد الدوليين
الذي يعقد بدءاً في مهرجان كانّ، تتابع نشاطها منذ مطلع
الاسبوع الحالي في صالة
"متروبوليس" (أمپير ـــ صوفيل) للمرة السادسة على التوالي. في صفحة
الخميس الماضي،
كانت لنا لمحة
عن الأفلام الثلاثة الاولى التي عرضت في الايام الأولى لهذه
التظاهرة، وهنا عودة الى جانب من البرنامج (الأفلام الطويلة
فقط) الذي يختتم
الثلثاء المقبل.
• "ألتيبلانو" لبيتر بروسانس وجيسيكا ورثورث (اليوم،
الساعة 20:30). انتاج أوروبي مشترك بين بلجيكا وهولندا والمانيا يروي من
خلاله
المخرجان مأساة مصورة فوتوغرافية تدعى غرايس تقرر التخلي عن مهنتها بعد
حادثة اليمة
تتعرض لها خلال وجودها في العراق. يزداد الطين بلة، حين يقتل زوجها الطبيب
اثناء
وجوده في البيرو. هذه ستكون مناسبة لغرايس كي تنطلق في رحلة
الى مكان موته. رحلة
شائقة تتغير من خلالها نظرتها الى الأشياء. شريط يذكّر بـ"أغيري، غضب الله"
لفيرنر
هيرتسوغ، بسبب تضمنه فتوحات في بيئة قاسية، لكن الاختلاف يبقى كبيراً بين
العملين.
• "هواتشو" لأليخاندرو فيرنانديس ألميندراس (الاثنين،
الساعة 20:30). هذا أول
فيلم ينجزه المخرج التشيلياني ألميندراس بعد ثلاثة أفلام قصيرة. ضمن زوايا
شكلانية
قاسية، يموضع المخرج قصة ناعمة فيها الكثير من الانسنة. نحن في عمق الصيف
التشيلياني الحار. نتعرف الى أربعة من أفراد عائلة مترابطة في
الحلو والمر. هنا
أيضاً الطبيعة ناشفة ولا ترحم. في حين ان الحداثة تلوح في الأفق البعيد.
يصوّر
الفيلم هذه اللحظات البسيطة من حياة بسطاء يتدبرون أمورهم كيفما اتفق، من
دون ان
تكون له ازاءهم نظرة شفقة، انما على عكس ذلك، يحاول من خلال
كاميراه ان يعيد اليهم
الكرامة التي أفسدتها الحياة. يؤرخ ألميندراس لبيئة في طريقها الى الزوال،
ولا يحنّ
اليها، متسلحاً بواقعية آلة التصوير وإلمامها بالرمزية والتفاصيل الصغيرة
المعبرة.
• "منطقة للأشخاص الضائعين" لكارولين ستروبيه
(الثلثاء، الساعة 20:30).
بتينا وماركوس يعيشان قصة حبّ شهوانية في كوخ حيث كابلات كهربائية للتوتر
العالي.
في حين أن الزوجة تحلم بحياة أكثر
استقراراً من تلك التي تعيشها، تشغل ابنتها تيسا
وقتها بجمع أشياء غير مهمة. لكن سرعان ما تقع حادثة اليمة
فتحطم أحلام هذه العائلة
الباحثة عن حياة مثالية. في باكورتها هذه، تعطل ستروبيه كليشيهات فيلم
الوسترن. اذ
ثمة دخيل يأتي في اطار الحوادث، ليشهد على مأساة العائلة. بين زمن مجيء
الدخيل وزمن
رحيله، اشياء كثيرة تحصل. انها الاسطورة الابدية للدخيل الذي
يقتحم خصوصية عائلة،
ينال من استقرارها، من دون أن يفعل شيئاً. ثم يأخذ معه جملة من الاسرار
والاسئلة
المعلقة.
( hauvick.habechian@annahar.com.lb)
خارج الكادر
عن التحرير والتحرر
كيف نكتب عن
ياسمين المغربية من دون أن نحيي شجاعتها؟ رسالة مهنتنا واضحة: لا مديح ولا
تجريح،
ولا سقوط في الخطاب المباشر. خير الأمور أوسطها كما يقال. فما بالك اذا
كانت صاحبة
الموضوع ياسمين، العربية الوحيدة التي تسلقت الشهرة، ليس على ظهر الأغنية
أو عرض
الأزياء، انما من خلال السينما البورنوغرافية؟ هنا ايضاً
استخدم مثلاً شعبياً: "الشغل
ليس عيباً". وما بالك، ايضاً وأيضاً، اذا كانت هذه المرأة المتحررة (لا أجد
صفة أخرى للتعريف عنها)، هي ربما من أكثر النساء شجاعة في العالم.
قبل فترة،
قرأت مقابلة مع أحد السينمائيين يقول فيها إن الشجاعة ليست في انجاز فيلم
يدين
الحرب إنما في انصافها ومدحها. انطلاقاً من فكرة أن الجميع يدين الحرب ولا
أحد يجرؤ
على قول العكس. فهل أصبح معيار الشجاعة أن نمشي عكس السير؟!
لكن يبقى كلام
السينمائي معقولا جداً وينسحب جملة وتفصيلاً على صديقتنا ياسمين. فمثلما
ليس من
السهل تأييد الخيار العسكري في عالم منافق يزعم انه من انصار السلم، لم يكن
سهلاً
على ياسمين الآتية من الريف المغربي، ومن بيئة اسلامية لها خصوصيتها وقيمها
الأخلاقية (انتقلت مع عائلتها الى فرنسا وهي في الشهر الخامس
من عمرها)، ان تحرر
جسدها قبل أن تحرر عقلها، وفي هذا المجال سبقتها كثيرات، آخرهن أوفيدي،
البورنوغرافية المثقفة.
ياسمين تنتقل اليوم الى السينما التقليدية، بعدما كان
لها دور صغير في "الرجل الضائع" لدانيال عربيد. أشياء فظيعة تُكتب يومياً
على النت
في حقها، منها ما ينم عن جهل وتطرف، ومنها ما هو متأتٍّ من كبت وفحلوية
متزايدة.
النساء لسن أقل تحفظاً من الرجال في هذا المجال. هنّ أحياناً أشد تطرفاً من
الجنس
الخشن في تحقير قيمة المرأة. في هذه المناسبة،
البعض يحتاج الى أن نذكّره دائماً
بأن خيار ياسمين فردي، وليس جماعياً، وهي تالياً تفعل بجسدها ما تريد، فهي
تبلغ
التاسعة والعشرين، وعمرها يسمح لها بذلك. المهاجمون يحتاجون ايضاً الى ان
يتذكّروا
ان لهم الحق في النقد، لكن المطالبة بإهدار دمها جريمة وليست رأياً.
وسط هذا
كله، تقف ياسمين لتقول: "اتحمل مسؤولية ما أفعله". هذه هي الشجاعة بعينها.
انها
الجملة السحرية التي تزيل عنها خطايا الدنيا. وهنا يجب التشديد، منعاً
للالتباس،
بأن هذا المقال ليس لتشجيع الفتيات العربيات على دخول مجال
الفيلم الاباحي أو
لمنعهم منه. فليس هذا مجال بحثنا واختصاصنا. كل ما نود قوله ان الشجاعة شيء
نسبي،
شأنها شأن أشياء كثيرة. فالجندي لا يمتلك شجاعة بقدر الشخص الذي يخرج على
تقاليد
جماعته. الجندي يوضع في مواجهة الرصاص والقنابل، لكن لا شجاعة
في مهماته، لأنه كُتب
له أن يموت عاجلاً أو أجلاً. وهذا مصير طبيعي ومتوقع. ينتظره كل لحظة من
يذهب الى
الجبهة. لكن أن تقف فتاة، لم تتجاوز الثلاثين بعد، متصلبة وعنيدة أمام هذا
الكمّ من
الألسنة الفضاحة، فلا يمكن الا ان تكون شجاعة. تذكّر جماعتها بأنهم اصحاب
غرائز
حيوانية، عاكسة المرآة أمامهم، ومن خلال هذه اللعبة الذكية
تحرر جسد الانثى
العربية، الذي نحن في حاجة الى أن نراه في عريه الجميل، مثلما نرى جسد
شارون ستون
أو غيرها من الأجنبيات.
•••
تحية الى صلاح هاشم في مناسبة اطلاقه "جبهة
تحرير الخيال السينمائي" من روتردام. الرجل يقولها بوضوح: نريد كذا وكذا
وكذا. معه
الحق الكامل، وله تأييدنا ودعمنا. في كل حال، اي ابن امرأة يستطيع ان يعرقل
مطالب
ناقد ذي حدية مثله، وقف ذات مرة أمام جمع من الناس خلال ندوة في دولة
خليجية ليقول
بالفم الملآن: أفلامكم زبالة. زبالة! اعتاد هاشم أن يقول كلمته
ويمشي على الطريقة
المصرية العفوية. وبما ان الكلمات هذه ليست مديحاً له بل محاولة لفتح
مناقشة بين
اطراف مختلفين، فأعتقد أن المشكلة انه يمشي ولا يقف كي يتساءل كيف ولماذا.
لو فعل،
لوجد ربما أن الاصلاح الذي يدعو اليه يتجاوز إمكاناته وامكانات
صنّاع السينما
مجتمعين. لا يكفي نداء، وإنْ نابعاً من نيات طيبة ونبيلة، ليدرك العرب فجأة
انهم
تأخروا في الصعود الى قطار الحداثة السينمائية، وان القاطرة الأخيرة
ستفوتهم ايضاً.
الأهم الآن الا يفوتنا التوضيح الآتي: أولاً يا عزيزي صلاح، الخيال لا
يتحرر. هو
اصلاً حرّ. وهو الشيء الوحيد الحرّ. نعم هو الشيء الوحيد الحرّ. الانسان
ليس حراً
ولا يستطيع أن يكون. الخيال بلى: يولد حراً ويظل حراً بعد
الموت.
خطوتك جميلة
وفريدة وملهمة، ولكنها لا تغير شيئاً في الحتمية التي نعيشها. المشكلة ليست
في
تحرير الخيال بل في كيفية استغلاله من أجل سينما حديثة، لا سينما أخلاقية
ورجعية.
ألم ينجز المخرج التركي الكبير يلماز غونيه فيلمه البديع "يول" من خلف
القضبان؟
جسده كان أسيراً، بيد أن خياله كان حراً طليقاً على موقع التصوير. لا أريد
إقحامنا
في جدال بيزنطي، لكن ذريعة الرقابة التي يرفعها بعض السينمائيين العرب لم
تعد
متماسكة وهي لا تسعف أحداً. ليلى مراكشي ودانيال عربيد، قالتا،
وعلى نحو لائق، ما
تودان قوله. اللائحة قد لا تتسع للجميع. نعم الحرية ناقصة، لكن ليست هي
العائق
الوحيد. الايرانيان جعفر بناهي وبهمان قبادي استطاعا القفز فوق اسوار المنع
والاضطهاد في أكثر الانظمة تشدداً. اذاً، دعونا نبتعد عن هذه
الخطب المعلبة والحلول
السهلة، لنرى لماذا الخيال مفقود في سينما هذه المنطقة. ربما غياب اصناف
مثل الخيال
العلمي (السينما بدأت من هناك على يد جورج ميلييس) قد يأتينا بأجوبة صريحة
ومعبرة.
فلنفتح المناقشة منذ اليوم ولنر الى أين يأخذنا.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
09/07/2009 |