في النقاش الذي اعقب عرض فيلم «رجم ثريا م.» (The Stoning
of Soraya M.) قال مخرجه الإيراني الأصل سايروس نواراستي، ان الفيلم منع في إيران
مثله مثل فيلم «المصارع» الذي لعب فيه الممثل مايكي رورك احد افضل ادواره.
واضاف ان اختيار الممثلين لم يكن صعباً، إذ ان كثيرين وكثيرات من الممثلين
الجيدين هم من اصل إيراني يعيشون في لوس انجلس، وهم يجيدون اللغة الفارسية.
الممثلة التي لعبت دور ثريا كانت على المنصة ايضاً، وحين سئلت عن دورها في
الفيلم، قالت ان الصعوبة التي واجهتها تمثلت في كون الشخصية التي جسدتها في
الفيلم هي ام لأربعة اولاد، مما يعني انها حكماً أسنّ منها، وانها على
الأرجح كانت اسمن منها واقل طولاً. المناقشة سارت في هذا الاتجاه طوال
الأربعين دقيقة التي استغرقتها: كيف تعامل طاقم الفيلم مع الشخصيات، وكيف
واجه المخرج الصعوبات التي تمثلت في حسن اختيار اماكن التصوير. (بالمناسبة،
الفيلم صور في الأردن). وبكلام آخر، ذهبت المناقشة في اتجاهين متوقعين
سلفاً، مسح دموع المشاهدين الذين تأثروا بأحداث الفيلم وقسوته، وإدانة
النظام الإيراني الذي، على الرغم من ان القصة حدثت واقعاً في قرية من قرى
ايران، لم يعاقب أياً من المسؤولين عن رجم ثريا م. بل لجأ إلى معاقبة منتجي
الفيلم ومنع عرضه في إيران.
إدانة النظام الإيراني قد تكون واجبة. أما الحديث عن الصعوبات التقنية التي
واجهت الممثلة النحيفة لتلعب دور امرأة ولود من ريف إيران، فقد لا يكون
بمثل وجوبها. لكنها اميركا. حيث النجاح يشبه ربح اليانصيب. لقد قام المخرج
والمنتج بما يتوجب عليهما. اشتريا اوراقاً كثيرة من اليانصيب، وهما ينتظران
الجائزة. بدءاً من اختيار الممثل جايمس كافيزل لأداء دور الصحافي، وانتهاء
بإطالة زمن القسوة في مشهد الرجم. وصولاً إلى عرض الفيلم في واحدة من صالات
لوس انجلس التجريبية تمهيداً لنيل الأوسكار.
قد يحوز الفيلم جوائز عديدة، وقد لا يحوز. لكنه في كل الاحوال ليس فيلماً
رديئاً. على العكس انه فيلم جيد ومؤثر بكل المعاني. وحيث ان أحداثه مأخوذة
عن احداث قصة جرت واقعاً في ايران الملالي، فإن تأثيره يتضاعف ويتكثف. ذلك
ان تمثيل عذابات ثريا والظلم الفظيع الذي لحق بها، قبل قتلها واثناء قتلها،
وبعده ايضاً، وعرضه على الشاشة بدا بالغ القسوة، وليس اقل من مضاعفة
آلامها، بعدد مشاهدي الفيلم. ثم ان واقع ان القصة حدثت في قرية لا يتجاوز
عدد سكانها بضعة مئات من الأفراد، يجعل من هذه الألام في زمن حدوثها الفعلي
محدودة الأثر بحدود عدد سكان القرية، لكن انتشار الفيلم، والقصة من قبل،
جعلا رجم ثريا المفرط في قسوته وجوره مخيماً بسواده ومرارته فوق رؤوس الناس
كلهم في ارجاء الكرة الأرضية كافة.
ليس من حسن الفطن ان يعيد المرء قص حكاية الفيلم على القراء. فكل استعادة
مبتسرة للرواية تبدو في معنى من المعاني ابتذالاً للمعاناة التي عانتها
واختبرتها ثريا م. قبل موتها. بل ان قوة الفيلم تكمن في ان شريط احداثه
يدور في ظهيرة واحدة. ويكاد مشهد الرجم الذي يتوج مشاهد الفيلم كلها، يطول
إلى ما لا نهاية. كما لو ان الفيلم لا يحسن ان يرتب نهايته إلا باستدرار
الدمع: دموع المشاهد والممثلين على حد سواء. الفيلم في هذا المعنى هو حكاية
العيون. عيون ثريا التي بعد رجمها طويلاً وعنيفاً بقيت حية ونابضة، مما
استدعى رجمها مرة أخرى، وعيون الممثلين (جايمس كافيزل مثالاً) التي تطفح
بالدموع فتصنع لنفسها غشاء غبشاً يشبه الجلد الذي يستقبل وخزات الألم،
وعيون المشاهدين الذين يقبعون في عتمة مخيمة لا ينبعث منها غير ضوء الشاشة،
ويريدون ان يغالبوا الدمع لئلا يضيع المشهد، لكن الدمع يغلبهم أحياناً،
فيحولون المشاهدة إلى نشيج. العيون في الفيلم، مشاهدة وتمثيلاً وقصاً،
مجسات ألم. كما لو أن الألم الذي اصاب ثريا ليس ألماً طاول جسماً واحداً
بعينه، بل تكفي استعادة قصه، أي الألم، او تمثيله ليصبح ألماً يطاول كل
جسوم البشر، بدءاً من عيونهم وامتداداً نحو الحنجرة والصدر وصولاً إلى عجز
الاطراف.
المشاهدون في أميركا ربما يكونون اكثر تحسساً وتماهياً مع ألم الضحية من
اقرانهم المشاهدين في بلاد كإيران، حيث اصبح الموت اللاضروري جزءاً من
يومياتهم. هناك اسباب الموت لا تحصى، من الزلازل التي تسرق اعماراً اكثر
بكثير مما كان مقدراً لها لو ان البلاد تتمتع ببنية تحتية مقاومة للزلازل،
إلى التظاهرات التي يقتل فيها الناس من دون تمييز، وصولاً إلى اقتحام مهاجع
الطلاب وقتل بعضهم من دون ذنوب جنوها. وهذا كله يحصل في إيران ويحصل مثيله
في فلسطين ولبنان وسوريا، وباكستان وافغانستان، وامكنة أخرى كثيرة مصابة
بلعنة الاستخفاف بالحياة البشرية. الألم في مثل هذه البلاد غالباً لا يؤلم
إلا صاحبه، وبضعة افراد من الدائرة الضيقة المقربة منه. حيث خطف رجل او
إعدام امرأة لا يكون مسبباً لحزن عام. مثلما ان موت الوف من البشر تحت ركام
القصف يكون أحياناً سبباً للفخر واقامة التبريكات.
نقل احداث القصة من قرية إيرانية نائية إلى طهران او شيراز مثلاً، عبر عرضه
في الصالات، هو ضرب من إشاعة الألم الذي يخالطه اليأس. إذ ليس ثمة وسيلة
يملكها المشاهد لإيقاف رحلة الظلم الفظيع الذي تتعرض له ثريا. وإذ يقف
المشاهد حائراً امام عجزه او حتى احتجاجه، فإنه على الأرجح يصبح مستعداً
لإدانة جاره في المقعد المجاور. ذلك ان مثل هذا الظلم لشدة كثرته وقوة
حلوله، يصبح جريمة مشتركة مجرموها الناس جميعاً: لماذا لم ننتبه من قبل إلى
احتمال وقوع مثل هذا الظلم؟ لماذا لا نستطيع ان نجعل إدانتنا للنظام الذي
يسمح بتزوير الحياة البشرية على هذا النحو ان يبقى قائماً؟ لماذا نسكت ونحن
نسمع الرئيس الإيراني ينكر المحرقة اليهودية، في حين ان نظامه يشرع قتلاً
ظالماً من ثلاث جهات: الجهة الأولى تتصل باحتمال براءة المدان بالعقوبة
المنزلة به، والجهة الثانية تتصل بطبيعة الجلادين الذين ينفذون العقوبة،
حيث يعطى لوالد الضحية حجر الرجم الأول ثم يعطى تالياً للرجل الذي يفترض ان
الزانية زنت معه، ثم لأولادها وزوجها، والجهة الثالثة، تتصل بكون العقوبة
ليست مجرد إنزال الموت بخاطئ او خاطئة، بل هي تمويت اكثر منها موتاً.
استدرار للدم والألم خيطاً فخيطاً، وعضواً فعضواً. حيث يقع الحجر وحيث تجرح
صدمته. وعلى الضحية في هذه الحال ان تبقى مفتوحة العينين، ترى الحجر الآتي
وتحدس بالوجع قبل حدوثه، مما يجعل وجعها متكاثراً ومتعدداً، بعدد أحجار
الأرض. ثم وأخيراً، لا يستطيع المشاهد ان يتجنب بعض الأفكار الصماء التي لا
إجابات لها غير الغضب، فحين تكون الجريمة التي تعاقب عليها ثريا ظلماً هي
الزنا، بالنسبة لمشاهد في مدينة تعتبر ممارسة الجنس مجرد قتل للوقت، كمثل
شرب القهوة صباحاً او تدخين سيجارة على الرصيف، يبدو الأمر كما لو أن موت
ثريا وحياتها حدثا على هذه الكرة الأرضية من دون سبب وجيه. والأرجح ان عرض
الفيلم في مثل هذه المدن متوخياً اثارة هذا النمط من المشاهدين، يحول حكاية
الفيلم من حكاية امرأة تعرضت لشتى انواع التعذيب واقسى انواع القتل من دون
ذنب جنته وفق كافة المقاييس، إلى حكاية نظام كامل وشعوب برمتها، لا يبدو ان
ثمة خلاص لها إلا بهروب افرادها واحداً واحداً إلى المدن التي يحق للفتيات
فيها تقبيل عشاقهن على نواصي الطرق العامة.
ولنفترض ان ثريا زنت حقاً في قصتها ولم تحاكم ظلماً وهي بريئة من الذنب
الذي حوكمت عليه. فما الذي يبرر قتلها بهذه الطريقة الوحشية، وما الذي يبرر
الحكم عليها اصلاً؟
في اعتبارات المؤمنين من اهل بلادنا، يجب ان نضع الحد على الزانية. انه ضرب
من تنفيس غضب الزوج والمجتمع، وعقوبة لمن يخرج على الأعراف والتقاليد.
المرأة محصنة لزوجها، ولا يحق لها ان تستسلم لشهوتها او لشهوة رجل غيره.
والمرأة بهذا المعنى، وهذه كانت حال ثريا في الفيلم، امرأة يئست من شهوتها
وتحقيق لذائذها، وباتت خارج عالم الغواية برمته. رغم ان الرجال في القرية
ما زالوا يرون في مجرد امتلاكها جسماً انثوياً سبباً لاستثارة شهواتهم.
إنما ما الذي يعنيه هذا كله لجمهور لا يقيم لممارسة الجنس بين شخصين هذا
الوزن الأخلاقي الثقيل؟ الأرجح ان ذلك كله يتحول سبباً لإدانة النظام العام
في أخلاقه وافكاره وتوجهاته وسلوكاته. ذلك ان انتاج الفيلم، اي فيلم،
وعرضه، يضع المشاهد في خانة الحاكم والقاضي، وهو اي المشاهد لا يملك إلا
تجربته الشخصية وثقافته للحكم على السلوكات وتمييز الجريمة عن القصاص.
هذه الحجج تساق كلها في الدفاع عن نظام يبيح رجم الزانية وقتلها. انما ثمة
مشاهد واحد على الأقل، شاهد الفيلم، في وقت ما تزال ذاكرته غضة، ولا تزال
صلته بهذا العالم المرصود للإدانة الاخلاقية حية ونابضة. هذا المشاهد، سيرى
في رجم ثريا، تحسساً لما كان قد يصيبه هو، وسيرى في موتها ظلماً من دون
سبب، رفاقاً له ماتوا او اغتيلوا ظلماً ومن دون سبب، وآخرين قطعوا فيافي
وقفاراً بحثاً عن ملاذ آمن، وآخرين ضربوا في الشوارع العامة ضرباً مبرحاً.
وأولاد لم يفصل بينهم وبين آبائهم موت الأب او الام، بل سهولة تبرير الموت
واحياناً الحض على القتل، بوصف القتل من أعمال النضال.
وأنا اشاهد فيلم «رجم ثريا م«، أخذت اتحسس مفاصلي. الموت في الفيلم موت
نعرفه، مثلما تعرفه عمة ثريا زهرة التي حملت حكايتها إلى العالم. لكن
الخوف، كل الخوف، ليس من الموت، بل من التمويت، من المسار الذي يشقه الموت
عبر جروح الجسم. حيث يقسر الموت على دخول الجسم قسراً فلا يتم دورته إلا
محولاً الجسم اشلاء، لا يعود معها غسل الميت ممكناً.
هل يطلب المرء كثيراً في بلاد كبلادنا إذا فزع من قسر جسمه على استقبال
الموت، واختار ميتة اليعازر الذي إذا ما بُعث حياً قد يبعث بكل جسمه رغم
العفن الذي اصابه جراء طمره بالتراب؟
المستقبل اللبنانية في
28/06/2009 |