وصفته المجلة
السينمائية المتخصّصة والرصينة «بوزيتيف» بأنه «استعراض كبير مُصَوَّر
بحِرَفية
وذكاء»، ووجدته المجلة السينمائية الشعبية «بروميير» أذكى اقتباس لشريط
مُصَوَّر،
وأكثر الاقتباسات وفاء له. نجاحه التجاري جعل منتجيه يُحقّقون جزءاً ثانياً
منه،
يُفترض بعروضه التجارية أن تنطلق قريباً
(أُنجز الجزء الأول في العام الفائت
بميزانية بلغت، بحسب معلومات صحافية، خمسة وعشرين مليون يورو؛ في حين أن
تاريخ
تحقيق الجزء الثاني هو العام الجاري). مزجُه اللغات الإنكليزية والفرنسية
والبوسنية
في سياق درامي تمتدّ جغرافية أحداثه بين البوسنة وفرنسا واليابان (تمّ
تصوير مشاهده
الخارجية كلّها في مالطا وصقلية وهونغ كونغ وماكاو، والداخلية في أحد
الاستديوهات
الفرنسية، في ستة وثمانين يوماً، بين العشرين من آب 2007 والخامس عشر من
كانون
الثاني 2008)، أفضى إلى تنويع ثقافي ولغوي، على الرغم من أن الحبكة معقودة
على رجل
أعمال واحد ووريثه السرّي وامبراطوريته الأغنى في العالم. تنوّعه الفني بين
التشويق
والمطاردة والقتل والتعمّق في عالم المال والأعمال والجرائم والمنافسات غير
الشرعية
والمؤامرات الخبيثة، جعله مؤطَّراً في نسق سينمائي متكامل، برع مخرجه في
إمساك
تفاصيله الشكلية والحكائية، من دون أن تبلغ القصّة وتفاصيلها حدود الاختلاف
عمّا
صنعته أفلامٌ عديدة اتّخذت المادة نفسها محوراً لبنيتها الفنية، علماً أن
إيقاعه
متماسك ومشغول بتقنية جيّدة وجاذبة.
حركة
بعيداً عن المقارنة النقدية بين
الشريط المُصَوّر والاقتباس السينمائي، بسبب عدم قراءة الأول،
يُمكن القول إن
«لارغو وينش» لجيروم سالي فيلم حركة مصقول بحرفية واضحة في
صناعة التشويق، تضمّن
علاقات إنسانية شفّافة وحكايات متفرّقة عن
التبنّي والوحدة والعائلة والتربية
والثراء والأولويات الحياتية والطمع. ذلك
أن المال الوفير يُعمي الأبصار عادة، وقد
يطال البصيرة بسلبياته أحياناً؛ والسلطة التي يوفّرها المال نفسه جديرة
بتضحيات
جمّة يفرضها الطامحون إليها على آخرين، يتسلّقون عليهم لبلوغها. ومزيج
المال
والسلطة «خلطة» عجيبة تفتح أبواب الجحيم عند أول تحوّل خطر، كالموت الطبيعي
لصاحب
الامبراطورية المالية ذات السلطة القوية، فكيف إذا ثبت أن الموت ناتجٌ من
عملية
اغتيال مدروس ودقيق، تمهيداً لإحكام القبضة على هذه الإمبراطورية؟ وكيف إذا
واجه
مخطِّطو العملية ومنفّذوها أنفسهم أمام تحدّيات لم يتوقّعوها، أو أمام ظهور
«الوريث
السرّي والشرعي» بمظهر القوي والذكي والقادر على ردعهم والإيقاع بهم؟ هل
ينجح
الوريث في استلام زمام الأمور، بعد خوضه سلسلة مغامرات وضعته، أحياناً، عند
الحافة
الأخيرة للموت؛ أم يصمد القتلة في تصدّيهم له ودفاعهم عن مشروعهم؟ ماذا عن
التدخّلات الأخرى، والمصالح الجامعة أطرافاً متخاصمين؟ وماذا، أيضاً، عن
المفاجأة
واستعادة الشعور العائلي والحب الانفعالي لدى متخاصِمَين اثنين ربطتهما
سيرة طويلة
عاشاها معاً في ظلّ والدين عطوفين؟
ترسم الأسئلة المختصرة هذه صورة وافية عن
المضمون الدرامي لـ «لارغو وينش»، الذي بدأ
سياقه الدرامي من لحظة تبنّي نيريو وينش (ميكي
مانوجلوفيتش) طفلاً يتيماً يُدعى لارغو، رغبةً منه في تربية وريث يضع يديه
على تلك الامبراطورية التي لا تحجبها الشمس المالية. ولأنه محترف بحفظ
الأسرار،
أودع ابنه بالتبنّي لارغو هذا عند زوجين صديقين له لتربيته، قبل أن يعود
إليه
لتدريبه على كيفية إدارة شؤون الشركات المتداخلة والأسهم الموزّعة في ألف
اتجاه؛
فلم يُدرك أحدٌ من العاملين معه والمساهمين في امبراطوريته أي شيء عن ابنه
بالتبنّي
هذا، باستثناء محاميه السويسري ومساعدته المقرّبة جداً منه آن فيرغسون (كريستن
سكوت
توماس). لكن الصراعات كثيرة: هناك أولاً تمرّد لارغو الشاب (تومي سيسلي)
على والده
هذا، وهناك ثانياً تنامي الحروب الداخلية والصامتة بين أطراف نافذة في داخل
الامبراطورية، وهناك ثالثاً أحلام المُساعدة المقرّبة لنيريو منذ أكثر من
عشرين سنة
الآنسة فيرغسون، وهناك رابعاً رغبة تاجر الأسلحة ميكايل كورسكي (كاريل رودن)
في
ابتلاع «مجموعة دبليو». وهذا كلّه انكشف علناً إثر «الوفاة» المفاجئة
لنيريو، وظهور
اسم الوريث.
تفاصيل
لا شكّ في أن التفاصيل المتشعّبة كثيرة، لكنها مكتوبة
بنسق سينمائي مرتكز على تقنية التشويق
والحركة. فاللقطات الأولى، مثلاً، التي
تُقدّم شخصيات عدّة تلتقي «صدفة» وتفترق
بشكل غامض، محتاجة إلى بعض الوقت كي تكشف
حقيقتها أمام المُشاهد؛ والعلاقات العائلية ومسائل التبنّي والأخوّة تخرج
من
أسرارها قبل النهاية؛ والجرائم المتلاحقة مرتبطة، كلّها، بخطّة فرد واحد
فقط تظهر
صورته على الشاشات الموزّعة داخل القاعة الكبيرة المخصّصة باجتماع أعضاء
الجمعية
العامة، في اللحظات الأخيرة. وهذا كلّه مصنوع بحرفية تشويقية جيّدة، مع أن
الحبكة
كلّها، بتفاصيلها وشخصياتها المستلّة من وقائع العيش في العالم السرّي
للأعمال
والمصارف والشركات التجارية الضخمة، معروفة وعادية ومكرّرة، وهي لا تخلو من
نقد
مبطّن (وإن لم يكن مباشراً) للسياسات الاقتصادية الخاصّة بالشركات
العملاقة، ولا
تتغاضى عن نظرة غربية آنيّة إزاء الصين كحيّز للنشاط الاقتصادي العالمي في
المستقبل
القريب، بدت (هذه النظرة) كأنها انعكاس لواقع حقيقي يتفاقم حالياً في
الغرب، عند
أصحاب الشركات والرساميل الضخمة، نقلته أفلام سينمائية عدّة في الآونة
الأخيرة،
بأشكال متفرّقة.
في المقابل، فإن الأداء التمثيلي للغالبية الساحقة من الممثلين
مال إلى نمط من التصنّع والمبالغة لدى
البعض، وإلى شفافية واضحة في إظهار المكامن
النفسية والروحية والعصبية الخاصّة بالشخصيات لدى البعض الآخر. ذلك أن
انتقاء هؤلاء
بدا، لوهلة أولى، متطابقاً ومعالم الشخصيات المتنازعة فيما بينها، أو
متجانسة
والسياق العام للحبكة الدرامية. غير أن الأبرز في هذه المسألة مرتبط
بالمناخ
المستلّ من عمق الشريط المصَوّر، إذ اقترب الممثلون والممثلات، إلى حدّ
بعيد، من
الملامح المرسومة أكثر من اقترابهم من تلك الشخصيات التي تُكتب خصيصاً بنصّ
سينمائي
مبتكر. كأن الأمر مقصودٌ تماماً، لأن صانعي الفيلم ارتأوا إشعار المُشاهد
بأن ما
يراه على الشاشة الكبيرة اقتباس لشريط مُصَوّر انتقل إلى السينما من دون أن
يتخلّى
عن سماته، ومن دون أن يبقى خارج «الابتكار» السينمائي معاً.
يُعرض الفيلم،
بدءاً من بعد ظهر اليوم، في صالات «غراند أ ب ث« (الأشرفية) و«غراند
كونكورد» (فردان)
و«غراند لاس ساليناس» (أنفة)
السفير اللبنانية في
18/06/2009 |