فلم القارئ "The
Reader" إنتاج 2008، مقتبس عن رواية الألماني بيرنهارد شلينك بنفس الاسم.
ففي نيسانِ 1998، اشترت شركة أفلام
Miramax حقوق الروايةِ التي صدرت عام 1995، في أيلولِ 2007 تمَّ اختيار
المخرج ستيفن دالدري والممثلَ رالف فينيس بدور مايكل بيرج الرجل،
والبريطانية كيت وينسلت بدلاً عن نيكول كيدمان التي اعتذرت في كانون
الثّاني 2008، بسبب حملِها الأخير وترشَّحَت وينسلت عن دورها في هذا الفلم
لجائزة أوسكار أفضل ممثلة 2008، وفازت كمحاولة تكررها أكاديمية أوسكار
لأسطرة محرقة اليهود.
أيُّهما الأهم ما نشعر به، أو نفكر به، أم ما يجب أن نفعله؟ هل هناك
انتصارات عظيمة بدون آلاف القتلى من الأطفال والشيوخ والنساء؟ فضلاً عن
الجنود الذين إذا لم يقتلوا في الحرب فسوف يحاكمون غداً في الدنيا لأنَّهم
مجرمو حرب، وفي الآخرة تنتظرهم جهنَّم ولن ينفعهم الاعتذار بالجهل بالقانون
لا في قوانين الأرض ولا السماء، ومؤخرا دعا المستشار هولمت كول قبل انتهاء
ولايته الأخيرة برلمان ألمانيا لمناقشة مقولة كورت توخولسكي (1890- 1935)
"الجنود هم قتلة" هذا الفيلسوف صاحب قصة "من أين تأتي الثقوب في الجبن" من
مجموعة قبو البصل. هل الأميَّة عار؟ هل من السهولة تصديق أنَّ بطلة الفلم
هروباً من الاعتراف بعار الأميَّة تعترف بقتل 300 امرأة؟ وتخاذل البطل
مايكل في إنقاذ حبِّه الأول في إخفاء شهادته بأنَّها لا تجيد القراءة
والكتابة، خوفاً من احتقار الجمهور الذي كان يصيح كلما دخلت هانا: "نازي
نازي". لا شك في أنَّ معظم الجمهور كان من اليهود، لأنَّ الشعب الألماني
كان (كلُّه) نازياً، كما كان الشعب العراقي (كلُّه) بعثياً.
وجبن مايكل وتنصله من مسؤوليته الأخلاقية عبر اخفائه لشهادته التي قد
تخفف الحكم عليها، تدفع مايكل لكي يمضي باقي حياته في التكفير عن ذنبه
وإظهار استمرار حبه لها ووفائه لعلاقته بها،عبر تسجيل الكتب التي سبق
وقرأها لها بصوته على أشرطة كاسيت، وإرسالها لها إلى السجن لتتمتع بسماعها،
وتعيد هي علاقتها به، منتقلة بها من حالة السلبية التي طبعتها طوال الفترة
الماضية، إلى حالة الايجابية والمشاركة، عبر تعلمها القراءة والكتابة،
وإرسال الرسائل له.
الكبرياء بداية السقوط والعنصرية المَقيتة، نصَّت قوانين الرومان أنَّ
غير الرومان مجردون من جميع ما يتمتع به الرومان من حقوق، لأنَّهم لم
يخلقوا إلا ليكونوا رقيقا للرومان، واليهود اعتقدوا أنهم شعب الله المختار،
وبقية الشعوب الأخرى خلقوا لخدمتهم، وبعض الشعوب الغنية اليوم ترى أنَّهم
أكمل شعبٍ، وعلى بقية الشعوب أنْ يخدمونهم. وهكذا صار الناس قسمين الأشراف
الذين يعتبرون فوق القانون والعبيد الذين من أجلهم وضعت القوانين.
عقدة الفيلم الأولى حول هانا شميث عام 1944 بصفة حارسة في قوات
النخبة، كانت تحرس معسكرات اليهود في ألمانيا، وفي أثناء نقلهم اضطروا
للتوقف قرب قرية، فأدخلوا السجينات إلى كنيسة احترقت من جرَّاء قصف قوات
التحالف، وبعد مشاورات طويلة اتفقت الحارسات على عدم فتح باب الكنيسة، على
الرغم من أنَّ النساء اللاتي كنَّ في داخلها يحترقن، وقالت هانا في المحكمة
أنَّها لم تفتح الباب لأنَّها "كانت تخشى من الفوضى التي ستحدث"، وأن
السجينات سيهربن، ومن الصعب السيطرة عليهن، وفيما لو هربن فإنَّ القانون
سيحكم على الحارسات بالإعدام، قالت هانا للقاضي: "ماذا كنت ستفعل أنت؟".
إذا لم تُنفِّذ الأوامر سيقومون بإعدامك، وإذا قمت بتنفيذها بدقة وإخلاص
سيعدمونك أيضاً، فماذا يمكنك أن تفعل؟
عقدة الفيلم الثانية قصة حب بين هانا شميث سيدة في الثلاثينات وصبي لم
يجتز الخامسة عشرة مايكل بيرج الذي قام بدوره شاباً ديفيد كروس،
يشعر الاثنان بعقدة الذنب، لأنَّهما يعرفان أنَّهما يستمعان للوحش الذي
بداخلهما ويطيعانه طلباً للذة الجسد الآنية. قرأ لها الأوديسة والحرب
والسلم والسيدة صاحبة الكلب، مرةً في شقتها بداية علاقتهما، ومرة سجَّلها
في كاسيتات وأرسلها إليها في السجن، لتتعلَّم هي بدورها القراءة والكتابة
بعد استعارة الكتب المقروءة من مكتبة السجن، ومقارنة الصوت برسم الكلمة.
الفكرة المزدوجة:
لهذا الفيلم فكرتين الأولى ترسيخ عقدة الذنب في ضمير الشعب الألماني
الذي لا زال يدفع التعويضات لليهود بسبب محرقة ينكرها الرئيس الإيراني
ويعترف بها الشعب الألماني، عشرات الملايين ذهبت ضحية الحرب العالمية
الثانية، لكن ضمير العالم لا يبكي إلا ضحايا اليهود الذين لم يتجاوزوا
الألف ربما، بسبب الآلة الإعلامية اليهودية التي استطاعت أسطرتها باعتبار
اليهود شعب الله المختار، يقول الباحث الفيزيائي الفرنسي روبرت فوريسون
الذي تعرض لأربع محاولات اغتيال "إن أسطورة غرف الغاز النازية كانت قد ماتت
يوم 21/2/1979 على صفحات جريدة اللوموند عندما كشف 34 مؤرخ فرنسي عجزهم عن
قبول التحدي بصدد الاستحالة التقنية لهذه المسالخ الكيمائية السخيفة.. خلال
التاريخ عرفت الإنسانية مائة محرقة حافلة بخسائر رهيبة بالأرواح وكوارث
دموية، ولكن معاصرينا تعودوا أن يتذكروا واحدة فقط: محرقة اليهود، حتى
أصبحت كلمة "المحرقة" تخص اليهود فقط، دونما حاجة إلى القول: محرقة اليهود.
ولم تؤدِ أية محرقة سابقة إلى دفع تعويضات مادية تشبه تلك التي طلبها
ونالها اليهود لقاء كارثة المحرقة التي يصفونها بأنها فريدة من نوعها وغير
مسبوقة وهو الأمر الذي كان يمكن أن يكون صحيحاً لو كانت عناصرها الثلاثة:
"الإبادة المزعومة لليهود، غرف الغاز النازية المزعومة، الملايين الستة من
الضحايا اليهود المزعومين" حقيقية..ولم يتمكن أحد، في معسكر اعتقال أوشفيتز
أنْ يرينا عينة واحدة من هذه المسالخ الكيميائية، ولم يستطع أحد أن يصف لنا
شكلها الدقيق وطرق تشغيلها، ولم يكشف أثر أو ملمح واحد لوجودها. لا توجد
وثيقة واحدة ولا دراسة واحدة ولا تصميم واحد لها. لاشيء! لا شيء سوى دلائل
عَرَضيَّة مثيرة للشفقة... أحياناً، كما في معسكر أوشفتز، تعرض على السياح
غرفة غاز أعيد تركيبها، ولكن المؤرخين، وسلطات متحف أوشفيتز أيضاً، يعرفون
جيداً، على حد قول المؤرخ الفرنسي المعادي للمراجعين أريك كونان: "أن كل
شيء فيها مزيف".
وعقدة الفيلم الثانية تبدأ في الدقيقة 54 من الفيلم مع مقولة أستاذ
مادة القانون الجنائي في جامعة برلين "أشكُّ في أنَّ الذين يقتلون الآخرين
يميلون إلى الاعتقاد بأنَّهم يقومون بعمل خاطئ" إيلانا ماذر إحدى الناجيات
من المحرقة تقول بأنَّهن ست حارسات احتجزن 300 امرأة يهودية، والحارسات
يقمن بشكل دوري باختيار ستين امرأة كل شهر لإرسالهنَّ إلى أوشفيتز، يسألها
القاضي:
- هل كنت تدركين أنَّك ترسلين النساء اللاتي تختارينهنَّ إلى الموت؟
- نعم لأنَّه كانت هناك دفعات جديدة تصل طوال الوقت، لذا يجب على
القديمات أن يخلين المكان للجديدات، لم نستطع الاحتفاظ بالجميع، لم يكن
هناك مكان يكفيهن.
- لكي تفسحي المكان: تقولين أنت وأنتِ يجب أن تقتلن.
- حسناً ماذا كنت ستفعل أنت؟ كنَّا ننفِّذ الأوامر.
في الدقيقة 64 أحد طلبة القانون يقول "ثمَّة أمر مقزِّز في المسألة،
ما الذي نحاول أن نفعله؟ ست نساء حبسن 300 امرأة في كنيسة احترقت جرَّاء
القصف وتركنهنَّ يموتنَّ، بدأت وأنا اؤمن بتلك المحاكمة، اعتقدتُ أنَّها
عظيمة، والآن أعتقد أنَّها مجرَّد انحراف، لأنَّ إحدى الضحايا ألَّفَت
كتاباً نقوم بمحاكمة ست نساء عن جرائم في معسكرات حرب، هل تعلمون كَمْ كان
عدد المعسكرات في أوروبا؟ يتساءل الناس عن قدر المعرفة التي يحملها كلٌّ
منا. الآلاف هذا هو العدد الآلاف من المعسكرات، الجميع يعرف". لكن ما عدد
المذابح والمحارق التي تعرَّضَ لها اليهود عِبْرَ التاريخ؟ كم مرة طردوا
وقتلوا وصودرت ممتلكاتهم من إنكلترا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا ولماذا؟
المحرقة أفسدت العالم ولم تجعله أكثر أمناً، قتل الإنسان جريمةٌ لا
تُغْتَفَرْ سواء كان يهودياً أم غير يهودي، وهذا الفلم يسلِّطُ حزمةً من
الضوء الخافت على حكاية الجيل الألماني المحكوم بعقدة ذنب العيش في كنف
النازية، أو المشاركة في بعض ما اقترفته من أفعال، وخاصة بالنسبة لإبادة
اليهود، كعقدة الذنب للشعب العراقي الذي يحتمل ذنوب مجازر حكَّامه عبر
التاريخ، وشبهة الانضمام إلى القاعدة في مطارات العالم كافة.
يريد الفيلم أن يذكِّر بالبراءة التي باتت تفتقدها شعوب الغرب في صورة
تجربة: لو أنَّ شاباً ما ذاق طعم جسد المرأة إلا بعد الزواج- وهو الأمر
الطبيعي الذي يجب أن يحدث- فإنَّهُ سيحبُّ زوجته حبَّاً جمَّاً يكفل لهما
حياةً سعيدة، فالشاب مايكل في علاقته الجسدية مع قاطعة التذاكر قاسية
الملامح، لشهور الصيف فقط، يكتشف رجولته أول مرَّة، ويتخلَّص من حبِّ
والديه إلى الأبد، حتى أنَّه يرفض حضور جنازة والده، ويظلُّ أسير لحبِّ
هانا حتى نهاية حياته، ويفشل في حياته الزوجية، ويفشل كوالد أيضاً، كلُّ
هذا بسبب الصدمة التي سببتها له هانا بهجره دونما سبب، لتظهر بعد سنوات
كمتهمة بالقتل لانخراطها في قوات النخبة النازية السينمس، وهذا الانخراط
ربما كان جبراً، وتعترف بكتابة تقرير مغلوط عن الحادثة، على الرغم من
أنَّها لا تعرف القراءة والكتابة.
أربعة أجيال وأربعة عصور: الأول حاضر عام 1995، والثاني ذاكرة مايكل
عام 1958 في أول لقاء بهانا 1958، الثالث زمن محاكمة هانا بعد 22 سنة من
انتهاء الحرب العالمية الثانية 1966، والرابع عند قرار عند قرار إطلاق
سراحها وشنقها لنفسها عام 1988، في هذه الأزمنة لايكتفي الفيلم بتصوير قصة
الحب التي جمعت هانا ومايكل، بل يصور أثر هذا الحب في شخصيات تبعثرت
واهتزَّت نظرتها إلى العالم، مع رؤى عميقة حول ما فعلته النازية بالبشر،
وكيف كان المنخرطون فيها أوَّلُ ضحاياها.
هانا: امرأة ألمانية عادية في الخمسيناتِ تعمل في شركة سيمينز
المعروفة بدعمها للنازية، والتي تنقل من هذه الشركة بسبب انضباطها العالي
إلى قوات النخبة النازية، التي اعترف مؤخرا غونتر غراس بانضمانه إليها
شاباً، ولكن لا أحدَ يسأل: هل كان بإمكانها رفض أمر النقل؟ كان الجميع
يعتقد جازماً أنَّ هذه القوات للدفاع عن ألمانيا ضد الأخطار الخارجية.
تعمل كقاطعة تذاكر في السكك الحديد الألمانية تُساعدُ شاباً مريضاً
بعمر 16 سنةً للوصول إلى إلى بيتهِ، عندما ليشكرها تغويه، ويستسلم هو
لغوايتها، ليبدءان صيفاً ساخناً من الحب، لم يعرف بعده سعادة، أمَّا هي
فتنقطع عنها الكاميرا، بعد أن تقرِّر إنهاء العلاقة. الفلم يستغلُّ عقدة
الشعور بالذنب التي يعانيها الألمان المُعاصرون جرَّاء انخراط أسلافِهم
وتعاونِهم مع الأعمال الوحشية للنازية. فَيُظْهِرُ كيفَ أنَّ هذه النازية
قد أفسدت حياة مراهق، وتلاعبت بمشاعره.
هوس مايكل بهانا يفقده القدرة على معايشة أيَّة تجربة حب حقيقية،
فيفشل زواجه، ويظلُّ بعيداً عن ابنته الوحيدة، تنتحر هانا قبل يوم واحد من
إطلاق سراحها، وتوصي ببعض المال إلى الحفيدة التي شهدت ضدَّها كنوع من
التخلُّص من عقدة الذنب، ولكن هانا لم تظهر ولا في مشهدٍ واحد أنَّها نادمة
على ما فعلت، وهي تظنُّ كما ظنَّ سقراط بأنَّ لم يفعل في حياته إلا يعتقده
صواباً، مايكل يَدْفنُها في المقبرة، يأخذ ابنته ليبدأ قصّ حكايته مع هانا
ويُعيدُ بناء علاقاته، مال هانا موجود في علبة الشاي، في الدقيقة 105 يذهب
لتنفيذ وصية هانا إلى مسكن السيدة ماذر في الولايات المتحدة، ماذر كانت
صغيرة مع جدتها في ذلك المعسكر الذي كانت هانا تعمل فيه كحارسة، لم تعامله
كضيف باحترام، بل حاولت إهانته.
" ما الذي جاء بك؟
- جئت لحضور مؤتمر في بوسطن.
- هل حضرت المحاكمة؟
- نعم كان ذلك قبل عشرين سنة، كنت طالباً في القانون، أتذكر جدتك بشكل
جيد.
– جدتي ماتت في إسرائيل منذ سنوات عديدة.
- ربما علمت أنَّ هانا شميتز ماتت مؤخرا، قتلت نفسها؟
- كانت صديقة لك؟
- ليس تماماً.
- المهم في الأمر أنَّ هانا كانت أمية أغلب حياتها ولم تتعلم القراءة
والكتابة إلا في السجن.
– هل هذا تبرير لتصرفاتها؟
- كلا.
– لماذا لا تبدأ بأن تكون أميناً معي؟
ما هي طبيعة الصداقة بينكما؟
لست متأكدة من قدرتي على مساعدتك سيد بيرج، وبالأحرى لو كان بوسعي فلا
أعتزمُ ذلك. – كنتُ في السادسة عشرة عندما تعرفت عليها ودامت العلاقة صيفاً
واحداً فقط.
– وهل فهمت هانا شميتز التأثير الذي أحدثته في حياتك؟
- لقد فعلت ما هو أسوأ للآخرين.
– ما الذي تطلبه المغفرة لها، الراحة لنفسك، اذهب إلى المسرح
لتتطَّهر. أنت تبحث عن أشياء كالغفران وهو الشيء الذي لا أعتزم القيام به.
هناك مؤسسة لكل شيء. اعط المال لمؤسسة مكافحة الأمية رغم أنَّ اليهودية
ليست عادة يهودية متأصِّلة."
هذه العنجهية والكبرياء التي ظهرت بها العجوز اليهودية ربما كانت
الحقيقة الساطعة التي أرادَ الفلم إيصالها للمتلقي، وتتصرَّف مع مايكل
بكبرياء واستعلاء لا مثيل له، وتقول هذه العلبة كانت لها مثلها، لكن كان
عليها حروف سلافية، والحارسات أخذنها منها، ولهذا فهي ستحتفظ بالعلبة
القديمة فقط كرمز للمحرقة، التي لن تكتفي بأية تعويضات مهما كانت. مشاهد
فاضحة أثَّرت على الفيلم، لكن هل توقفت الإبادة الجماعية؟ علي حسن المجيد
حين بدأ دفاعه قال "مجزرة حلبجة جريمة يندَى لها جبين الإنسانية، والله
يجازي الذي كان السبب" ولم يقل الله ينتقم ممن قام بهذا العمل الوحشي.
وحدثت في البوسنة وفي راوندا 1990 مذابح وإبادة جماعية، وفي العراق تحدث كل
يوم، وفي فلسسطين، ودارفور، والكثير من المذابح الأخرى التي لا تغطِّيها
أجهزة الإعلام.
إيلاف في
16/06/2009 |