شاهدت الأسبوع الماضى فى عرض خاص بنقابة الصحفيين الفيلم الوثائقى "هى
أشياء لا تشتري" وهو التجربة الأولى فى الأفلام التسجيلية للزميل الإعلامى
سمير عمر، الذى نجح بتميز كبير واستطاع على مدى 88 دقيقة أن يستحوذ على
مشاعرى ـ وكل من فى قاعة العرض ـ ويجذب انتباهى طوال مدة عرض الفيلم، لدرجة
أننى لم أشعر بمرور الوقت.
ينطلق الفيلم من مقولة جاءت على لسان رئيسة وزراء الكيان الصهيونى السابقة
جولدا مائير حول رأيها فيما يسمى بالتسوية والسلام عندما قالت: "التسوية هى
أن أذهب لأتسوق من الموسكى فى القاهرة، وسوق الحميدية فى دمشق"!.
ثم انطلق سمير عمر ليبحث من خلال فيلمه فى مدى صحة المقولة وتحققها على أرض
الواقع، فى مصر، واستطاع ببراعة مدهشة لصانع الفيلم الأول، أن يؤكد من خلال
عشرات التفاصيل واللقاءات العديدة، أن هناك فارقا كبيرا بين الرأى الرسمى
والرأى الشعبى، لتؤكد الأحداث واحدا تلو الآخر أن المبدأ ثابت إلى حد كبير
على مدار أكثر من ثلاثين عاما منقضية.. مع بعض الاستثناءات لبعض من سقطوا
فى الرحلة ضد التطبيع، بدواع شخصية سعيا وراء مكاسب ومصالح ذاتية ليس أكثر،
مستعرضا بعض النماذج التى شذت وهرولت بثمن بخس!!
فى الوقت نفسه نجح الفيلم فى التأكيد على مفهوم الرفض والأسباب التى يتمسك
بها أصحاب المبدأ الثابت، من خلال استعراض العديد من النماذج الرافضة
للتطبيع، سواء أفرادا أو هيئات أو نقابات، أستعرض عددا منها، غير أننى أذكر
هنا تحديدا نقابة المهن التمثيلية ونقيبها د.أشرف زكى، من بين ما جاء
بالفيلم، ذلك لأن نقابة المهن التمثيلية بالفعل هى النقابة المهنية الوحيدة
التى التزمت بقرار المقاطعة وعدم التطبيع بشكله الصارم دون تنازلات أو
اعتبارات لأشخاص بعينهم دون غيرهم، بل طبقت القرار على الجميع، كبيرا
وصغيرا، لذ كانت هى النقابة الوحيدة التى طبقت قرار الفصل على أحد أعضائها
وهو الكاتب على سالم، ليصبح منبوذا نقابيا وثقافيا، فى الوقت الذى لم تتخذ
نقابات أخرى مواقف مماثلة من بعض أعضائها الذين اخترقوا القرار ولم تطبق
عليهم أية عقوبات، وللأسف فى مقدمتهم نقابة الصحفيين، التى جاء ذكر نقيبها
الحالى الأستاذ مكرم محمد أحمد والدور الذى لعبه فى قضية سليمان خاطر قبل
استشهاده فى السجن، وكيف مهد الأستاذ مكرم لذلك على صفحات مجلة المصور وقت
أن كان رئيسا لتحريرها!!
كما قدم الفيلم نماذج أخرى تفتح باب التطبيع على استحياء تحت دعاوى ومبررات
عديدة، مشيرا إلى وزارة الثقافة التى "كانت" تقف بالمرصاد ضد التطبيع،
مستشهدا بمواقف مختلفة سواء من خلال مهرجان القاهرة السينمائى والمحاولات
العديدة لاختراقه لولا جهود وإصرار وعزيمة رئيسه آنذاك الكاتب الراحل سعد
الدين وهبة، واستمراره على هذا المبدأ حتى رحيله، ولم يكن أمام من خلفوه
إلا الانصياع للمطلب الشعبى ومطلب الغالبية العظمى من الفنانين والمثقفين،
وهو ما جاء على النقيض للواقع الحالى لما يحدث الآن فى وزارة الثقافة، وهذه
النقطة تحديدا أكد سمير عمر أنه صنع فيلمه قبل أن تتلاحق كوارث وزارة
الثقافة وبداية الهرولة بمجرد ظهور كرسى اليونسكو فى الأفق، عندما بدأت
أشكال عديدة من التطبيع، ليس أولها دعوة الموسيقار الإسرائيلى دانيال
بارنبويم، وكما أنه واضح أنها لن تكون الأخيرة، خاصة بعد اعتذار وزير
الثقافة بشكل رسمى للكيان الصهيونى وما بدر منه تجاهه فى صحيفة لوموند
الفرنسية، ثم مؤخرا تصريحه أثناء وجوده فى باريس فى إحدى جولاته للترويج
لنفسه على كرسى اليونسكو وتصحيح وجهة نظرة حول الآخر، مصرحا بأنه سيقوم
بترجمة كتب إسرائيلية فى المركز القومى للترجمة الذى يرأسه د.جابر عصفور،
وحتى يجمل د.جابر الموقف أكد أن ذلك سيتم من خلال لغات وسيطة، أى ترجمة كتب
انجليزية أو فرنسية مترجمة بالأساس عن العبرية، كنوع من التحايل على الموقف
والترجمة من العبرية بشكل مباشر، وهى كارثة تطبيعية جديدة جلبها علينا كرسى
اليونسكو، ولا نعرف إلى أين سيأخذنا، مع العلم أن هيئة قصور الثقافة سبق
لها أن ترجمت أحد الكتب الإسرائيلية للكاتب ديفيد جروسمان، بعنوان "الزمن
الأصفر" وسيتم إعادة طباعته بعنوان "الريح الصفراء" ضمن المشروع الذى تحدث
عنه وزير الثقافة وأقره د.جابر عصفور!!.
نعود لفيلم سمير عمر حيث قدم لقطات تسجيلية نادرة للشاعر الكبير الراحل أمل
دنقل فى فترة مرضه الأخيرة، وصاحب اللقطات عرض لتسجيل نادر أيضا لقصيدة "لا
تصالح" بصوت الشاعر الراحل، ومحاولة إخراجها بتكنيك متميز بعرض العديد من
صور المذابح والاعتداءات لمن يريدوننا أن نتصالح ونتصافح ونطبع معهم، كما
قدم ثلاثة نماذج مشرفة فى الوطنية المصرية هى سعد حلاوة وسليمان خاطر وأيمن
حسن، كما استعرض صور الرفض على صوت الرائع محمد منير، وختم بقصيدة للفاجومى
تحذر بأن الخطر مازال قائما.. والرفض لا يزال مستمرا.
ويحسب لفيلم سمير أنه حقق الموضوع من كافة الأوجه.. وعلى كافة المستويات
تقريبا.. وإن كان قد خلط فى تكنيك تنفيذه بين أكثر من شكل، حيث استخدام
مشاهد تمثيلية فى الفيلم وهو ما يحيله إلى نوع آخر من الأفلام يطلق عليه "ديكو
دراما"، ثم إدخال مشاهد جرافيك ـ تم تنفيذها بشكل ضعيف إلى حد كبير ـ فيما
يخص عملية أيمن حسن، وعملية "ثورة مصر"، وهذا تحديدا ربما يكون ما أضعف هذه
المشاهد.. وكان يمكن الاستعاضة عنها بالصور الفوتوغرافية كما فعل فى العديد
من المواقع الأخرى فى الفيلم، أمام ضعف إمكانيات الجرافيك.
ومع ذلك نجد أنفسنا فى النهاية أمام عمل جاد متميز به جهد غير عادى تكاد
تختفى منه أخطاء التجربة الأولي.
العربي المصرية في
16/06/2009 |