الشكلية الروسية تعد من أهم المدارس النقدية الأدبية في العصر الحديث، ومن
بين أهم المبادئ التي أفرزتها هو مبدأ
Ostraneine..
وترجمته هي «إضافة الغرابة» أو «التغريب»، وهو المصطلح الذي أطلقه أحد أهم
منظِّري الشكلانية الروسية فيكتور شكلوفسكي. أطلق شكلوفسكي هذا المصطلح في
صدد حديثه عن واحد من أهم المبادئ التي طرحها، وهو التفريق بين معالم
الإدراك الجمالي والإدراك الأوتوماتيكي.
فشكلوفسكي يرى أن العادة تحكم الفن، وتتحكم برتم الجماليات التي تقدمها،
لأننا كمبدعين ومتلقين على حد سواء نعيش في عالم غلبت عليه العادة، وخالطته
الألفة، لدرجة أننا لم نعد نميز فيه فرادة كثير من الأشياء الاعتيادية التي
تحدث من حولنا، إذ تتكدس هذه الصور المتفرقة مع مرور الوقت في مدارك
اللاشعور، مما يجعلنا ندركها بشكل «أوتوماتيكي»، ولا نبحث في أعماقها. فهو
يقول كما نقل ديفيد لودج «التعود يلتهم الأعمال والملابس والأثاث والزوجة
والخوف من الحروب... والفن موجود كيما يتمكن المرء من استعادة الإحساس
بالحياة، إنه يوجد كيما يحس المرء بالأشياء كما تُحس، وليس كما هي
معروفة!». وبالتالي يجب أن يتم إضفاء الغرابة على الأشياء الموصوفة حتى
تكتسب من جديد إدراكا جماليا، نبتعد من خلاله عن إدراكنا الأوتوماتيكي لها،
ويمنحنا فرصة لرؤيتها متجردة عن الصورة المألوفة التي اعتدنا عليها. فزحمة
السيارات في طريق صغير هي صورة طبيعية ألفناها جميعا، ولذا يجب على الكاتب
أن يصفها بطريقة غريبة، وأن يحاول إزالة الألفة عنها كي نشعر بها من جديد،
وأن «نحس بها كما يفترض بها أن تُحس، وليس كما هي معروفة». وهنا يشاطره
الرمزيون وبعضٌ من الحداثيين الذين يركزون على تشظي المدلولات اللغوية في
وصف الصور المتداخلة، إيمانا بأن الفن عبارة عن اختراقٍ متواصل في
اللامتناهي.. ولكن مبدأ إضافة الغرابة يختلف بأنه لا يهتم بالصور المتشظية
التي تخلط المدلولات اللغوية، بقدر ما يهتم بإعادة تركيب الصورة في شكلها
الطبيعي وإدراكها الجمالي.. لا الأوتوماتيكي. وهنا تبرز التعبيرية كمبدأ
يتبنى تعديل الصور والأبعاد وإضافة الغرابة على الشكل العام للصورة.
فالتعبيرية السينمائية ـ التي ولدت من رحم تعبيرية الفن التشكيلي ـ على يد
الألمانيين روبرت واين وفريدريك مورناو وفريتز لانج تعتمد اعتمادا كليا على
تصوير الحياة كما هي ولكن بشكل معدل ومشوه يتماشى مع منظورهم الخاص للجمال.
فالمنهج التعبيري أساسا يتلخص في مقولة الرسام التعبيري بول كيلي الشهيرة
(لا ينسخ الفنُ ما يُرى.. وإنما يجعل «ما لا يُرى» يُرى(!!. بمعنى أنه
يستخدم التشويه لإضفاء فرادة على الصور الحقيقية، بغية إحداث تأثير عاطفي
وانفعالي لا تكشف عنه الصورة في شكلها الطبيعي، كأن يُعدل الأبعاد ويجعلها
مائلة ومشوهة، ويتلاعب بالديكورات والخلفيات والألوان لتضفي إحساسا غرائبيا
على ظاهر الصورة يكشف عن عمق مضمونها. وهو ما قام به ممثلو التعبيرية في
السينما، واين ومورناو ولانج وغيرهم، فقد اهتموا بنقل مبادئ التعبيرية
تأثرا منهم بدراساتهم للفن التشكيلي والمعماري، واعتمدوا في جُل أعمالهم
على أساليب التعبيرية التشكيلية في إضفاء الغرابة بتعديل وتشويه كثير من
معالم الفيلم المكانية والشكلية والشخصية.
هنالك أيضا المخرج والكاتب الإنجليزي المميز تيري غيليام، المنتمي في
بداياته إلى الفرقة التلفزيونية والسينمائية العظيمة «مونتي بايثون». فقد
اعتمد غيليام في تحفته
Brazil على إضافة الغرابة في أفضل استخداماتها السينمائية في رأيي، وركز على
تشويه وتعديل الأماكن والمحيط والديكورات، لتضفي إحساسا بغرابة المكان
والزمان الذي تتهادى فيه شخصيته. واستطاع أن يحقق أقصى مراتب الإدراك
الجمالي ـ كما أسماه شكلوفسكي ـ عندما تمكَّن من جعل أماكن العمل والعيش
الطبيعية تحتوي على كمية من الحس الغرائبي الفريد بتعديله لكثير من خصائصها
وإضفاء نوع من الطابع الغرائبي عليها دون أن يغيرها بشكل كلي.
وقد كرر ذات التجربة في تحفته الأخرى
Twelve Monkeys
ولكن بشكل أقل تركيزا وإجادة، إلا أنه تمكن رغم ذلك من خلق بيئة غرائبية
بكيفية استخدامه المميز للكاميرا ولوضعيات الزوايا والتصوير واختيار
الديكورات. ومن الأسماء المميزة أيضا في هذا الجانب، يبرز المخرج والكاتب
الأميركي أوليفر ستون الذي يعد أيضا من أميز من استخدم أسلوب إضافة الغرابة
في أفلامه، وتحديدا في ثلاثيته:
Natural Born Killers
و
U Turn وكذلك
Nixon. ولكن ستون لم يستخدمها في الديكورات والأماكن والأزياء وما إلى ذلك،
وإنما استخدمها بطريقة أكثر براعة وأقرب إلى السينما منها إلى الفن
التشكيلي.. وذلك عن طريق المونتاج! ففي
Natural Born Killers قدَّم درسا فريدا في كيفية استخدام المونتاج بطريقة غرائبية تخدم
البيئة العدوانية المتوترة التي أراد ستون خلقها.
فكيفية اختيار زوايا التصوير وتعديل الألوان وتركيب اللقطات في بعضها
بطريقة مربكة إلى أبعد حد؛ جعلت كثيرا من المشاهد تكشف عن كمية توتر
غرائبي. لقد أراد ستون أن يصور الفيلم بطريقة أبعد ما تكون عن المألوف،
طريقة يستطيع من خلالها أن يعكس مدى التوتر والقلق والعنف الذي يتواجد في
القصة والشخصيات والمَشاهد، فتلاعب بها عن طريق المونتاج لتؤدي هذه
النتيجة، وتُحقق بذلك مبدأ الإدراك الجمالي وليس الأوتوماتيكي الذي أشار
إليه شكلوفسكي. وأعاد الكرَّة مرة أخرى في
Nixon
ثم في
U Turn،
ولكن بشكل أقل بكثير، ولا يوازي إتقانه لذات العملية في فيلم
Natural Born Killers... الذي كان للأسف فاشلا في كل شيء آخر!
الشرق الأوسط في
12/06/2009 |