ينتهى فيلم «إبراهيم الأبيض» بمشهد نادر في السينما المصرية، يفجر كل
الطاقة
العاطفية المخزونة طوال الفيلم نحو إبراهيم الأبيض (أحمد
السقا) على رغم أننا
رأيناه طوال الفيلم بلطجياً. يضمه تاجر المخدرات زرزور (محمود عبد العزيز)
إلى
عصابته. لكن إبراهيم يحب حورية (هند صبري) التي تربى معها في شقوق
العشوائيات،
ويطمع فيها زرزور، ويتزوجها رغماً عنها. ويفاجأ إبراهيم عند
خروجه من السجن بزواج
حبيبته من زعيمه، واستيلائها على مدخراته من مخبئها، فيثور عليهما. يريد
زرزور أن
يؤدبه فيعد له كميناً. وحين تصل حورية إلى موقع الكمين ترجو زرزور أن يترفق
بإبراهيم وألاّ يقضي عليه. لا يرضى زرزور عن تصرفها فيطلق
عليها رصاصة. ويتقدم
إبراهيم وهو مثخن بالجراح ليحمل حورية بين يديه ثم يقعد بها على الأرض
مستنداً على
حائط لتلفظ آخر أنفاسها وهي في حجره. ثم تقترب منه الكاميرا ليبقى وجهه
وحده في
الكادر لافظاً أنفاسه الأخيرة أيضاً.
نهاية أشبه بنهاية المأساة الشكسيبيرية للحبيبين «روميو وجوليت»، ولكن كما
تصنعها العشوائيات المصرية. واللقطة الأخيرة التي تثبت على وجه
إبراهيم، تدعونا إلى
استرجاع حياة إبراهيم وتأملها، وهو ما يثير الشفقة في نفوسنا على هذا الشاب
الجميل
المقتحم الشجاع الذي رأى في صباه مقتل أبيه، وفرضت عليه البيئة العشوائية
قوانينها
«القدرية»
التي شوهت نفسيته وأفسدت حياته، كما تفعل ببقية أهلها.
وصول صعب
غير أن هذا الشعور الإنساني النبيل نحو مأساة إبراهيم الأبيض، وما قد يتبعه
من
مشاعر إنسانية أخرى تنسحب على أهل البيئة العشوائية الذين
وضعوا تحت ظروف قهرية
تحدد مصيرهم، لا أظنه يصل إلى المشاهد إلا بجهد خاص من جانبه. لا بأس! ولكن
ما يعوق
هذا الجهد هو هذا الكم الهائل من المطاردات والمعارك الدموية التي امتلأ
بها الفيلم
أتى على حساب القصة الإنسانية المنسوجة برهافة. فقد سرقت هذه
المطاردات والمعارك
غالبية الوقت، وكانت من المهارة التقنية بحيث تقطع أنفاس المشاهد، وتستهلك
مشاعره
حتى لا يبقى للقصة ما يكفي لإدراكها فضلاً عن تأملها وسط هذا الصراع العنيف
والدماء
المهدرة.
ولكنني أرجو ألا يقلل هذا النقد من التقدير الكبير الذي يجب أن يحظى به
فيلم
«إبراهيم
الأبيض» الذي يرتفع بمستواه الفني إلى المستوى القياسي للسينما العالمية.
ويؤكد ما سبق أن بشرنا به بإرهاصات موجة
سينمائية مصرية جديدة تخالف ما سبقها (انظر
كتابنا «السينما الشابة»).
مخرج الفيلم مروان حامد أثبت أنه مخرج كبير منذ أول أفلامه
«عمارة
يعقوبيان».
واليوم يأتي فيلمه الثاني «إبراهيم الأبيض» ليؤكد أنه كذلك. والفيلمان يجمع
بينهما
همّ واحد، هو الكشف عن عوامل الفساد في المجتمع المصري. وان اختص الأول
ببيئة
الطبقتين الوسطى والعليا في المجتمع، واختص الفيلم الثاني
بالطبقة الدنيا من أهل
العشوائيات. وإن كانت الرسالة الاجتماعية تبدو أوضح في الأول فيحسب ضد
الثاني
اختفاؤها وراء البناء السينمائي للفيلم حتى لا تمتنع عن المشاهد متعة
الفرجة!
في المقابل يحسب لهذا الفيلم الثاني أنه أكثر سينمائية بعد أن تخلص مروان
حامد
من المسحة الأدبية التي علقت بفيلمه الأول وكان مصدرها
الارتباط بعمل أدبي. في
الفيلم الثاني الذي كتبه للسينما مباشرة عباس أبو الحسن لا نجد مشاهد
حوارية طويلة.
ونكاد لا نجد فيه مشهداً واحداً يقترب من
المشاهد المسرحية التي نعهدها في أفلام
أخرى. في الفيلم الأول الحوار ملغم بالدلالة والإسقاطات واللمز
أحياناً، بما يحيلنا
إلى شخصيات نعرفها في حياتنا العامة أو الخاصة. أما الحوار في الثاني فهو
حوار قصير
وبسيط وعباراته لا تحمل إسقاطات تبعدنا عما نراه.
حركة الكاميرا السريعة وحركة الأجسام داخل الكادر والتقطيع المونتاجي
المتلاحق،
تتوافق جميعاً مع نوعية أفلام الحركة التي ينتسب إليها الفيلم،
أكثر من انتسابه إلى
نوعية الأفلام الاجتماعية التي ينتسب إليها فيلمه الأول. وإن كان فيلمه
الثاني لا
يخلو من نظرة اجتماعية، ورومانسية لها طابعها الخاص.
نلمح مظاهر المصرية «الواقعية» في بعض أجزاء الديكور وخصوصاً الأثرية منها،
إذ
تتشابه بقية محتويات الديكور مع مثيلاتها في عشوائيات مجتمعات
الدول الفقيرة. لكن
الديكور الذي أبدعه أنسي أبو سيف، أتى مدهشاً وأتاح للمخرج التعبير عن
الفقر والضيق
والاختناق.
كما نلمح المصرية من المظهر الخارجي للشخصيات. ولكن الأهم ما نلمحه من
مصرية في
حركاتهم ولغتهم الجسدية، وعلى الأخص في أداء محمود عبد العزيز
في دور زرزور ويذكر
هذا الدور بدور مارلون براندو في «الأب الروحي»، ولكن من دون أن يجرح دور
محمود عبد
العزيز الذي يضيف به شخصية فنية جديدة إلى شخصياته الكثيرة التي أبدعها
وأثرى بها
السينما المصرية. وكذلك بدت هند صبري مؤكدة هنا مكانة
«مصريتها» في الفيلم بعد
الآخر.
وإن كنت لا أستطيع أن أمنع نفسي من القول إن الحركة العامة للفيلم وأعني
بالتحديد الإيقاع الذي يقترب من إيقاع أفلام الحركة الأميركية
المماثلة وذلك لغلبة
مشاهد المعارك والمطاردات وطريقة تنفيذها التي تبدو مهجنة تفقدها بعض
مصريتها.
ولكنني أكرر أن هذا الفيلم يستحق التقدير كما يستحق الاحتفاء به وبمخرجه
الشاب
مروان حامد الذي يبشر بميلاد مخرج مصري مميز.
الحياة اللندنية في
12/06/2009
قصة حب في دائرة العنف
القاهرة –
أيمن يوسف
لم تشهد شاشة السينما المصرية من قبل كل هذا العنف وكل هذه الشلالات من
الدماء
التي شاهدها الجمهور في فيلم «إبراهيم الأبيض». هذا الفيلم
الذي يدور موضوعه حول
عالم السلاح الأبيض بقسوته وخشونته، من خلال شخصية إبراهيم الذي يشهد مقتل
أبيه وهو
صغير فينشأ في هذه البيئة ويصبح من أهم وأخطر من يتعاملون بالسلاح الأبيض.
وإبراهيم هذا صديق مقرب هو عشري (عمرو واكد) الذي يشاركه كل معاركه. أما
حبيبته
فهي حورية (هند صبري) الفتاة الجميلة الشجاعة. ومنذ يثب
إبراهيم عن الطوق يتقرب من
العمل في هذه المنطقة من مالك (محمود عبد العزيز) الذي يعجب بشجاعة إبراهيم
ويحاول
أن يأخذه تحت ذراعه، لكن عندما يزج بإبراهيم في السجن يتزوج مالك من حورية
ويخون
عشري صديق عمره. بعد خروج ابراهيم من السجن يتعدى حدوده ويصل
إلى منزل مالك ويتصرف
معه بخشونة وتهديد فيقوم رجال مالك بقتل عشري وإبراهيم، أما مالك فيقتل
بنفسه حورية
التي كانت تدافع عن إبراهيم وتحذره من قتله.
كان يمكن أن يكون العنف في هذا الفيلم أقل مما شاهدناه كان يمكن والدماء أن
تكون
أقل أيضاً، ولا ندري لماذا توجه صنّاع الفيلم اتجاهاً متطرفاً
هكذا نحو العنف
والدماء في حين كان يمكن توصيل الرسالة بقدر أقل من هذا.
ومع هذا تظل في الفيلم أمور جميلة مثل قصة الحب بين إبراهيم وحورية وهي قصة
حب
رومانسية وسط دائرة العنف، كما أن في الفيلم عناصر فنية جيدة
منها مونتاج خالد مرعي
الذي ظهرت قوته في مشاهد المشاجرات، وكذلك كاميرا مدير التصوير سامح سيلم،
والإخراج
القوي لمروان حامد خصوصاً أيضاً في مشاهد المعارك وهروب إبراهيم من
البوليس، ومشهد
القطار الذي جمع إبراهيم بحورية، ولا ننسى ديكور أنسي أبو سيف
الذي نقل لنا هذا
الواقع بصدق، أما المعارك فنفذت بواقعية على رغم أننا لم نشاهد ما يمثلها
من قبل
لكننا نعتقد أنها واقعية من شدة الاهتمام بتنفيذها وتفاصيلها.
وفي هذا السياق لا بد من القول إن أحمد السقا أبدى في الفيلم لياقة بدنية
كبيرة
في دوره كما كان لهند صبري حضور في المشاهد القليلة التي
مثلت فيها، وكذلك سوسن بدر. لكن في النهاية يظل
الحياة اللندنية في
12/06/2009 |