عودة إلى سنوات ما قبل الغزو في «أحلام»... منامات العثور على أخ اختفى في
«حياة ما بعد السقوط»... حكاية اللجوء من منظور نسائي في «عدسات مفتوحة على
العراق»... تجارب سينمائيّة شابة، تتوّجها قصّة حبّ مستحيلة في «فجر
العالم»، شريط عباس فاضل مع حفصيّة حرزي وهيام عباس
المأساة العراقيّة انعكست بقوّة في أعمال سينمائيّة لافتة خلال السنوات
القليلة الماضية. وهي أفلام حققت انتشاراً عربياً وعالمياً. بين تلك
التجارب، نقف هنا عند شريطين روائيين طويلين لعباس فاضل ومحمد الدراجي،
وعملين وثائقيين لكل من ميسون باجه جي وقاسم عبد. يتخذ فيلم «فجر العالم»
من أهوار العراق معبراً لتقديم حكاية حبّ، تتوالى فصولها في ظلِّ حكم صدام
حسين وحرب الخليج الأولى، لتنتهي على مجزرة. الشريط أوّل عمل روائي طويل
للمخرج العراقي ـ الفرنسي عباس فاضل، بعد وثائقيين هما «العودة إلى بابل»
(2002) و«نحن العراقيون» (2004). علاقات إنسانيّة متشابكة، تجعلها المأساة
والحرب أكثر تعقيداً، وتتجسّد في قصّة حبّ مستحيلة بين زهرة، الأرملة
العراقيّة الشابّة، ورياض، صديق زوجها الراحل. الشريط الذي نال جائزة أفضل
فيلم في «مهرجان الخليج السينمائي» في نيسان (أبريل) الماضي، صُوّر في مصر،
وتتقاسم بطولته الفرنسيّة حفصية حرزي («سيزار» أفضل موهبة واعدة في 2008 عن
«أسرار الكسكس» لعبد اللطيف قشيش) واللبناني كريم صالح، والفلسطينيّة هيام
عباس. المنحى الروائي للشريط لا يغفل كونه وثيقةً للمآسي العراقيّة
المتتالية. واقعٌ ينسحب على الكثير من التجارب السينمائيّة العراقيّة
الشابّة التي تتحوّل إلى وثائق تاريخيّة حقيقيّة لحياة أهل البلاد.
في شريطه الروائي الطويل «أحلام» (2005)، تولَّى العراقي الشاب محمد
الدراجي تصوير عراق ما قبل الغزو، وصولاً إلى لحظة سقوط بغداد وبداية
الاحتلال. تعقَّب الدراجي مصائر شخصياته المأساوية، متخذاً من بغداد موقعاً
للتصوير، في شريط تدور أحداثه في الأيام الثلاثة الأولى التي تلت سقوط
بغداد، يرافقها «فلاش باك» يعيد صياغة حياة الأبطال في السنوات التي سبقت
سقوط النظام.
إلى جانب الأعمال الروائية، كانت السينما الوثائقية مشغولة تماماً بعراق ما
بعد الغزو، توثّق حياة العراق، سواء من الداخل، كما هي الحال مع فيلم قاسم
عبد «حياة ما بعد السقوط» (2008)، أو تعاينه من الخارج عبر اللاجئات
العراقيات في سوريا ورحلاتهنّ إلى داخل العراق، كما في فيلم ميسون باجه جي
«عدسات مفتوحة على العراق» (2008). شريط باجه جي ملف ضخم عن العذاب العراقي
بالمؤنث، وخصوصاً أنّه يوثّق لورشة إبداعية في التصوير الفوتوغرافي أدارها
المصور الصحافي يوجين دولبيرغ مع خمس نساء عراقيات من مدن وطوائف وأعراق
مختلفة يجتمعن في دمشق. تتناوب النساء على سرد مآسيهن، وهي نتفٌ من حيوات
اللاجئات ومصائر بشر كثر قضوا أو تشردوا واختفوا في ظروف غامضة. تعود
النساء الخمس إلى العراق من أجل التقاط صور توثِّق للحياة في بلدهنّ. يمتلك
فيلم باجه جي مادة إنسانية هائلة، ويزدحم بأنواع الظلم والقهر والفقدان،
وخلفياتها من حروب وصراعات ومناف، وكل ذلك من خلال الصورة الفوتوغرافيّة.
يجاور الشريط في المقابل الفرح والإصرار على الحياة، لكنّه يمتدّ لأكثر من
ساعة ونصف، ما يجعله سرداً طويلاً جداً، مع شيء من التكرار في أحيان كثيرة.
هكذا، ينقلب بناء علاقة وثيقة بين المشاهد وما يراه، إلى انتظار للصور التي
ستعود بها النساء. إحداهنّ تقتل قبل عودتها من العراق.
في سياق توثيقي مغاير، يأتي فيلم قاسم عبد «حياة ما بعد السقوط» ليقدم لنا
رصداً كاملاً لما حمله عنوان الفيلم، مع التشديد على كلمة «حياة». على مدى
أربع سنوات، يتابع عبد مصير عائلته الكبيرة كي ويجعل منها وثيقة إنسانية
لمرحلة كاملة. إنَّها وثيقة لعيش البشر تحت وطأة مرحلة دامية تفتح الباب
على مصراعيه أمام أحلامهم وخيباتهم وكوابيسهم. لكنَّ السعي نحو حياة طبيعية
يتبخّر بسرعة، ونشهد التحولات التي تطرأ على حياة الأفراد الماضية من سيّئ
إلى أسوأ. العيش في ظلّ الاحتلال والإرهاب وانعدام الأمن يمثّل البعد
الرئيسي لكل ما نشاهده في الشريط. بعيداً عن مشاهد القتل والجثث في نشرات
الأخبار، نتابع هنا توثيقاً لحياة الناجين ـ إن صح الوصف ـ وهم محاطون
بالقتلى. هكذا، تتحوّل التفجيرات والمخاضات السياسية شأناً يومياً معيشاً
بكل انعكاساته على من بقوا أحياءً. نحن أمام مصائر شخصيات متأثرة بكل ما
حولها. ما كان وعداً بحياة جديدة سرعان ما يصير موتاً يومياً. مواصلة العيش
لليوم الثاني هي أقصى طموح يمكن أن توفره الظروف التي يرزح تحتها مَن في
الفيلم. يطال الموت أحد إخوة عبد الذي يخطف من ورشته ويختفي (أو يقتل).
أخته تراه دائماً في مناماتها، تأمل أنه ما زال على قيد الحياة، وينتهي
الشريط وقضية العثور على جثته عالقة. تهجر الأخت الثكلى بغداد إلى دمشق،
ويظهر مشهد شارع المتنبي المدمر إيذاناً بأنّ الخراب طال كلّ شيء.
في الفيلم مسعى واضح لمجاورة الزمن الافتراضي بالزمن التاريخي، ومحاولة
لمعايشة الشخصيات التي أمامنا، تماماً كما جاءت حيواتها من دون الاستعانة
بأي تكثيف أو حذف. هناك إصرار على المضي خلف البشر وهم يعيشون شروط حياة
قاسية والاحتفاظ بالمادة الوثائقية التي يحملونها بحذافيرها.
الأخبار اللبنانية في
09/06/2009
«إلى أبي»: دراما اسمها فلسطين
زياد عبد الله
من الشريطكيف يُخرج فيلماً مَن أمضى حياته وعيناه على الكاميرا؟ سؤال نجد
الإجابة عنه في شريط عبد السلام شحادة الوثائقي «إلى أبي». يمتلك المخرج
الفلسطيني أرشيفاً هائلاً من الصور، يطوّعها في فيلم وثائقي يحمل الكثير من
الخصوصية. هنا، يستثمر كنزاً من الصور الفوتوغرافية الفلسطينية في شريط وجد
في الصور المأخوذة بالأبيض والأسود، دراما فلسطين وتاريخها وحكايتها. «إلى
أبي» الذي عرض في «مهرجان دبي السينمائي» الأخير، متسلّح بكل ما يجعله
وثيقة جمالية للحياة الفلسطينية بالأبيض والأسود وبالألوان. كأنّ المخرج
الغزّاوي يفتح صندوقاً هائلاً من الحنين، صندوقاً لامتناهياً من الصور
الفوتوغرافية، أخرجها من استديو الحاج سلامة في رفح لتمضي جميعها أمامنا
برفقة سرد شعري دافئ. صور تتوالى تنقلنا من لحظة إلى أخرى، من وجه إلى آخر.
على أغنية سيد مكاوي «يا حلاوة الدنيا يا حلاوتها»، تتوالى تلك الصور «يوم
كانت كبيرة وواسعة مليئة بالبحر والشجر»... في الفيلم، يقرأ المصور إبراهيم
حرب وصيّته لمن يقف أمامه، ومن ثم يقول «مبروك» حين يلتقط الصورة، وكذلك
الأمر مع الحاج سلامة.
قبل النكسة، كان شارع البحر مليئاً بصور لعبد الناصر وعبد الحليم. كان
الحبّ يحكمها، والحياة تضيئها. التغير الدرامي في الصورة يطرأ مع حرب 1967
والاحتلال الإسرائيلي والتهجير، وانتهاء الحاج سلامة مُقعداً في بيته. بعد
النكسة، أصبحت الصور مخيفة، وصار إتلافها شيئاً من النجاة. صور عبد الناصر
يجب إحراقها، وصور الناس تحوّلت صور هويّات يصدرها الاحتلال الإسرائيلي
لسكان رفح. هنا يمسي فيلم شحادة ملوناً، والصور مأسوية. صارت الصورة تدل
بإصبعها على الفلسطينيين لكي يعتقلهم الاحتلال، أو صورة لوكالة الغوث أو
صورة تنشر في الصحف لرصد المأساة.
يواصل الفيلم سرده، يتعقّب الصور. نتتبع كيف تبعث الكاميرا القوّة في
المخرج، ليحتمل هول ما ألمّ به ومَن حوله خلال الانتفاضة الأولى. بعد
التدمير الذي طال كلّ شيء، نراه يتعقب ما آلت إليه الصور. إذ صارت صوراً
للشهداء، لشباب في مقتبل العمر لا يجدون إلا الموت سبيلاً لمواصلة الحياة.
صار المصوّر يخاف من الصورة، لا يضيف أي شيء عليها. إنها صور ملوّنة،
قبيحة، تضيء الموت بدل الحياة، صور أسرى إن لم يكونوا شهداء.
«إلى أبي» سيرة وطن بالصور، احتفاء بالحياة وهي تلوّن بالعذاب، وسرد خاص
يعطي للصور أبعادها ووثائقيتها، ويجعلها مادة درامية بامتياز ما إن تتغيّر
ألوانها، أو تتحول إلى صور هوية أو صور اعتقال أو صور موت. إنه قصيدة بصرية
مصنوعة بشغف وألم، يضاف إلى منجز شحادة الوثائقي كأعماله «قرب الموت»
(1997) و«العكاز» (2000) و«غزّة دموع بطعم آخر» (2006).
الأخبار اللبنانية في
09/06/2009 |