الفيلم يعتمد على أحداث
واقعية
عانت القارة الأوروبية من حروب طاحنة خلال القرن العشرين بسبب
الأيديولوجيات المتطرفة التي تبنتها أنظمة حكم ديكتاتورية كألمانيا النازية
وإيطاليا موسوليني.
غير أن الاعتقاد السائد اليوم هو أن القارة العجوز قد استخلصت الدروس من
ماضيها الأليم وأن الديمقراطية هي التطور النهائي لأنظمتها السياسية.
غير أن الفيلم الألماني "الموجة" الذي يعرض حاليا في شاشات السينما في
أوروبا يأتي ليشكك في هذه النهاية السعيدة، وليثبت أن الديمقراطية
الأوروبية هشة يسهل الانقلاب عليها والعودة من جديد إلى الاستبداد باسم
الأيديولوجيا.
وتدور أحداث الفيلم، المقتبس من حادثة حقيقية، في إحدى المدارس الثانوية في
ألمانيا، حيث تقرر إدارة المدرسة تنظيم أسبوع خاص لتعريف الطلبة على
الأيديولوجيات المعاصرة المختلفة، فيتم تقسيم الطلبة إلى مجموعات ويركز
الفيلم على المجموعة التي تتخصص في النظام الأوتوقراطي الاستبدادي.
يبدأ المدرس في شرح آليات نظم الحكم الأوتوقراطية وأهم المبادئ التي ترتكز
عليها، وأمام التفاعل الكبير من قبل الطلبة وأسئلتهم الشغوفة حول الموضوع،
يقرر المدرس أن يطبق نموذجا عمليا يمكن الطلبة من فهم الأوتوقراطية بشكل
أفضل، فيبدأ في محاولة فرض الطاعة والانضباط على الطلبة؛ فالتأخير عن الصف
والمحادثات الجانبية غير مسموح بهما والكلام لا يكون إلا بعد طلب الإذن.
محاكاة تتحول إلى واقع
ويبدأ نموذج المحاكاة في اتخاذ منحى أكثر جدية، فيتم فرض زي موحد على أفراد
المجموعة، كما يختار الطلبة "الموجة" كرمز لهم لأن الموجة "تكسح وتزيل كل
ما يعترض طريقها". كما تبدأ المجموعة في اضطهاد الأعضاء الذين يعترضون على
النظام الاستبدادي الذي يفرضه المدرس وعلى الفكر الفاشي الذي تتجه إليه
المجموعة.
وتزداد حماسة الطلبة للمشروع تدريجيا، فتتحول المجموعة إلى عصبية أو ما
يشبه الطائفة الدينية ويأخذ أعضاؤها في الدفاع عن بعضهم البعض ضد اعتداءات
المجموعات الأخرى كالفوضويين والهيبيز.
ثم ما تلبث أن تنتقل العصابة الجديدة إلى المنطق الهجومي، فينتشر أعضاؤها
ليلا في المدينة ليطبعوا شعاراتهم في كل مكان لإعلان ولادة هذه الجماعة،
كما يتم استقطاب أعضاء جدد في المدرسة، وتختار الجماعة تحية غريبة على غرار
التحية النازية، ويمنع أشبال المجموعة باقي طلبة المدرسة من الدخول إلى
المبنى دون أداء التحية.
ويبرع المخرج في إظهار الأثر الكاسح للأيديولوجيا والكاريزما الشخصية ومدى
قدرتهما على تغيير القناعات والطباع حين تستحوذ على الفرد. فشخصيات أعضاء
المجموعة وأفكارهم تتغير بشكل جذري خلال فترة التجربة القصيرة التي لا
تتجاوز أسبوعا، فنرى أحد الطلبة يتخلى عن حبيبته بسبب معارضتها للتجربة بل
يصل به الأمر إلى الاعتداء عليها بالضرب حين تقوم بطباعة منشورات مناهضة
للتجربة.
كما تشكل هذه التجربة نقطة تحول في حياة عضو آخر مضطرب نفسيا طالما عانى من
التهميش وسخرية الآخرين، فقد وجد هذا الشاب في "الموجة" عائلة له بعد أن
قاسى طويلا من الوحدة، وعصبية تحميه من اعتداءات باقي الطلبة، فيتحمس
للجماعة ويذوب فيها بشكل كلي لأنها هي التي أعطت لحياته معنى على حد قوله،
فيقوم بحرق كل ملابسه القديمة ويستبدلها بالزي الموحد للموجة، كما يبدأ في
معاملة المدرس، القائد الكاريزمي الملهم للمجموعة، بقداسة عجيبة وكأنه نبي
أو إله، فيقرر أن يهجر بيته لكي يتبع القائد كظله حيثما ذهب لحمايته من
"المؤامرات التي تحاك ضده". وحينما يبدي المدرس انزعاجه من هذا السلوك
ويطرده من بيته، يبيت الفتى في العراء أمام المنزل لحراسته من أي اعتداء
محتمل.
نقطة اللاعودة
هذا التغير النفسي والسلوكي لم يقتصر فقط على الطلاب، بل انسحب على المدرس
نفسه، فالطاعة العمياء التي يبديها له أعضاء المجموعة ومذاق السلطة المطلقة
التي أصبحت في متناوله جعلته أكثر صرامة واستبدادا حتى خارج نطاق نموذج
المحاكاة، وهو ما دفع زوجته إلى هجرانه لأنها لم تعد تتحمل ما آلت إليه
طباعه.
غير أن الأمور ما تلبث أن تتعقد أكثر وتأخذ منحا عنيفا، فتتحول مباراة
رياضية ودية بين المدرسة التي يدور فيها نموذج المحاكاة ومدرسة ضيفة إلى
معركة عنيفة بين الفريقين. ويدرك المدرس أن التجربة خرجت عن السيطرة ولابد
من إيقافها قبل أن تتسبب في وقوع كارثة، فيجمع أعضاء الموجة كلهم ليعلمهم
بانتهاء نموذج محاكاة النظم الديكتاتورية التي خبروا بأنفسهم مساوئها، غير
أن هذا النبأ يصيب الطلبة بالإحباط، وينهار الطالب المختل الذي أصبح لا
يتخيل حياته بدون الموجة، فيحتجز كل من في المدرج ويهدد بأن يقتل المدرس
بالمسدس الذي يحمله ما لم يعلن تراجعه عن حل المجموعة لينتهي الفيلم
بانتحار الشاب وإيقاف المدرس.
تمكن المخرج دينيس جانسل ببراعة عن طريق فيلمه من أن يوضح أنه حتى في أكثر
المجتمعات تمسكا بالحرية والديمقراطية، تبقى تلك الديمقراطية هشة وقابلة
للتحول في وقت قصير جدا إلى النقيض عن طريق الدعاية والأيديولوجيا
والكاريزما، خصوصا لدى جيل الشباب. فالمجتمعات المتقدمة تعاني من حالة فراغ
تتسبب فيها الفردانية والتفكك الاجتماعي، وهذا وضع لا يمكن أن يستمر للأبد،
كما يعتقد المخرج، والخوف كل الخوف أن تظهر موجة جديدة من الأيديولوجيات
الشمولية لتحاول شغل الفراغ الحالي.
ناقد مقيم في فرنسا
إسلام أنلاين في
08/06/2009 |