لعل من أهم المميزات التى تتصف بها السينما الامريكية. أنها تضع فى
الاعتبار دائما وجود أفلام خاصة بشرائح عمرية معينة، لايبدو فى الظاهر
أنها تصلح لبطولة هذه الافلام أو لعب أدوار لهذه الشخصيات.
ولعلنا نقصد بذلك الأفلام التى تتركز فيها المعالجة حول الابطال من كبار
السن، ممن تعدوا الستين أحيانا، وفى السنوات الاخيرة كانت هناك أفلام كثيرة
تدور فى هذه الأجواء، ومنها على سبيل المثال "قائمة الدلو – الشك – فى
بلاد الله – لا مكان للمسنين" وغير ذلك من الأفلام ان هذا الأمر لا ينطبق
على السينما الأمريكية فقط، ولكن على السينما الأوروبية ايضا، والتى تتفنن
أكثر فى طرح ومعالجة القضايا الخاصة بالاعمار المتوسطة والكبيرة، بصرف
النظر عن عوائد شباك التذاكر.
حيث فى الغالب توزع هذه الافلام بكثرة من خلال الاقراص المدمجة ويكثر
الاقبال عليها فى القنوات السينمائية المتخصصة لهذا السبب نجد أكثر من
ممثل مازال يعمل ويلعب أدوار بطولة احيانا تبدو مطلقة، وهو ما حدث بالنسبة
لشين كورى وآل باشينو وروبرت دى نيرو وجاك نيكلسون وكلينت ايستوود وميريل
ستريب وغيرهم.
فرصة من العمر:
فى هذا الفيلم "هارفى.. الفرصة الأخيرة" اقتراب من عالم الشخصيات ذات
الاعمار الكبيرة والمتوسطة، وكلمة الفرصة قد جاءت مقترنة بذلك. وهى اخيرة
لأن العمر ربما لا يسمح بفرص أخرى تأتى سريعة أو بطيئة.
كما هى العادة يتم التركيز على شخصية الرجل أكثر من المرأة، فهو الذى يحرك
الاحداث ويقود الفيلم. كما ان الفرصة الاخيرة قد اقترنت به أكثر، ولاتكاد
تقترن بالمرأة ذات العمر المتوسط. والحقيقة أن هذه النقطة هى من عوامل ضعف
الفيلم لأن النظرة الذكورية قد سيطرت عليه وهو يقبل وفق هذا المقياس، وما
الافلام الاجتماعية العاطفية إلا مداخل لطرح موضوعات لصيقة بالحياة، تتحرك
بمفاتيح رجولية وليست انثوية، إلا فى النادر والقليل.
فى بداية الفيلم نجد انفسنا أمام "هارفى"، يقوم بدوره الممثل داستن هوفمان،
إنه مجرد ملحن لبعض القطع الغنائية الخفيفة الأقرب الى الاعلانات لوكالة
مانهاتن وهو ناجح فى ذلك الى حد معين، غير أنه يخفى فشلا يستقر فى داخله،
فقد كان يأمل أن يكون موسيقيا يؤلف المقطوعات الكبيرة، ولكن فعليا كما هو
الآن مهدد بالرفض من قبل الجهة التى يعمل بها فى أية لحظة.
كل ذلك تعلمه بعد أن يتجاوز الفيلم احداثه الأولى الخاصة بالتعريف
بالشخصيات وهى فعليا ليست كثيرة إذ لا نجد أمامنا الا هارفى والشخصية التى
تقابله "كيت" والتى تقوم بدورها ايما واتسون.
سؤ حظ:
سوف يؤكد الفيلم على فكرة الحظ السىء الملتصقة بها وهى فكرة لها علاقة
بالفشل فى الحياة، كما هو فى ظاهر الأمر، ومن الطبيعى أن يحدث ذلك، فنحن
لا نعلم شيئا عن حياة هارفى ولماذا وصل الى هذه الدرجة من سؤ الحظ أو
الفشل.
على مستوى آخر يتحرك الفيلم عندما يشرع هارفى فى السفر الى لندن لحضور حفل
زفاف ابنته، وهو يحتاج الى يوم واحد فقط، لأن العمل يقتضى وجوده، ولكن
ولتأكيد فكرة الفشل المقترنة بهذه الشخصية نجد رب العمل يؤكد على أن من حق
هارفى أن يتمتع بأكثر من يوم واحد، بل هو يصر على ذلك.
يقدم الفيلم مشهدا آخر ليضع شخصية هارفى فى قالب معين، يعتمد على فكرة عدم
النجاح فى كسب زد الآخرين. إنه يحاول التحدث مع امرأة تجاوره فى الطائرة،
لكنه يفشل، بل تطلب منه المرأة أن يتركها لكى تنام لأن لها عمل ستقوم به
مبكرا.
يستمر الفيلم فى اضافة بعض الخيبات الملتصقة بشخصية هارفى، ونحن نعلم بأن
الشخصيات الفاشلة تلفت الانتباه فى السينما أكثر مما تفعل الشخصيات
الناجحة، وحيث انه لا توجد احداث فعلية سابقة، فإن ما يحدث من تفاصيل يمكن
أن يقوم باعتباره دلالة معينة تفيدنا فى فهم شخصية هارفى وأحيانا الرثاء
له.
سؤال وجواب:
فى مطار هيثرو بلندن يلتقى بأمرأة ترغب فى ان تسأله أسئلة معينة ذات طبيعة
بحثية، إنها "كيت" والتى تعمل فى وكالة طيران وهى تسعى لمعرفة رغبات
وطلبات المسافرين عن طريق البحث والاستصقاء.
لا يستجيب هارفى لاسئلة المرأة ويهملها بفظاظة، وعندما يصل الى الفندق يجد
نفسه وحيدا وفى غرفة وحده، حيث أن العرس سوف ينظم فى مكان آخر وليس فى
الفندق كما كان يظن ويعتقد.
عندما يصل الى العرس يجد ابنته وزوجته السابقة التى طلقها منذ سنوات، ومثل
العادة تزوجت المرأة رجلا آخر أكثر نجاحا من الزوج السابق، وربما يفهم
المشاهد بأن الزوجة غنية ايضا لأنها استأجرت فيلا خاصة بالعرس لابنتها
يقوم الفيلم بلمسة أخرى سلبية بالنسبة لهارفى، فهو يلبس بدلة بيضاء من أجل
الغداء وقد كان الوحيد الذى يلبس هذا اللون، بسبب اعتقاده الخاطىء ايضا.
والفيلم يحاول ان يضفى بعض الكوميديا فى هذا الاتجاه، لكنها كوميديا غير
ناجحة كثيرا الا فيما يتعلق بطريقة أداء واستين هوفمان.
من سؤ الحظ ايضا أن يجد هارفى بأن "معلاق" البدلة مازال فى داخل أحد
الاكمام ولا نعلم كيف تخلص منه اثناء وجوده فى حلفة العرس.
خيبات كثيرة:
بالاضافة الى عدم اهتمام الزوجة السابقة به، فقد تلقى هارفى ضربة أخيرة
موجعة من ابنته الوحيدة وقد قامت بدورها الممثلة "ليان بالبان". انها
اختارت زوج أمها ليكون "الأشبين" الذى يقدمها فى الممر الى عريسها وهو
ايضا من سيلقى كلمة الاستهلال. إن هناك أسباب كثيرة تقود الى ذلك يوجزها
هارفى فى تبرير من عنده خلاصته أنه أب فاشل أو محطم.
هذا هو تقريبا نصف الفيلم الأول وهو نصف مكسور يحتاج الى معالجة، ولعل
الجزء الثانى يقودنا الى شىء من ذلك.
تظهر من جانب آخر "كيت" وهى مترددة، لم تستطع اقامة علاقة عاطفية كاملة،
ورغم أن صديقاتها يدفعنها الى ذلك وينظمن لها المواعيد لكى تندفع فى تجربة
عاطفية جديدة تخرجها من دائرتها الضيقة، إلا أنها تهرب من كل ذلك، والفيلم
لا يفسر لنا شخصية كيت كما ينبغى، فهى قد بلغت الاربعين تقريبا وتجاربها
الشخصية فاشلة، وهى ايضا قد سبق لها أن تخلصت من جنين بالاجهاض.
ويركز الفيلم على علاقتها بالرجال، حيث يقودها الفشل معهم الى الانسحاب من
الحياة الاجتماعية لتصبح رهينة أمرين.. الأول يتمثل فى أمها _ايلين ايتكس"
والتى تعيش حالة أقرب الى الوهم المرضى فتتصل يوميا بابنتها لتشعرها بانها
موجودة. وايضا للام قصة جانبية تتمثل فى خوفها من الجار الذى يقطن تحت
شقتها وتشتبه فى تصرفاته الغريبة.
كما قلنا فان الفيلم تسيطر عليه حالة ذكورية، فالمهم هو هارفى الذى ينبغى
عليه أن ينقذ نفسه بسرعة وفى فرصة أخيرة، بعدم ترك كيت. وبصرف النظر هل
هذه الفرصة مواتية بالنسبة للمرأة أم لا. ولقد استخدمت قصة الأم لهذا
الغرض.
جلسات الكتابة:
الأمر الثانى بالنسبة لكيت يظهر فى ميلها الى القراءة الأدبية، وهى تخطط
لكتابة رواية أو كتاب، ولهذا تحضر يوميا جلسات الكتابة وربما كان هذا
الحافز هو الذى يقود هذه الشخصية ولكن لم يتم التركيز عليه بما فيه
الكفاية.
الا من أجل اظهار مدى الاختلاف فى تكوين الشخصية هارفى وكيت، وأحيانا تكون
الكوميديا فقط هى الحاضر، فلقد حاول السيناريو وكذلك الاخراج أن يقودا
الفيلم نحو بعض الكوميديا المحدودة.
كل تلك الاخفاقات المتتالية، اجتمعت لتقود هارفى نحو العودة الى مقر عمله
ولكن ضياع الرحلة والاضطرار للبقاء يوما آخر يؤدى الى الغاء العودة بصفة
نهائية، لقد فصل هارفى من عمله حسبما أعلم بذلك بالتلفون، وهو أمر يدفعه
الى محاولة تعديل الكفة بالسقوط فى الشراب المستمر، حيث يتعرف بسبب ذلك
ومن جديد بالفرصة الاخيرة وهى كيت المرأة المنتظرة.
توطيد العلاقة:
مثل العادة تتحول لقاءات السخرية المؤقتة بين الشخصيتين الى لقاءات دائمة
وتتوطد العلاقة مع مرور الوقت، ومن الطبيعى أن يكون الالحاح من قبل هارفى
أكثر، فهو قد قرر عدم العودة الى نيويورك والبقاء فى لندن، وفى مشادة
خارجية يوفر الفيلم فرصة لبطليه لكى يطول الحديث بينهما، كل منهما يتحدث
عن خيباته، بينما تنشغل الأم بالجار البولندى الذى يبدو وكأنه سفاح يحمل
الجثث من مكان الى آخر وهى مغطاة بشكل جيد.
عند هذه النقطة تبدو قصة الأم وكأنها اضافة غير مقبولة، فقد اضاعت المعالجة
الكثير من الوقت فى ابراز مخاوف الأم واتصالاتها الهاتفية المتكررة، وهو
أمر بعيد عن جوهر قصة الثنائى "هارفى وكيت".
لكن الأمر على العكس من ذلك لقد استخدم الفيلم قصة الأم الجزئية لكى يدعم
بها القصة الرئيسية، فى البداية هناك حالة التباس وهناك مخاوف من هذا
الجار الذى يبدو أنه ساكن جديد، من قبل الأم، وهذا الشك سرعان ما يتبدد مع
مرور الوقت، حتى الوصول الى النهاية ليزول نهائيا.
فيلم سابق:
أثناء الحديث المطول عبر الشوارع والحدائق بين هارفى وكيت، لابد لنا أن
نتذكر الفيلم الشهير "قبل الشروق – 1995" تم تكملته "بعد الغروب – 2005"
وفيه يدخل البطلان "ايتان هوك وجون ديلبى" فى حوار مطول يستهلك زمن
الفيلمين وبادارة من المخرج "ريتشارد لينكلاتر" لكن الحوار وخصوصا بالنسبة
للفيلم الثانى قد كتبه الممثلان بانفسهما لكى يكون طبيعيا وسهلا ومقنعا.
إن احداث هذا الفيلم تقع فى مدينة جنيف حيث يتعرف جيس على سيلين ويمضيان
وقتا طويلا، ثم يكون موعدهما بعد ستة أشهر فى جنيف ايضا، وفى الفيلم
الثانى يلتقيان بعد 9 سنوات وفى باريس عندما يصبح جيس روائيا يوقع روياته
ويحدث نفس الأمر، اذ يستمر الحديث بين الشخصيتين طوال يوم كامل.
فى هذا الفيلم "هارفى الفرصة الاخيرة" الكثير من ذلك انه فيلم تدور احداثه
فى الخارج ويعتمد على الحوار بين الشخصيتين الرئيسيتين، مع الفارق طبعا فى
نوعية القصة.
والحوار هنا هارفى هو الذى يقود الاحداث ويغير منها على سبيل المثال تقنع
كيت هارفى بأن يحضر حفل زفاف ابنته ويقبل بذلك على ان تكون معه، وبالفعل
يدخلان حفل الزفاف سويا، بعد مشاهد كوميدية ضعيفة خاصة بشراء فستان لكيت
خاص للعرس، لم يوفق المخرج فى تنفيذها.
فى الحفل انتزع هارفى الكلمة من زوج الأم "جيمس برولين" ونجح فى التأثير
على الحاضرين وكذلك نجح فى نيل اعجاب ابنته، حتى انتهت مراسم العرس. ان
هارفى يكسب ابنته ويكسب كيت ويكسب نفسه بعد سلسلة من الاخفاقات
المتتالية.
الخطوة الاولى:
مرة أخرى يبدو أن الفضل يعود الى "كيت" بالدرجة الأولى فهى الخطوة الاولى
فى تغيير مسار هارفى، وهو ما يقوده الى محاولة الالتقاء بها مجددا، ليطرح
الفيلم من جديد عقدة "كيت" من المواعيد الضائعة، حيث يصاب هارفى بأزمة
قلبية طارئة تمنعه من الحضور فى الموعد.
لقد حاول الفيلم ابطاء الايقاع قليلا لكى يكون مقنعا بقدر الامكان، واظهر
تردد "كيت" وحظها العاثر، لكنه سار على نفس النسق تقريبا فى جعل الفرصة
الأخيرة صالحة للثنائى وليس لشخص واحد، وهذا ما ابرزه المخرج "جويل
هوبكنز" فى بساطة مدهشة.
فى نفس الوقت وفى القصة الفرعية يكتشف الأم بأنها على خطأ فقد زارها الجار
وقدم لها شرائح من اللحم على سبيل الهدية وهو يعنى أن الثنائى فى طريقه
للتواصل، بعد أن ازيلت أسباب الشك والريبة، ان قصة الأم الفرعية تدفع بقصة
الأبنة نحو الامام وتمنحها التجدد والبقاء والاستمرارية والمصداقية.
فى الفيلم موسيقى تبدو غير مختارة بعناية ولاسيما فى المشاهد الخارجية، فهى
تنتظر حدوث حدث معين لتتصاعد بلا مبرر. كما أن الفيلم يخلو من قيمة
موسيقية موحدة تساعده على أن يسير فى تركيبة نسقية واحدة. رغم أن البطل
موسيقى ويعزف أحيانا بعض القطع القابلة أن تبرز فى ثنايا الفيلم.
الى حد معين:
لقد أعتمد الفيلم على ممثلين داستن هوفمان وايما واتسون ونجح فى ذلك الى حد
معين حيث بدت ايما واتسون طبيعية مرتبطة بالدور وحده. بينما كان داستن
هوفمان أقرب الى الممثل المحترف الذى نراه دائما بنفس الطريقة والأسلوب.
ومن جانب آخر يبدو رهان الفيلم ليس فقط على جاذبية الدورين بل بالدرجة
الاولى على جاذبية الممثلين. فنحن نرى ايما واتسون الممثلة ونرى داستن
هوفمان الممثل ونتابعهما قبل التعامل مع الادوار والشخصيات والعلاقات
المتفاعلة داخل الفيلم.
لقد لحق هارفى بفرصته الأخيرة، وظهرت علامات ذلك بعودته للعمل السابق،
وربما اختيار عمل أفضل لتحقيق مالم يتحقق من قبل من أهداف وأمنيات. أما
كيت فهى تتجاوز حالتها نفسية المحبطة بهذه الفرصة والتى لا يمكن اعتبارها
اخيرة.
ما أكثر الأفلام التى تعاملت مع فشل الآباء ولابد لنا أن نذكر فى هذا
السياق فيلم "قائمة الدلو" وكذلك فيلم "المصارع" ويمكننا أن نضيف ايضا
فيلم "المخطوفة" وسوف نلحظ بأن الحلول تأتى متفاوتة ومتعددة من قبل
الآباء.
أما فى فيلم "هارفى الفرصة الاخيرة" فإن اللحظة العاطفية الرومانسية تفرض
حضورها باعتبارها الحل لكل ما صاحب الشخصية من مشكلات لها علاقة بالماضى
واحيانا الحاضر والمستقبل.
العرب أنلاين في
04/06/2009 |