تنتاب الناقد السينمائى بين الحين والآخر رغبة جارفة فى الصمت، فليست تلك
الأفلام التى نصنعها مؤخرا هى السينما، وجمهور لا يحب السينما بحق، لذلك
أصبح التعاقد الضمنى السائد الآن بين صناع الأفلام والمشاهدين هو أن يتظاهر
السينمائى بأنه يصنع فيلما جادا ومسليا بينما هو فى الحقيقة ليس هذا ولا
ذاك، ويتظاهر المتفرج من جانبه بأنه استمتع بالفيلم، ثم يذهب الجميع إلى
حال سبيلهم، فلا السينما تقدمت ولا الواقع تأثر، كما تظهر بعض مقالات هنا
وهناك لا تغير من واقع الحال شيئا، والأهم من ذلك كله هو الشعور المرير لدى
الناقد بأن السياق الذى نعيش فيه، ويزداد ترديا كل يوم، أهم ألف مرة من
السينما، وحال السينما ذاتها ليس إلا جزءا يسيرا منه، وإن أردت أن تغيرها
حقا إلى الأفضل فإن عليك أن تعمل على تغيير هذا السياق الذى تفشى فيه
الفساد والتحلل الماديان والمعنويان، فهل الاهتمام بهذا الفيلم أو ذاك أهم
من حالة "اللغوصة" التى نعيشها فى مجالات التعليم والعمل والإسكان والصحة..
وحتى لقمة العيش؟
أحيانا أخرى يقول الناقد لنفسه: وهل سوف يُصلح الصمت الأحوال؟ وأليس السكوت
على التدليس فى السينما إلا جزءا من الصمت أمام تدليس وغش ونفاق أكبر وأعظم
فى كل أمور حياتنا؟ هل تريد مثلا؟ لقد أصبح تعبير "الفشخرة" بين ليلة
وضحاها من أدبيات الحديث فى الاقتصاد بمجرد أن ورد على لسان الرئيس مبارك
فى أحد ارتجالاته، وكأن هذه "الفشخرة" هى السبب والنتيجة فى ذلك الاقتصاد
الهلامى الطفيلى الذى ترعاه لجنة السياسات إياها، التى فعلت كل ما يحلو لها
فى تفكيك الدولة وتحويلها إلى نشاط تحكمه العائلات والشلل، وما الذى يمنعها
من ذلك إذا لم تكن هناك حركة معارضة قوية، أو جبهة وطنية من المثقفين
الوطنيين تعمل ليل نهار على وقف هذا التحلل والتدهور؟
على الجانب الآخر هناك نوع آخر من الخداع، حين نعلن النضال ضد الفساد بينما
نمارس نوعا مراوغا منه، نضال مصطنع فى السياسة والفن، فليس يكفى على سبيل
المثال أن أقول إننى ناصرى بينما أعمل من خلال أموال تم جمعها من أشلاء
المكتسبات التى تحققت خلال الفترة الناصرية، وليس يكفى أن أحذر أن هناك
طوفانا قادما لكى أثبت أننى أفهم فى السياسة، وهذا ما يحدث للأسف الشديد فى
حالة تضخم الذات عند المخرج خالد يوسف التى تتفاقم يوما بعد يوم، برغم أننى
أعلم يقينا أن هناك نقادا "ناصريين" سوف يعتبرون فيلمه الأخير "دكان شحاتة"
تحفة فنية، وإذا كان لهم الحق فى ذلك فإن من حقى أيضا أن تكون لى قراءتى
للفيلم فى صحيفة ناصرية دليلا على ديمقراطية نحن أجدر الفصائل بممارستها،
وفى الحقيقة أن "دكان شحاتة" يمكن اعتباره تجسيدا للرؤية الفنية والسياسية
لدى خالد يوسف فى السينما التى يصنعها، ويحدد بها علاقة من نوع خاص مع
"جمهوره".
هناك فى فيلم "دكان شحاتة" نواة يبدو أنها تنتمى للسيناريست ناصر
عبدالرحمن، وإضافات تنتمى للمخرج يوسف شاهين، وبين النواة والقشور حالة من
الانفصال التى تضيع معها أية بؤرة لرؤية فنية أو سياسية حقيقية. إن كنت
تذكر فيلم "المدينة" ليسرى نصر الله، والذى كتبه ناصر عبدالرحمن، ففيلم
"دكان شحاتة" بدوره ليس فى الحقيقة إلا إحدى حواديت تجار الفاكهة والخضار
فى سوق روض الفرج القديم، هؤلاء القادمين من الصعيد دون أن يملكوا شروى
نقير، ومع الأيام تكبر تجارتهم بالجهد والعرق، لكنها تأتى على حساب صراعات
ربما تصل إلى درجة التناطح، وتلك هى "البذرة" الدرامية فى الفيلم، التى
أضاف لها خالد يوسف ما يتصور أنه سوف يعطى الحدوتة خلفية سياسية وتاريخية.
والخطوط الرئيسية للحبكة ليست إلا تنويعا على "يوسف وإخوته"، إن الأب حجاج
(محمود حميدة) له عدة أبناء من زوجات مختلفات، لكنه يُرزق أخيرا بابنه
الأصغر شحاتة (عمرو سعد) الذى تموت أمه وهى تلده، ولسبب ما لا يقوله لنا
الفيلم أبدا يصبح شحاتة هو الأقرب إلى قلب أبيه، وهو يكبر مع الأيام (فى
التعبير السينمائى عن الانتقال من طفولته إلى شبابه تذكرت أساليب حسن
الإمام)، إنه لسبب آخر مجهول يتمتع بقدر هائل من الطيبة والتسامح بقدر ما
يزداد إخوته شرا وحقدا، وعندما يموت الأب تنتهى مؤامرات الإخوة بشحاتة إلى
غياهب السجن، وتضيع منه حبيبة القلب بيسة (هيفاء وهبي) التى يتزوجها أحد
الإخوة ويمارس الجنس معها اغتصابا لأنها لا تزال تحب شحاتة. يخرج شحاتة من
السجن بعد أعوام طويلة ليجد أن إخوته سرقوا ميراثه كما سرقوا حبيبته، لكنه
مع ذلك يود أن يتسامح معهم (هل يمكنك أن تصدق هذا التصرف من شخصية درامية
أو حقيقية إلا إذا كان يتسم ببعض البلاهة والبلادة؟!)، وفى اليوم الذى يذهب
فيه لاحتضانهم يتلقى رصاصات من أخيه زوج بيسة، لتنتهى حياته دون أن نعرف
بالضبط أين "الدراما" فى تلك العلاقات كلها، فالدراما هى الصراع والتغير
نتيجة هذا الصراع، لكن هأنت ترى أن الشخصيات بدأت كما انتهت، الأشرار ظلوا
أشرارا، والأخيار ظلوا أخيارا، وفى ظل غياب الدراما لا تتبقى إلا كمية
"هاااااااااائلة" من ميلودراما الصراخ والعويل والنواح.
فوق وحول هذه البذرة الدرامية أضاف خالد يوسف مستوى آخر، متصورا أنه يعطى
سياقا تاريخيا وسياسيا للحدوتة، فشحاتة وُلد فى الأيام الأخيرة لعصر الرئيس
السادات، إذن فحياة هذا البطل "تسجيل" لفترة حكم الرئيس مبارك، وبالفعل
فإنك ترى فى الخلفية بين الحين والآخر إشارات على أحداث، مثل انتخابات
الرئاسة الأخيرة، واعتصام نادى القضاة، وحريق قصر ثقافة بنى سويف.... لكنك
لن تدرى أبدا ما علاقتها بتطور الأحداث والشخصيات فى الفيلم (إن كان هناك
أى تطور)، ويمكنك أن تحذفها دون أن تشعر بأنك تفتقد شيئا (وتلك من الآفات
المتكررة فى السينما المصرية). لكن المستوى الآخر الذى أضافه خالد يوسف هو
أن تدور الأحداث فى فيلا لها "أرض" (فى علم الرموز الجبرية وليس الفنية:
الأرض تساوى مصر)، ويقتطع صاحب الفيلا الطيب (عبدالعزيز مخيون) جزءا من
الأرض يعطيها لحجاج كى يبنى فيها "دكان شحاتة" لبيع الفاكهة، وفى زمن آخر
سوف تباع الفيلا و"الأرض" (تذكر الرمز الجبرى إياه) لسفارة أجنبية، ويترك
أبناء حجاج تجارة الفاكهة للعمل فى العقارات، بينما يظل شحاتة سجينا ثم
يخرج من السجن صعلوكا يبحث عن إخوته، لا لكى ينتقم منهم، بل ليتصالح
معهم!!
لم أستطع لحظة واحدة أن أستوعب أن الأب حجاج ناصرى لمجرد أن المخرج قرر أن
يعلق صورة عبدالناصر على جدار غرفته (غرفة حجاج لا المخرج)، فلم يذكر
الفيلم سببا واحدا لهذا الانتماء السياسى ولو حتى بالفطرة، ولم يترتب عليه
أى قرار يجعل من حجاج صاحب وجهة نظر سياسية محددة، بل إنى أكاد أسمعه ينطق
بلسان المخرج وليس الشخصية حين يطلب من ابنه أن يضع صورة عبدالناصر فوق شرخ
الجدار لعله يغطى جزءا منه (جدار الفيلا التى هى مصر إن كنت تذكر)، وهى
فكرة سقيمة يستخدمها الحزب "الوطني" وليس الناصرى للاستعانة بصورة
عبدالناصر لإخفاء عورات هذا النظام، وما يؤكد لك أن حجاج ـ الذى لم يتعلم
القراءة والكتابة ويستخدم الختم ـ لا ينطق بلسان شخصية درامية حقيقية هى
العبارة التى قالها لابنه قبل أن يموت: "عايز أقعد مع (ذاتي) شوية"!!
وبمناسبة الموت والرمز، فهل هناك أى رمز سياسى فى موت الأب "الناصري" الذى
لفظ أنفاسه الأخيرة لإصراره على تناول "كيلو سمين" برغم ما يعانيه من
أمراض؟!
إن أردت أن أحدثك عن "فن الإخراج" فى الفيلم، فمن الواضح أن هناك عناية
خاصة باختيار "معظم" الممثلين، خاصة الأدوار الثانوية، لكن خالد يوسف يميل
دائما إلى حالة من اللهاث التى تعكس ضعفا فى بناء المشاهد التى يأتى معظمها
إخباريا وتقريريا فى جملة واحدة، بينما يتوقف أمام مشاهد الصراخ وقتا
طويلا، كما أنه يميل إلى "الصخب" التقنى (يذكرنى بالصهللة الثقافية إياها)
التى تلهى المتفرج وتجعله يعتقد أنه أمام عمل خارق، تأمل على سبيل المثال
استخدام المجاميع الهائلة التى تبدو مجرد أعداد ليست لها شخصية إنسانية
حقيقية (سوف نتوقف لاحقا عند نموذج صارخ لذلك)، وتأمل أيضا حركات الكاميرا
المعقدة: لقد تكرر مرتين دخول الكاميرا من الشارع لتمر داخل الدكان وتنتهى
فى حديقة الفيلا دون أن تكون لذلك أية دلالة أو "إحساس" درامى، وفيما عدا
ذلك فإن الإخراج ينحو إلى كل الأساليب التقليدية (جدا جدا) فى تنفيذ
المشاهد، فعندما تظهر بيسة تنطلق الموسيقى الشعبية (مثلما كان يحدث مع
نبيلة عبيد ونادية الجندى وفيفى عبده)، وفى مشاهد الحزن تصدح الموسيقى
العاصفة، ولم يفكر خالد يوسف أبدا فى الاكتفاء مرة واحدة بالمؤثرات الصوتية
المرهفة التى تعنى أنه يريد أن "يتأمل" الشخصية ويريدنا أن نشاركه هذا
التأمل، ففى الحقيقة أنه يهدف أن يجعل الشخصيات هدفا للفرجة وليس التعاطف
أو التوحد.
إن ذلك الفقدان لتأمل الشخصيات يقودنا إلى جوهر أسلوب خالد يوسف شديد
التقليدية، على العكس تماما من الرسالة السياسية التى يقول إنه يرفعها. هل
تذكر شخصية ناهد (سمية الخشاب) فى "حين ميسرة"؟ إنها هنا بيسة أو هيفاء
وهبى، وكلتاهما مثال على علاقة صانع الفيلم بالشخصية من جانب، وبالمتفرج من
جانب آخر. فى أحد المشاهد نرى البلطجى كرم (عمرو عبدالجليل) يدخن الحشيش
على السطح، وأمامه تجلس شقيقته بيسه وخطيبها شحاتة، إن كرم يشك فى أن شحاتة
يملك من القوة ما يتيح له الدفاع عن بيسة، فماذا يفعل؟ إنه يدعو بيسة
للرقص، ثم يمسك فجأة بشومة ويريد أن يبارز شحاتة بالتحطيب. يمكنك أن تغفر
لكرم هذا الهذيان الذى يمارسه لأنه "مسطول"، لكن ما الذى يغفر للمخرج خالد
يوسف أن يجعل الكاميرا تمسح بتلصص غريب جسد بيسة (بالأحرى هيفاء وهبى التى
ترتدى ملابس وتضع ماكياجا لا يمكن أن يناسب الشخصية)؟ من أى وجهة نظر تلك
اللقطات شديدة الإثارة التى تذكرك بأسلوب حسن الإمام فى أفلام العوالم؟
وماذا يسعى المخرج بها والمفترض أنه موقف مؤلم على بيسة وشحاتة معا؟ ولماذا
لم يتذكر على سبيل المثال كيف قام المخرج على بدرخان بتنفيذ مشهد مماثل
لسعاد حسنى فى "شفيقة ومتولي"؟ لكن الفرق هو أن بدرخان يحس ويتعاطف مع
الشخصية بينما يحب خالد يوسف أن يتفرج عليها وأن نشاركه هذه الفرجة. خذ
عندك مثلا آخر: إن بيسه لا تزال تغرق فى أحلام يقظة جنسية مع الحبيب القديم
شحاتة، فهل يكون التعبير السينمائى لها عند مخرج له رسالة سياسية أن نرى
مشهدا مغرقا فى الحسية، أم أن هذا الموقف له دلالة شديدة الإيلام والعجز
والإحباط؟
نأتى فى النهاية إلى مشهد "النبوءة" التى يرددها المخرج محذرا من حالة من
الفوضى الدموية، وبرغم أنها ليست نبوءة بل واقعا نعيشه فى كل لحظة، حيث
"العنف" هو وسيلة الحوار بين السلطة والشعب، وبين أفراد الشعب وبعضه البعض،
فإن هذه الفوضى المتوقعة جاءت فى الفيلم على نحو ملفق وربما مضحك أيضا
(نسيت أن أقول لك إن الجمهور فى قاعة العرض انفجر بالضحك عندما ألقت بيسة
بنفسها من فوق السطح فى الدور السابع فى مشهد ركيك التنفيذ، وبالمناسبة
تعافت بعد ذلك ولم يترك ذلك الحادث المروع أى خدش عليها!!). إن شحاتة يخرج
من السجن باحثا عن إخوته، ويلتقى ببلطجى صعلوك يدعى "البرص" (من عائلة "ليمبي"
السينمائية العريقة)، ويدافع شحاتة عن البرص فى معركة دموية فينقذ حياته
بينما يصرع أربعة من البلطجية الآخرين، وليس هناك أى سبب درامى يجعل شحاتة
يدافع عن البرص، وليس هناك سبب "سياسي" عند خالد يوسف ألا يتوقف عند مصرع
البلطجية الآخرين فربما كانوا على حق أكثر من هذا البرص، لكنهم فى النهاية
عنده مجرد كومبارس أدوا الخناقة السينمائية كما كان ينفذها نيازى مصطفى منذ
نصف قرن. المهم: ماذا فعل البرص ليرد جميل شحاتة؟ إنه يذهب فى الظلام ليطعن
شحاتة حتى يثبت أنه الأقوي!! ناهيك عن إفيه ساقع يقوله بلا مبرر ولن أكرره
لك. لكن عندما يموت شحاتة برصاص أحد إخوته يأتى هذا البرص "زعيما" لعشرات
البلطجية حاملى السنج والسيوف ليقوم وأعوانه بالتمرد العظيم والفوضى
الشاملة. إذا كانت هذه الفوضى سوف تحدث لمصرع شحاتة وعلى يد البرص فإنى لا
أرى فى ذلك أى سبب سياسى مزعوم، والحقيقة أن كل هذا الخليط تكرار لنفس
التوليفة التى تشبه التمثيليات الإذاعية الساذجة التى كانت تحمل اسم "من
الحياة"، بل إن جزءا كبيرا من الفيلم يمكن سماعه فقط لأن الصورة لا تقول
شيئا فنيا حقيقيا.
مثل هذه الأفلام تسعى للفرجة على شخصيات فى متحف، واستدراج الجماهير لدفع
ثمن التذكرة، واستدراج بعض السياسيين والمثقفين لتصور أن هذه هى السينما
السياسية، وإن كان فى هذه الأفلام سياسة حقا فلكونها جزءا من حالة الفوضى
والخداع التى نعيشها فى كل أمور حياتنا، لأننا مازلنا فى حاجة لأن نعيد
تسمية كل الأشياء بأسمائها الحقيقية.
العربي المصرية في
26/05/2009 |