من تاريخ موارب لبدايات الكنيسة العلموية الأميركية (في فيلم بول
توماس أندرسون «المعلم»)، إلى العملية الاستخباراتية/ السينمائية التي أدت
إلى مساعدة دبلوماسيين أميركيين على الفـرار من قبضة ثوار الخميني في إيران
قبل نحو ثلث قرن (كما في فيلم «آرغو» للممثل بن آفليك وقد تحوّل مخرجاً من
جديد)، مروراً بقضية السود الأميركيين وتحررهم خلال القرن التاسع عشر، مرة
بالقوة (في «جانغو طليقاً» لكونتن تارانتينو) ومرة من طريق نضالات الرئيس
أبراهام لنكولن (في فيلم «لنكولن» لستيفن سبيلبرغ)... وخاصة بقضية الإرهاب
وحروب الشرق الأوسط (كما في «نصف ساعة بعد منتصف الليل» لكاثرين بيغلو...
ويمكن هذه اللائحة أن تطول لتشمل حكايات أجهزة الاستخبارات الأميركية كما
صوّرها كلينت إيستوود في «إدغار»... أو حكايات وول ستريت والعولمة
والانهيارات المالية، كما في «كوزموبوليس» لدايفيد كروننبرغ، وأفلام كثيرة
غيرها، يبدو واضحاً أن السينما الأميركية –والهوليوودية تحديداً– تزداد
أكثر فأكثر اقتراباً من هموم السياسة، ولا سيما في التقاء هذه بالتاريخ،
ليندمجا في بوتقة واحدة... ولئن كان من المتوقع أن تخف حدة ظهور هذا النوع
من الأفلام السياسية/ التاريخية خلال الشهور المقبلة، فإن هذا لن يكون
ناتجاً عن غياب الإنتاج المتعلق بها، بل لأن الموسم الأوسكـــاري المقبل لا
يزال بعيداً بعض الشيء، كما لأن مهرجانات تحــــفل عادة بهذا النمط من
الأفلام، مثل «كان» و «البندقية»، لم تعلن عن برامجها حتــــى اليوم...
ولنضف الى هذا هنا، أن الأفلام التي تشغل الصورة حالياً وتمـــتلئ الصحافة
بأخبارها، هي تلك التي تعرض عادة في مواسم الصيف المقبلة، وما يعرض في هذه
المواسم إنما هو عرفاً أفلام موجّهة للفتيان والشبان مليئة بالبطولات
الخارقة والمغامرات، أي تلك التي تقف على النقيض تماماً مما نحن هنا في
صدده.
ما يهمنا هنا هو تلك الأفلام العديدة، والتي قد لا تشكل لائحتنا أعلاه
سوى جزء يسير منها، وتتعلق بأفلام تحاول أن تقول هموم أميركا بخاصة، وربما
هموم العالم من خلالها... وهي إذا كانت قد اجتمعت معاً بشكل لافت خلال
الشهور الأخيرة من العام الفائت بحيث بدت في مجموعها أشبه بالظاهرة، فما
هذا إلا للضرورات الأوسكارية، إذ بات معروفاً، وربما بديهياً أيضاً منذ
زمن، أن أهل الأوسكار -وهم بشكل عام كل أهل المهنة الهوليووديين تقريباً–
باتوا يفضلون أن يعطوا الجوائز الأساسية مرة كل عام لنوع من الأفلام يتسم
أكثر فأكثر بالجدية، وهل ثمة في راهن العالم ما هو أكثر جدية من السياسة
متضافرة مع التاريخ؟
أيها الأفضل؟
إذاً، حتى ولو قلنا إن العدد اللافت من الأفلام المنتمية إلى هذا
النوع المزدوج، قد شكل ظاهرة خلال الشهور الفائتة، نلاحظ اليوم، وبعد
انتهاء الحديث عن الأوسكار، أنها اضمحلت تماماً. أما ما لا بد من التذكير
به في الوقت عينه، فهو أن اهتمام هوليوود بالسياسة والتاريخ، متفرقَيْن أو
مجتمعَيْن، لم يأت كالفطر الشيطاني في صحراء قاحلة غير مهيأة له، فالحقيقة
أن هوليوود دائماً ما اهتمت بهما وكرست لهما من الأفلام ما كوّن على مرور
السنوات متناً سينمائياً ضخماً نعــــرف انه قد أُشبع درساً وتمحيصاً، كما
نعـــرف أنه -في شكل عام- يلوح دائماً نوعاً مسيطراً على معظم اللوائح التي
تتحـــــدث عن افضل الأفلام الأميركية في القرن العشرين وما بعده. غير أن
الذي لا بد من المسارعة في قوله هنا، هو أن ثمــــة فارقاً كبيراً بين
التوجه الفكري لأفلام «السياسة والتاريخ» التي كانت تُصنع في هوليوود خلال
النصف الأول من تاريخها –أي تحديداً حتى سنوات الستين من القرن الفائت–
وبين ما راح يُصنع بعد ذلك... ولا سيما بدءاً من بدايات العقد السبعيني.
في شكل عام، ولو أن التاريخ الهوليوودي عرف في العقود الستة او السبعة
الأولى سينما في التاريخ والسياسة، فإن أفلامهما لم تكن بعد احتجاجية أو
نقدية إلا في حالات نادرة، كأن تقف إلى جانب قضايا عادلة –مثلاً حين يحقق
جون فورد فيلماً عن القضية الإيرلندية أو آخر عن بدايات الرئيس لنكولن
المناضلة -، أو ضد الأعداء، من «حمر» أو «نازيين»... ثم بخاصة حين تبلغ
سينما السياسة ذروة لافتة في أفلام لفرانك كابرا -مثلاً- تناصر السياسات
الاقتصادية التقدمية للرئيس روزفلت... أو ذروة أخرى تتمثل في فضح الحرب وما
تتسبب به –كما لدى ويليام وايلر حين يحقق «أجمل سنوات حياتنا»، او كما في
فيلم «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» عن رواية إريك ماريا ريماركي-، أو
ذروة ثالثة حين يستند جون فورد نفسه إلى رواية لجون شتاينبك عن الانهيار
الاقتصادي الأميركي وكوارثه الاجتماعية في الثلاثينات («عناقيد الغضب»)...
والحقيقة أن هذه السينما كانت ذات فعل سياسي ولكن من دون عنصر النقد
والاحتجاج. أما هذا العنصر، فكان عليه أن ينتظر سبعينات القرن الفائت
وهزيمة أميركا في حرب فيتنام وفضيحتها السياسية/ الأخلاقية المدوية في قضية
ووترغيت... لكي تولد حقاً سينما تاريخية/ سياسية حقيقية، ومن داخل هوليوود
تحديداً.
أصحاب اللحى
صحيح أن إرهاصات تلك الثورة كانت قائمة من قبل، في أفلام مستقلة أو
أقل استقلالاً، ولدت من رحم احتجاجات الطلاب والشباب والمهمشين في سياق
ثورات الستينات على الصعيد العالمي، كما من رحم إعادات نظر مدهشة
وراديكالية في التاريخ الأميركي نفسه، بما فيه من حروب إبادة ضد الهنود
الحمر، وقهر للعبيد السود وتفاوتات اجتماعية مرعبة، وعدوانية على شعوب
العالم وما شابه ذلك، غير أن الأمر احتاج إلى لقاء حاسم ومدهش بين هوليوود
نفسها وتلك الأعمال التي بدت أولاً خارج السياق. ونعرف أن ذلك اللقاء أمّنه
أبناء ذلك الجيل الذين كان يحلو لنا أن نسميهم «أصحاب اللحى» قبل أن تصبح
للحى دلالات مختلفة تماماً!!
أصحاب اللحى هؤلاء من الذين ظهروا معاً تقريباً منذ نهاية الستينات
وبداية السبعينات، لم يتطلعوا إلى تحقيق سينما هامشية سياسية ذات قبضات
مرفوعة من النوع الذي لا يبشر عادة إلا بين المؤمنين، بل إلى غزو هوليوود
نفسها، إلى تحويل السينما الهوليوودية –أو جزء منها على الأقل– إلى سينما
راديكالية تصل إلى الجمهور العريض المعني وليس الى رهط من الرفاق...
وللوصول إلى هذا، عرف أبناء ذلك الجيل، من فرانسيس فورد كوبولا إلى ستيفن
سبيلبرغ مروراً بمارتن سكورسيزي وبريان دي بالما وجون لانديس وجورج لوكاس
وغيرهم، أن المطلوب لتحقيق «المشروع» إنما هو الوصول إلى توليفة تجمع بين
ابتكارات جون كازافيتس الجمالية والإنتاجية، وحصافة ريتشارد بروكس وسيدني
بولاك وآرثر بن الإنتاجية، وراديكالية رالف نيلسون وبيتر واتكنز
السياسية... وعلى هذا النحو، إذ تم الوصول إلى التوليفة، راحت تولد
بالتدريج تلك الأفلام الرائعة المتتابعة التي خلطت بين الترفيه والاستعراض
الكبير والفضح والاحتجاج السياسيين ونظام النجوم –مع إصرار على استخدام
مختلف جذرياً لهؤلاء– ناهيك بنظم الإنتاج والتوزيع الهوليوودية نفسها.
تصدّ للمحظورات
وعلى هذا النحو ثُورّت هوليوود، حتى وإن راح أصحاب اللحى يقصون لحاهم
ويدخلون في دهاليز «المؤسسة التقليدية» بالتدريج... فهم قبل ذلك كانوا، على
أي حال، قد أوجدوا متناً من الأفلام «الفيتنامية» التي فضحت الممارسات
الأميركية وعدوانيتها هناك (وهو متن نعرف أن كباراً غيرهم، من طينة ستانلي
كوبريك ومايكل تشيمينو ثم أوليفر ستون قد شاركوهم في صنعه)، ومتناً من
الأفلام التي راحت تتصدى أكثر وأكثر لقيم الحلم الأميركي والعائلة
الأميركية والنفاق الاجتماعي، مرة أخرى، ولأكاذيب التاريخ الرسمي الأميركي
برمّته...
ومنذ ذلك الجيل الذي كان أول من علّق الجرس في ذيل الثعلب إلى حد ما،
راحت تتوالى على هوليوود أجيال متعاقبة من مبدعين لم يعد عليهم إلا أن
يغرفوا من جرعات جرأة وتمرد لا بأس من القول إنها كانت هي ما أعاد إلى
هوليوود اعتبارها، في وقت كان لا يزال فيه كثر من محترفي كلام الحرب
الباردة ومناضلي الخمسينات لا يزالون غير مدركين حجم التغيّر الجذري الذي
طرأ على السينما الهوليوودية الأميركية، بين زمن يُنفى فيه المبدعون
التقدميون إلى أوروبا (كوبريك، لوزاي، اورسون ويلز وحتى تشارلي شابلن)،
وبين زمن جديد تعيد فيه هوليوود تعليم سينما العالم كيف يمكن السينما
الاحتجاجية أن تكون مسلية ومقبولة فتُحدث ثورتها العميقة في الذهنيات،
حافرة عميقاً في وعي المتفرجين لا في مواقفهم السياسية الآنية المضطربة...
والحقيقة أننا إذا وجدنا انفسنا اليوم عند «ختام» موسم سينمائي بدا
حافلاً بالأعمال السياسية المتضافرة مع لون متجدد من السينما التاريخية،
فإن ليس في الأمر ما يدهش ولا سيما من عاصمة للسينما تشهد منذ عقود تغيرات
وانفتاحات على العالم وعلى التأقلم مع ما هو راديكالي ومتقدم في هذا
العالم... وأكثر من هذا: متبحّر في إدانة جزء من الماضي الهوليوودي الخاص
وطريقة هذا الماضي في التعاطي، تحديداً مع السياسة والتاريخ!
«...
الغسيل الوسخ يغسل في البيت»
باريس - ندى الأزهري
بدت عضوة لجنة التحكيم فائقة الحيوية بملابسها الرياضية وحركتها
السريعة وحقيبتها الضخمة... لا تزال لوجهها الخالي من الزينة ملامحه
الطفولية. لم تتغير كثيراً عن تلك التي نالت جائزة التمثيل في مهرجان «فجر»
السينمائي قبل ست سنوات في طهران. تلك الجائزة التي كان يطمح للفوز بها،
معظم، كي لا نقول كل، ممثلات إيران وهذا للأهمية التي (كان؟) يشكلها «فجر»
لدى سينمائيي هذا البلد. دورها في «لعبة الدم»، لم يكن الأول.
باران كوثراني (1985) الممثلة السينمائية والمسرحية والتلفزيونية،
بدأت في السادسة من عمرها في «ابي أفضل أب في الدنيا»، ثم شاركت في الكثير
من افلام والدتها المخرجة المعروفة رخشان بني اعتماد، من «نرجس» إلى «جيلانة»
مروراً بـ «الوشاح الأزرق» و «تحت سطح المدينة»... ولكن حين تسألها عن
أعمالها، تذكر أفلاماً أخرى «تحبها»، ربما لأنها كانت قد أصبحت شابة حين
مثّلت فيها، مثل «حيران» وهو كوميديا عن مهاجر أفغاني في إيران، أو «الحصان
حيوان نبيل» لعبدالرضا كاهاني. عملت باران أيضاً مع أصغر فرهادي في «رقص في
الغبار».
كما شاركت في الكثير من الأفلام ذات الصبغة الاجتماعية وكان آخرها «
قصص» لرخشان بني اعتماد، «الممنوع من العرض» كما تضيف. وبالطبع، فإن المنع
ليس رسمياً، نستدل عليه فقط من عدم برمجة الفيلم في دور العرض.
منع متعارف عليه
في إيران المنع ليس رسمياً بالضرورة، بل أمر متعارف عليه. بمعنى أن لا
قانون يمنع عرض الفيلم ولكن أيضاً لا تصريح بعرضه. يبقى هكذا مركوناً على
الرف، إنما لا يقف ذلك حائلاً أمام تداوله على الاسطوانات المدمجة، في عروض
خاصة... أي راغب يستطيع الحصول عليه بسهولة.
كذلك، لا قانون صريحاً بمنع ممثلة ما (أو ممثل) من العمل، فقط لا أحد
يغامر بالعمل معها، لأن المخرجين على دراية بأن فيلماً تمثل فيه لن يسمح له
بالعرض في الصالات...
كان هذا في الذهن ونحن نسأل باران، التي التقيناها في لقاء خاطف بين
فيلمين في مهرجان السينما الآسيوية في فزول، عن وضع السينما الإيرانية
الحالي وعن فيلم والدتها الاخير «قصص» الممنوع «عملياً». ترد باران
باختصار: «أفضّل الحديث عن السينما الإيرانية حين أكون في إيران. من الأفضل
للغسيل الوسخ أن يغسل في البيت!». تصمت، ثم بعد أن تلحظ خيبة أملي إنما
أيضاً تأييدي لتصريحها، تضيف بحيوية: «موقفي واضح ولكنني أحبذ قوله في
إيران. إنما إذا شئت، يمكن في شكل عام القول إن وضع السينما، كحال كل شيء
في إيران، يخضع لضغوط كبيرة. لقد تركت عزلة إيران والمشاكل الاقتصادية
تأثيرها الشديد في السينما. لكنني أعتقد أن السينمائيين الإيرانيين يجدون
باستمرار الحلول للالتفاف على المشاكل، ويفتحون نافذة يعبّرون من خلالها عن
مشاعرهم. إنهم يخضعون لضغوط من كل صوب، من الدولة ومن الخارج، وما حدث بعد
الانتخابات (2009)، والكل يعرف العلاقة بين إيران والربيع العربي...». وهنا
أقاطعها وأسألها عن قصدها، فتقول: «أظن أن موجة الحرية التي بدأت من إيران
ثم هبطت في العالم العربي، ما زالت موجودة في إيران ولا نستطيع منعها. هذا
باختصار...».
وأسألها سريعاً عن رأيها في التصنيفات التي بات البعض يطلقها على
السينما الإيرانية كسينما «الداخل» وسينما «الخارج». توافق وتقول إن سينما
«المنفى» نفسها تقسم إلى قسمين: «سينما هؤلاء الذين غادروا إيران بعد
الثورة مباشرة، وبعضهم اختفى على رغم مستواهم الجيد مثل بارفيز صياد،
وأولئك الذين تركوها في ما بعد ونجحوا في شكل أفضل من الجيل الأول».
لكن باران تميل إلى السينما «الداخلية» وتعتقد أن السينما الاجتماعية،
التي هي أفضل ما في السينما الإيرانية، تعطي أفضل ما لديها عندما تكون في
«قلب الحدث». وتعتبر أن على رغم كل الضغوط الواقعة على السينمائيين
الإيرانيين، فإن أفضل الأفلام الاجتماعية هي تلك التي أُنجزت داخل إيران،
وتعطي مثلاً فيلم «انفصال نادر وسيمين» لأصغر فرهادي الذي ترى أنه جاء
«نتيجة بحث معمق ورؤية شديدة القرب من المجتمع الإيراني». وهذا ينسحب على
أفلام رخشان بني اعتماد وعبدالرضا كاهاني ودريوش مهرجوي وكمال تبريزي،
وكلها أسماء لمؤلفين سينمائيين «يعملون في الداخل». وتقول: «لا أنكر كل ما
يحدث في إيران ويثقل كاهل السينمائيين، لكن ثمة عبارة حازت إعجابي في فيلم
«قصص»، وهي أن أي فيلم لا يبقى أبداً في الخزانة»!
حتى كياروستامي
وحين أشير اليها بأن بعض من ذكرت ككاهاني مثلاً (صاحب فيلم «بيست» و
«هيج»...) غير معروف في الخارج كثيراً على رغم شهرته في إيران، تقول إن لا
بد من أن نلتقي بهؤلاء المعروفين في إيران فقط يوماً في المهرجانات
العالمية. أما المخرجون الشهيرون الذي يعملون خارج إيران، فكلهم يعيشون على
نجاحهم «الإيراني» كما تؤمن، وهم غادروا إيران بعد أن بنوا شهرتهم فيها.
وتضيف: «حتى كياروستامي العبقري، فإن أفضل أعماله الاجتماعية حققها في...
إيران».
روايات عن الفقر والحرب...
«كما لو أننا نمسك كوبرا»
بيروت - محمد غندور
تواكب الدورة السابعة من مهرجان «أيام بيروت السينمائية» نبض الشارع
العربي، وتقدّم أعمالاً تحاكي ما بعد الثورة في مصر، وتسارع الأحداث في
سورية ولبنان وفلسطين، وإظهار حالات الفقر والتهميش في المغرب، ونشاط حركات
إسلامية في الجزائر. واللافت في بعض هذه الأعمال، قوة تأثيرها في المشاهد،
وتأثرها الواضح بالنهج السينمائي الأوروبي البطيء.
وعلى رغم تنوع المواضيع، الا أن الأفلام المعروضة، قدّمت وبصورة غير
مباشرة، انعكاسات اجتماعية وسياسية واقتصادية مرافقة للتوترات الأمنية في
بلدان عربية، وبحثت في قضايا الهوية والانتماء. وعلى سبيل المثل تناول
وثائقي السورية هالة العبدالله «كما لو أننا نمسك كوبرا» حرية التعبير
والرقابة، من خلال فنانين تحدّوا السلطة والديكتاتورية. وتابع العمل شخصيات
رسامي كاريكاتور سوريين ومصريين، أمثال حازم الحموي وعلي فرزات، ووليد طاهر
قبل الثورات وأثناءها.
وفي عملها الروائي الطويل الأول «الخروج إلى النهار»، اعتمدت المصرية
هالة لطفي على بطء الأحداث لاكتشاف العلاقة بين فتاة تهتم بأمها وأبيها
المُقعد بعد جلطة دماغية أصابته. الفتاة التي تجاوزها قطار الزواج، تبحث عن
الأمل في حبيب لا يرد على اتصالاتها، وفي المشي طويلاً بين الأحياء الشعبية.
وتقتحم كاميرا المغربية ليلى الكيلاني في عملها الروائي «على الحافة»
عالم الفقر والأحلام والتهميش. تعمل بديعة وإيمان في طنجة بتقشير القريدس
نهاراً، وتمارسان الحيل ليلاً لكسب مزيد من المال. الفقر في الفيلم لم يكن
خياراً بل واقعاً مفروضاً، ورائحة القريدس المتثبتة بجلد الفتاتين، لا تخرج
بسهولة، ما يفضح هويتهما دوماً. تبدو الفروق واضحة بين الأعمال المغربية
وباقي الأفلام، من حيث الكادرات وجمالية الصورة، وجرأة المواضيع المعالجة،
والانفتاح في التعاطي مع اللغة السينمائية، وعدم الارتهان لعادات أو تقاليد
قد تقيّد الفيلم. حيث يلاحَظ أن المعالجة السينمائية المغربية أي موضوع
مطروح تبدو أعمق، والصورة أكثر إشراقاً، خصوصاً بعدما قررت الدولة دعم هذا
القطاع وضخ الأموال فيه.
ويختتم المهرجان مساء الأحد المقبل بـ «عالم ليس لنا» للفلسطيني مهدي
فليفل ويرصد فيه سيرة ثلاثة أجيال عاشت المنفى في مخيم عين الحلوة (جنوب
لبنان) بحميمية وكثير من الدعابة. يعتمد الفيلم على تسجيلات شخصية،
ومحفوظات عائلية ولقطات تاريخية، كما يلقي الضوء على معاني الانتماء،
والصداقة والعائلة.
حروب لبنان
تخيّم الحرب على العروض اللبنانية المشاركة. بعض المخرجين يناقش ما
قبل الحرب الأهلية، وبعضهم يعرض ما حصل بعد انتهائها، فيما تذهب فئة للنبش
في الذاكرة كإليان الراهب التي تبحث عن المجرمين والمعذبين. «ليال بلا نوم»
هو الجامع المشترك بين مسؤول المخابرات السابق في القـــوات اللبـــنانية
أسعد شفتري الذي يبحث عن سبل للتطهر من الماضي الدموي الــذي انــخرط فيه
إبان الــحرب الأهلية، ومريم سعيدي التي لم تتعب من البحث عن ابنها ماهر
الفتى الذي قاتل في الحزب الشيوعي اللبناني واختفى أثره عام 1982.
ويحارب فؤاد عليوان في فيلمه «عصفوري» للحفاظ على ذكرياته في البناية
التي سكنها قبل انطلاق الحرب الأهلية، والعمل على ترميمها بعد الحرب لحفظ
أرشيفه الصوري والجماعي، ولكن حلمه يصطدم بمشروع شركة عقارية تريد إنشاء
برج تجاري مكان بنايته - الذكرى.
ويعود المخرجان خليل جريج وجوانا حاجي توما في الوثائقي «النادي
اللبناني للصواريخ» إلى حدث لا يعرف اللبنانيون كثيراً عنه. في مطلع
الستينات، صمم أستاذ مع طلابه في جامعة هايغازيان صواريخ وأطلقوها لدراسة
الفضاء واستكشافه. وعلى رغم النجاح الذي حققه المشروع، فقد توقف فجأة عام
1967، وتبدّد كلياً من الذاكرة الجماعية. يروي الفيلم هذه المغامرة من خلال
شهادات ووثائق فيلمية وأرشيفية، في محاولة لإحياء الماضي.
ومن الأعمال اللافتة التي لاقت إقبالاً جماهيرياً كبيراً «74 -
استعادة النضال» للأخوين رانيا ورائد رافعي. قبل اندلاع الحرب الأهلية، شهد
لبنان حالاً من الغليان الفكري والثقافي، وتوسعاً للحركات والأحزاب
اليسارية، وترافق ذلك مع تحركات طالبية ونقابية وعمالية. وفي عام 1974
قرّرت إدارة الجامعة الأميركية في بيروت رفع رسوم التسجيل 10 في المئة، ما
دفع الطلاب إلى الاحتجاج والتظاهر واحتلال مباني الجامعة وتعليق الدروس،
واستمر الإضراب لـ37 يوماً بين آذار (مارس) ونيسان (أبريل)، إلى أن دهمت
قوات الأمن المباني واعتقلت 61 ناشطاً.
مع انطلاق تحركات الربيع العربي عام 2011، وفي ظل التواترات الأمنية
في لبنان، أراد المخرجان الشابان العودة إلى الماضي والبحث عن تفاصيل
الحادثة. لم يكن الأمر سهلاً، خصوصاً أن البحث في الأرشيف تطلب حوالى سنة،
كما أن إعادة تمثيل الحادثة تحتاج إلى ممثلين لديهم خلفية فكرية معينة.
لذا، استعان الأخوان رافعي بنشطاء سياسيين كان لهم دور بارز في عدد من
التحركات المدنية والثورية، ويتمتعون بشخصيات قيادية وقدرات خطابية معقولة.
واللافت أن غالبية الحوارات كانت ارتجالية وعفوية.
ينسّق مجلس الطلاب مع الحركات الطالبية في جامعات أخرى، ويعمد إلى
اتخاذ خطوات تصعيدية تجاه الإدارة التي علقت الدروس، ولم تأبه بالتحرك.
الحوارات الفكرية في الفيلم ثقيلة، إنما عميقة، نابعة من شبان بنوا
شخصياتهم على فكرة الإيمان بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
سبعة أشخاص احتلوا مكتب مدير الجامعة وحوّلوه إلى غرفة عمليات، لنقاش
الخطوات اللازمة، والسهر ليلاً وممارسة ألعاب فكرية، إضافة إلى الكحول
والشاي والقهوة والسجائر.
تحولات... شخصية
لم تخرج الكاميرا خارج المبنى الذي قطنه «الثوار». أراد المخرجان حصر
الفكرة بالتحولات الفكرية والشخصية والعزلة التي مارسها الطلاب السبعة.
ويظهر الفيلم انقسام الآراء حول مدى جدوى التحرك بعدما طال، من دون أن يحقق
أهدافه. خلال ذلك تنسحب بعض القوى الطالبية من التحرك، فيبقى الطلاب السبعة
ومناصروهم وحدهم بلا دعم كافٍ. وهنا، تبدأ النقاشات تأخذ منحى أكثر جدية،
خصوصاً بعد صدور قرار باقتحام القوى الأمنية المبنى. وفي المقابل بدا
الطلاب الذين قادوا التحرك، مقتنعين بما يفعلونه. هي ثورة شخصية قبل أن
تكون طالبية. هي مساحة لممارسة كل الأفكار التي قرأوا عنها في كتب سميكة
ذات مصطلحات معقدة نسبياً. حادثة الجامعة الأميركية عام 1974، وعدم خروج
الكاميرا إلى الشارع، فسّرا التناقضات في المجتمع اللبناني، وأعطيا بعض
الأسباب لاندلاع الحرب الأهلية بعد الحادثة بسنة.
تسارعت وتيرة الأحداث بلغة سينمائية ذكية، وكادرات تقول أكثر مما
تظهر، عبر رسوم غرافيتي على الجدران وشعارات ثورية. خرج الفيلم من الإطار
الخاص ليدخل في العام، في بعض المشاهد. قراءة عناوين الصحف الصادرة في
بيروت خلال تلك الفترة، كوّن انطباعاً لدى المشاهد عما يجري في مدينة تغلي.
تحركات نقابية وعمالية وطالبية، وتظاهرات تجتاح الشوارع.
أما يوم 13 نيسان 1975، فكان نهاية الفيلم، وبداية الحكاية.
«عن
يهود مصر» لوحة عن مفهوم الهوية المصرية
القاهرة – نيرمين سامي
تبدو فكرة صناعة فيلم عن يهود مصر لافتة لما خلفته هذه الطائفة من
تأثيرات في تاريخ مصر كانت فيها لاعباً مؤثراً. ومع هذا، فإن معظم الأعمال
الدرامية التي ظهرت فيها شخصية يهودية، تناولت غالباً يهود مصر بسطحية
متعمدة إظهارهم في ثوب الخونة والأعداء، ما أفقد هذه الحقبة زخمها، وساهم
في توسيع الفجوة بين النحن والآخر. من هذا المنطلق عمل المخرج المصري أمير
رمسيس ذو الـ34 سنة على فيلمه التسجيلي «عن يهود مصر»، الذي يسرد من خلاله
تاريخ يهود مصر، من وضعهم بعد النكبة، وعلاقتهم بالإخوان المسلمين، حتى ما
بعد ثورة 1952 وخروجهم من مصر، عبر عمليات الهروب او الطرد العشوائي خلال
تلك الفترة. لكن سعادة أمير بإنجاز فيلمه لم تكتمل بعدما «اعتدى جهاز الأمن
الوطني على سلطة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، ومنع عرض الفيلم في
الصالات على رغم الموافقة الرقابية مرتين للعرض العام من دون ملحوظات
رقابية في بانوراما الفيلم الأوروبي ثم للتصدير، مع عرضه في أكثر من
مهرجان»، على ما أوضح رمسيس. وبناءً على ذلك، تقرر تأجيل عرض الفيلم الى
أجل غير مسمى بعدما كان مقرراً عرضه في 13 آذار (مارس) الجاري، على أن تتخذ
كل الإجراءات القانونية ضد كل من وزارة الثقافة، ووزير الثقافة محمد صابر
عرب بشخصه وصفته، لطلبه تأجيل تجديد الترخيص حتى يشاهد الفيلم شخصياً، وهو
ما اعتبره أمير قانونياً تعدياً على سلطة جهاز الرقابة.
تلميذ شاهين
أمير رمسيس عشق السينما منذ الطفولة متأثراً بأعمال المخرج الراحل
يوسف شاهين، وتحديداً فيلمه «إسكندرية كمان وكمان»، فقرر اتباع موهبته
ودراسة الفن السابع في معهد السينما في القاهرة، الذي تخرج فيه بتقدير
امتياز، وحاز مشروع تخرجه («وسط البلد») عدداً من الجوائز والمشاركات
بمهرجانات مهمة. وكانت الخطوة الأهم في بداية مشواره العمل مساعداً ليوسف
شاهين من ٢٠٠٠ حتى ٢٠٠٤، إلى أن أخرج أول أفلامه الطويلة «آخر الدنيا» عام
2006 بعد أفلام قصيرة وتسجيلية عدة، أعقبه فيلم «كشف حساب» عام ٢٠٠٧ ثم
فيلم «ورقة شفرة» عام ٢٠٠٨، وأخيراً «عن يهود مصر» الذي استغرقه ٣ سنوات
منذ بدأ تصويره، لكن البحث والتحضير بدأ منذ ٢٠٠٨.
تلميذ يوسف شاهين عبّر عن تأثير الفيلم فيه بشكل شخصي بعد اكتشافه أنه
منذ التطبيع واتفاقية كامب ديفيد، يستطيع أي مواطن إسرائيلي دخول مصر بلا
قيد، في حين ما زالت أسماء من تنازلوا عن جنسيتهم قهراً عام 1956 من يهود
مصر على قوائم المنع من الدخول، والكثير منهم ما زالوا يحتاجون إلى تدخلات
كي يزوروا بلدهم كانت تقوم بها شخصيات مثل: ثروت عكاشة وخالد محيي الدين.
عن فكرة الفيلم، ومبادرة طرحه في صالات العرض، يقول أمير: «فكرة الفيلم
تطورت عبر فترة زمنية طويلة مع بداية الألفية الثانية. أيّ مصري الآن يلاحظ
أننا ننظر الى الآخر من منظور ضيق جداً، ونتعامل مع مفهوم الهوية المصرية
بسطحية عبر حصرها في مفاهيم طائفية وثقافية واتجاهات نعتقد أن من ينتمي
إليها مصري ومن لا ينتمي إليها ليس مصرياً كاملاً. لذا قررت العودة إلى
النصف الأول من القرن العشرين حين كانت الهويات والثقافات والأديان
المختلفة تحيا في تآلف في مصر المحروسة. اعتقد أن اليهود المصريين وما حدث
لهم بعد 19٤٨ و1956 مرآة جيدة لهذا العصر، وناقوس خطر للمرحلة الحالية.
الفيلم مصنوع بمدة الفيلم السينمائي، لذا جاءت فكرة عرضه في السينما
حيث لم نراع مدة الفيلم التسجيلي الريبورتاجي التلفزيوني (٥٢ دقيقة)، لكن
كانت عيوننا على السينما كوني مخرجاً سينمائياً في الأساس. اما المبادرة
فجاءت من الفنانة إسعاد يونس التي تحمست للفيلم ومضمونه وطرحت مبادرة طرحه
في صالات العرض من خلال الشركة العربية، في ظل سوق سينمائي لا يكاد يعترف
بالسينما الروائية المختلفة، فما بالنا بتلك التسجيلية. لولا تلك المبادرة
لظل الفيلم حبيس العروض في دول العالم، بعيداً من الجمهور المصري».
ويرى رمسيس أن الفيلم التسجيلي وسيط مناسب جداً لفكرة فيلمه نظراً
لحساسية موضوعه وتشابكه، ويشرح قائلاً: «أي طرح روائي كان سيجعل الفيلم
منقوص المعلومات أو مباشراً وهو ما لا أرضاه. الفيلم يتحدث عن يهود مصر في
النصف الأول من القرن العشرين، وتداخلهم مع المجتمع وأسباب خروجهم من مصر،
تغير صورتهم عند المصريين.
ويحاول الفيلم التفريق بين كلمة يهودي وكلمة صهيوني أو إسرائيلي من
خلال نماذج من اليهود المصريين العادين الذين كانوا ضد الصهيونية بل لهم
نشاط فعال ضدها». لكن، أفلا يحصر فِكر أمير رمسيس السينمائي أفلامه تحت ما
يسمى بـ «أفلام المهرجانات»؟، يجيب: «لا يوجد هذا التصنيف غير في مصر، لأن
المهرجانات تنتقي أفلامها من الإنتاج السينمائي للعام في العالم كله. عندنا
فقط نصنع هذا التصنيف. من يفكر فيه أعتقد أنه يصنع سينما مزيفة. أعتقد أن
أفلامي الثلاثة الأولى: «آخر الدنيا»، و«كشف حساب» و«ورقة شفرة»، وتحديداً
الأخير يضعني في خانة ما يسمى خطأ «مخرج أفلام تجارية»، لكن «عن يهود مصر»
مع حال التدافع الجماهيري التي حدثت على عرضه الأول والتي لو تكررت قد يؤكد
هذا بلا شك. لا أعتقد أن هناك وصفة أو نوع سينمائي يعرف بـ «فيلم
المهرجانات». أمير غير قلق من أي نقد قد يوجه إليه بانحيازه الى يهود مصر،
«بالطبع أنا منحاز الى الطائفة. لا نصنع أفلاماً من دون انحياز. حين أتحدث
عن المرأة، فأنا منحاز الى المرأة، وحين أتحدث عن الفلسطينيين، أنا منحاز
الى الفلسطينيين، وحين أتحدث عن السود في أميركا، فأنا منحاز اليهم. لم
أقدم فيلماً لم يتحيز الى قضيته أو الى شخصياته. أحببت صنع الفيلم عنهم
وأنا منحاز اليهم، أحببت يوسف درويش، شحاتة هارون، هنري كورييل، أحمد صادق
سعد، ليلى ومنير مراد، وتوجو مزراحي. لا أستطيع صنع فيلم عن أناس لا أحبهم».
ليس كل يهودي صهيونياً
وعن كيفية تواصله مع أبطال الفيلم، ومعايير اختيارهم، يقول: «تواصلت
معهم من خلال مصادر بحثية عدة ومساعدات الكثير من الأصدقاء في القاهرة
وباريس. وكوني أتحدث عن اليهود المصريين محاولاً إزالة الخلط بين كلمة
يهودي وصهيوني، اخترت نماذج قد تكون أكثر تدعيماً لهذا الموقف، وهم من
اختاروا عدم الذهاب إلى إسرائيل حتى بعد طردهم من مصر، وممن كانوا فعالين
ضد الصهيونية طوال حياتهم كيوسف درويش وشحاتة هارون وغيرهما. بحثت في
الأساس عمن كان لهم دور وطني لا غبار عليه لطرح فكرة الفيلم، محاولاً توضيح
أن ليس كل يهودي صهيونياً، كما أن ليس كل مسلم يقبل صورة أسامة بن لادن في
التظاهرات ويسميه شهيداً وبطلاً».
أمير استند خلال فترة الإعداد للفيلم إلى عدد من المراجع مثل «تاريخ
يهود النيل» لجاك حسون، ترجمة الراحل يوسف درويش، و«شتات اليهود المصريين»
لجويل بنين، و«يهود مصر من الازدهار الى الشتات» لدكتور محمد أبو الغار،
«كما ساعدني الباحث والصديق عصام فوزي في الحصول على أرشيف صحافي ضخم
للفترة ووثائق خاصة بالطائفة وخطابات ليلى مراد مع محمد نجيب خلال أزمتها
الصحافية الشهيرة، فضلاً عن شهادات من عضو الضباط الأحرار الراحل أحمد
حمروش، وبالطبع يهود مصر في فرنسا والقاهرة».
وينفي أمير أن يكون اختياره الفكرة جاء مع تولي الإخوان المسلمين
للحكم كونهم كانوا أحد أسباب رحيل اليهود عن مصــــر، موضحاً أنه بدأ العمل
على الفيلم عام ٢٠٠٩ حين كانت الجماعة محظورة، وحتى حين التقى أحد أعضائها
للحديث عن أحداث 19٤٧ و19٤٨ كان ذلك في ٢٠٠٩، «وقتها، لم تكن لدي هواجس حول
الجماعة قبل أن تتحول الى الحزب الوطنـــي الجديد حالياً. لكن لا شك، ما
فعــــله الإخوان في الأربعينات من القرن المـــاضي مع اليهود المصريين
موثق ومعترف به منهم شخصياً، وخطبة حسن البنا الشهيرة في عابدين قبل موجة
العنف في حارة اليهود ليست سرية، بل كلها أحداث موثقة».
وعن محاولاته مع الرقابة لتمرير الفيلم، يجيب: «لم أعان كثيراً. اعتقد
أن الأمر كان ممكناً أن يكون أصعب. اعترف بأن في فترة المناقشات المتوجسة
من الفيلم ساهم رئيس الرقابة الحالي عبدالستار فتحي - لم يكن في هذا المنصب
وقتها، الفيلم أخذ موافقة الرقابة في فترة الدكتور سيد خطاب - في مساندة
الفيلم وفي الحصول على موافقة السيناريو. لم أكن أعرفه قبلها، لكن أعتقد أن
مناقشاته معي عن السيناريو وموقفه الحضاري عادت إلى ذاكرتي في شكل مباشر
يوم تولي منصب رئيس الجهاز وتنفست الصعداء بأن هذا الكرسي لم تتم محاولة
السيطرة على فكره بعد».
وعما إذا كان لا يزال متفائلاً بحال السينمــــا المصرية، يرد قائلاً:
«لا أستطيع ادعاء التفاؤل لكنني لست متشائماً. مـــررنا بأيام أسوأ وأنا
شخصيا بدأت مشواري في وقت كان حال السينما المصرية أسوأ مليون مرة سواء من
كم الإنتاج أو من عدد الأفلام الجيدة وسط هذا الكم. ما زلنا قادرين على
الصمود. لكن سينمائيي مصر مروا بأيام أسوأ.
كما أن التكنولوجيا تتطور وتتغير يومياً ليصبح صنع فيلم كل يوم أسهل
من اليوم السابق. جعفر باناهي تحت الإقامة الجبرية وممنوع من صنع أفلام في
إيران، ومع ذلك أعماله تجوب العالم منذ منعه النظام الإيراني الديكتاتوري
من التعبير عن رأيه وحرمانه حتى من حرية التنقل. نحن أمام إنسان ممنوع من
مغادرة منزله بينما أفلامه وأفكاره تجوب العالم. فأي نظام يستطيع اليوم أن
يمنع فكرة إذاً؟». أمير رمسيس له رواية واحدة نشرت عام 2010 تحت اسم «نشيد
الإنشاد»، فضلاً عن خوضه الإخراج للدراما التلفزيونية عام 2011 عبر المسلسل
المغربي «صالون شهرزاد».
مومن السميحي وأحاديثه عن السينما المغربية
الدار البيضاء - نور الدين محقق
تعتبر تجربة المخرج السينمائي المغربي مومن السميحي مميزة داخل المجال
السينمائي في بلده، فهو قد سعى منذ أفلامه الأولى إلى تشكيل رؤية سينمائية
مخالفة للمعتاد، تغوص في المسكوت عنه سواء كان فردياً أو جماعياً، وتقدمه
للمشاهد وفق تقنية إخراجية ترتكز على المزج بين التصوير البانورامي العام
الذي يقدم الفضاءات في كليتها، كما فعل في فيلمه المعروف «الشركي» خصوصاً
في بدايته، وبين التصوير المركز الذي يفكك بنية الصور الداخلية للشخصيات
المقدمة من أجل سبر أغوارها انطلاقاً من عملية التصوير ذاتها، قبل اللجوء
إلى الاستعانة بالموسيقى. وهو ما يفعله غالبية المخرجين. وقد تجلى هذا
الأمر في فيلمه الجميل «العايل» الذي قدّم فيه صورة لطفولة باحثة عن ذاتها
في فضاءات مدينة طنجة، بكل ما تحمله هذه الفضاءات من متخيل واقعي ومؤسطر
أيضاً.
وبين هذا الفيلم وذاك ظل السميحي في جل أفلامه حريصاً على هذا التميز
الرؤيوي للأشياء وعلى هذه الخصوصية الفنية بالتحديد والتي جعلت النقد
السينمائي يدخل تجربته السينمائية ضمن خانة «سينما المؤلف» بكل استحقاق.
وبالموازاة مع إخراجه لأفلامه السينمائية، كان السميحي حريصاً على
مساءلة تجربته السينمائية بشكل خاص، والتجارب السينمائية الأخرى بشكل عام.
وهو ما أفصح عنه في كثير من كتاباته التي بدأ يصدرها تباعاً في كتب. ومن
بين هذه الكتب جاء كتابه «حديث السينما» بجزءيه ليسد فراغاً في المكتبة
السينمائية العربية، سواء المغربية منها أو المشرقية.
في هذا الكتاب تحدث المخرج عن مجموعة من المواضيع المهمة المرتبطة
بالمجال السينمائي بشكل عام، والمغربي منه بالخصوص، ولكن في بعده الثقافي
الشامل الذي يجعل من السينما مرآة المجتمع المعبرة بقوة عن مختلف الاتجاهات
الفكرية فيه. وقد انطلق في هذا الكتاب من الحديث عن علاقته بالسينما وعن
ذهابه إلى باريس حيث ترعرع بالاعتكاف على الخزانة السينمائية ومتابعة
الدراسة بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا هناك. كما تحدث عن إشكالية
التعبير بالصورة حيث السينما هي ممارسة وتعامل مع نظام الصورة ونظام الصوت
المندمج معها. كما تحدث عن علاقته بمدينة طنجة وكيفية تقديمه لها في أفلامه
لا سيما في فيلمه «الشركي».
تحدث المخرج مومن السميحي أيضاً في كتابه هذا عن فيلمه «44 أو أسطورة
الليل» مركزاً في هذا الصدد على زوايا قراءته تاريخ المغرب المعاصر وكيف
سعى إلى تقديم هذا التاريخ ليس كمؤرخ وإنما كفنان سينمائي بالدرجة الأولى،
مستشهداً في هذا الصدد بكل من سيغموند فرويد ورولان بارت لتوضيح رؤيته لهذه
الأمور.
وبالإضافة إلى هذا تحدث عن فيلمه الجميل «قفطان الحب المنقط بالهوى»،
متوقفاً بعمق عند تيمة الحب والعلاقة الظاهرة والمستترة بين كل من الحب
والجنون، ليصل إلى الحديث عن الكتابة والأسطورة في السينما المغربية.
في الجزء الثاني من الكتاب الثري تحدث السميحي عن السينما والمشكلة
الثقافية في العالم الثالث، وعن السينما المغربية والتساؤل الفكري وعن
العلاقة بين الأدب والسينما، وعن الإيمان بالسينما على اعتبارها نافذة
لرؤية العالم. بالإضافة إلى مواضيع سينمائية متعددة أو لها علاقة بالسينما
في بعدها الرؤيوي للعالم، ونذكر منها على سبيل المثال : «يوميات فيلم»،
«تصوير طرف الخبز»، «يجري ويجاري»، «مجاعة فكرية»، «المرأة في أفلامي»،
«أوراق العمر»، «المثقف والمجتمع المدني». وقد جاء هذا الجزء الثاني ليدعم
وجهات نظر المخرج مومن السميحي في القضايا التي أشار إلى بعضها في الجزء
الأول من الكتاب وليتطرق إلى مواضيع أخرى مرتبطة بها، خصوصاً ما يتعلق
بمنهجية الكتابة السينمائية وبالسيميائيات والتحليل.
في اختصار يعتبر هذا الكتاب السينمائي، الفكري والتأملي، بجزءيه الأول
والثاني، من دون أدنى مبالغة إثراء للثقافة السينمائية بشكل خاص، وللثقافة
السينمائية في مختلف تجلياتها الفنية والفكرية بشكل عام. هو بالتالي كتاب
جدير بالقراءة والمتابعة التعريفية منها والنقدية على حد سواء.
الوصول إلى الكارثة... بكمالها
دمشق - فجر يعقوب
ليس ممكناً فصل حياة الممثل الأميركي من أصل مكسيكي أنطوني كوين عن
عمله في السينما. هي حياة لا تبدأ إلا من النقطة التي توقفت فيها عن أن
تكون مجرد حياة لشخص عاشها بشغف وبصوت عال ربما لم يسبقه إليه أحد. تفنن
بكتابة سيرته الذاتية «راقص التانغو وحيداً». كانت بمثابة مرآة شعرية خالصة
للتملص من ضغوطات كثيرة عرفها في حياته: الشهرة، الحياة العاطفية الصاخبة،
الزواج، الأولاد، الفشل، وخوار العزيمة أحياناً بالرغم من القوة الداخلية
التي كانت تميزه في كثير من مواقفه، والأدوار التي قربته من النجوم، ودفعت
به لأن يكرر كثيراً عبارة «جولة على دراجة» في طيات الكتاب الذي صدر
مترجماً إلى العربية أخيراً عن مؤسسة السينما السورية بترجمة من عبد الرزاق
العلي. لم تكن هذه الجولة إلا الصوت العالي الذي كان يعلق فيه كوين على
حوادث مر بها، وتركت تأثيراً في حياة فنية حافلة. سيذكر ذلك الجفاء الكبير،
وربما الحسد الذي ميز علاقته بمارلون براندو حين مثل دور شقيقه في فيلم
لإيليا كازان. كان براندو موهبة تستحق الحسد. تستحق أن يحلم بالحلول محلها
من يملك موهبة مؤجلة في الجهة المقابلة لأي فيلم يعمل فيه. لم يفهم براندو
سبب هذا الجفاء. لم ينكر على «شقيقه» في الفيلم ذلك. ربما كازان نفسه من
أثار انشقاقاً بينهما، ودفع بهما إلى كراهية متبادلة للحصول على المشاعر
المناسبة لفيلمه. ربما لم يكن الأمر كذلك، ولكن الأكيد هو أن «جولات» كوين
على الدراجة لا تنطلق من دوافع الرياضة والنزهة. إنها هندسة الأفكار التي
تقترب في جزء منها من هندسة المدن والمنازل. لطالما حلم كوين بأن يكون
مهندساً لتغيير كثير من الطرق التي فكرت بها البشرية للوصول إلى الحديقة أو
المنزل. كان حلماً مكلفاً يوصل إلى الكارثة بكمالها: زوجة. بيت. أطفال. لم
يكن يعني ذلك أن تغيير الطرق الالتفافية قد يساهم بتغيير تلك الحالة التي
رفعت من مهاراته بقيادة الدراجة الهوائية على هذه الطرق التي لن تتغير. من
سيتغير هم البشر الذين يصلون إليها من مختلف جهات المعمورة، وكل بداعي
إنشاء فكرة أو تصور جديد عن العالم الذي يحيط به. رحلة جديدة تدفع بمخرج
«المواطن كين» لأن يلقبه بـ «راقص التانغو وحيداً»، لأنه الوحيد ممن عرفهم
يجهر بآرائه بصوت عال. كان كوين قد انتهت علاقته ب، «أسطورة هوليوود
الدافئة» ريتا هيوارث وأراد أورسون ويلز معرفة رقم هاتفها الخاص منه لأنه
«يريد الزواج منها». تهرب كوين كثيراً، وكان ويلز الذي أصبح فتى هووليود
المدلل في تلك الفترة يسبغ عليه كثيراً من نعم «اللقب». لم يكن يمكر
بالطبع. ولكن «كوبلاي خان» الذي حلم بالقبّة الزجاجية المعلقة في سماء الفن
السابع، كان ينشد بعضاً من مثالية الحلم باكتماله مع هيوارث. كان ملحاحاً
بطبعه وعنيداً مكابراً، وقد دفع ثمناً غالياً بعد ثلاث سنوات من الارتباط
بها، حين التقيا على واحدة من «دراجات» كوين وسمع منه عبر ضحكته المجلجلة
كل الذي كان يتوقعه.
حاز أنطوني كوين أوسكارين لأفضل دور ثانوي في فيلم « فيفا زاباتا»
للمخرج أيليا كازان 1952 وفيلم « شهوة للحياة « للمخرج فينسان مينيلي عن
دور الرسام غوغان الذي لا يتعدى على الشاشة بضع دقائق 1956. رشح لأوسكار
أفضل ممثل في فيلم «الريح الوحشية» لجورج كيوكر 1957 وفيلم «زوربا»
اليوناني لميكائيل كاكويانيس 1964. ظهوره المهني الأول بشكل احترافي على
خشبة المسرح كان عام 1936 حيث تعرف إلى ماي ويست وجون باريمور، وهما من
حدثاه عن هوليوود واستوديواتها العملاقة التي لا ترحم ممثلاً أو ممثلة.
يقول كوين في إحدى جولاته الكثيرة على الدراجة إن كلارك غيبل هو من كان
يهمه. لقد سكنه طوال حياته. وسكنه في موته. كانت روحه تخترق البيت، ويأتيه
في الليل بصورة شبح، ويسأله عن سبب الكره. كان كوين يجيبه بأنه يكرهه لما
كان عليه، وليس لما هو فيه الآن. يعترف كوين بأنه لم يستطع أن يهزمه وهو
حي، ولكنه في موته لم يشكل مشكلة، فقد أضحى مجرد شبح آخر يملؤه الشك والخوف
مثل البقية.
يرى كوين في سيرته الذاتية أن فيلم «عمر المختار» من إخراج السوري
مصطفى العقاد، شكل له انعطافة سينمائية كبيرة. صحيح أنه اشتهر في الغرب
بدوري «زاباتا» و«زوربا»، ولكن دور الثائر الليبي عمر المختار أصبح علامة
فارقة. ربما لم تكن كذلك في الغرب. ولكن الدفء الذي قوبل به في العالم
العربي صنع له تلك العلامة التي لم تكن ممكنة في الغرب. فيلم «عمر المختار»
- وعنوانه العربي كما نعرف «أسد الصحراء» - قام على خديعة، يقول كوين. كان
يتحتم على مصطفى العقاد أن يخدع «الرئيس الليبي» معمر القذافي بصور للمختار
لم تكن بحوزته. الصور كانت لأنطوني كوين نفسه، وأشرف عليها بعض خبراء
الماكياج العالميين، حتى أن الخدعة انطلت على القذافي بسهولة، معتقداً أن
الصور تعود لعمر المختار، وهي مجموعة لم تكن ضمن مقتنياته الشخصية للزعيم
الليبي.
رحل أنطوني كوين عام 2001 بعد أن عاش حياة مديدة وصاخبة. لعب في أكثر
من سبعين فيلماً، وأنجب دزينة من الأولاد، وخلف وراءه بيوتاً في أماكن
مختلفة من العالم.
الحياة اللندنية في
22/03/2013 |