ما زال الفنان "جميل راتب" يعتبرُ نفسه ممثلاً
مصرياً، هو أكثر تواضعاً من المُبالغات التي كتبتها الصحافة العربية عنه،
ووصفته
بالممثل العالميّ، تتبعثرُ ذكرياته ما بين الحاضر، والماضي،
وتلخصُ مشواراً
حياتياً، وفنياً متفرداً، فقد غادر القاهرة في منتصف الأربعينيّات قادماً
إلى باريس
لدراسة العلوم السياسية، وسرعان ما تركها طوعاً، والتحق بإحدى مدارس
التمثيل، وخسر
المنحة التي كانت مخصصة له، كان يطمح بأن يكون ممثلاً مسرحياً،
وارتضى لنفسه
المُعاناة المعيشية من أجل طموحاته.
لم يندم على ذاك القرار الذي أجبره على
الاعتماد على نفسه، بعد هجرته لبلده، فحقق أحلامه، وعايش
أحداثاً فنية، ثقافية،
وسياسية عن قربٍ، ما كان له أن يعيشها لو رضخ لرغبة عائلته الارستقراطية
بأن يصبح
رجل سياسة، وقانون، وكان التمثيل بالنسبة لها عيباً
.
تلقفته السينما الفرنسية،
والعالمية في أدوارٍ صغيرة كبرت فيلماً بعد آخر، ووصلت إلى
بطولاتٍ مطلقة. زيارةٌ
عائليةٌ إلى مصر في منتصف السبعينيّات غيّرت من مسيرته، فقد فتحت له
السينما
المصرية أبوابها بدون أن يبذل جهداً من طرفه، وأثار اهتمام مخرجين عرب،
فأسندوا له
أدواراً مهمّة في بعض أفلامهم.
تتضمّن قائمة أعماله (وُفق الفيلموغرافيا التي
وضعها الناقد السينمائي المصري "محمود قاسم") حوالي 56 فيلماً
مصرياً، 5 أفلام
لمخرجين عرب، 17 فيلماً أجنبياً، بالإضافة إلى عددٍ كبير من المُسلسلات،
والمسرحيات
المصرية، والفرنسية.
في السينما المصرية، تعاون مع الكثير من المخرجين، ومنهم :
صلاح أبو سيف، علي عبد الخالق، كمال الشيخ،
علي بدرخان، بركات، سعيد مرزوق، يوسف
شاهين، عاطف الطيب، أسامة فوزي، يسري نصر الله.....
ومن العرب: محمود بن محمود،
مؤمن السميحي، فريد بو غدير، رشيد فرشيو، سمير الغصيني، بوعلام
غردجو، عبد الكريم
بهلول، وهيام عباس.
ومن الأجانب: كارول ريد، ديفيد لين، إدوارد مولينارو، مارسيل
كارنيه، بيير غرانييه ديفير،......
يتذكر "جميل راتب" بكثيرٍ من الحنين،
والإعجاب فتراتٍ متألقة من حياته، اقترب خلالها من عمالقة
الفكر، السينما، والمسرح،
ذخيرةٌ من الحكايات لم ينسَها في زحمة العمر، يحكيها بنفس الصوت القويّ
الخشن الذي
يتردد في أفلامه.
لا يشتكي من غربةٍ، ولا يتذمرّ من وحدةٍ إبداعية تخيّرها
لنفسه، راضياً عن مشواره الفني، والحياتي، يحبّ جمهوره المصري، ولا يتوانى
عن
الاعتراف بالجميل نحوهم، ويطرب عندما يُناديه أحدهم بكلمة "عمي".
بمُناسبة
تكريمه في الدورة الثامنة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (7- 14
ديسمبر2011)، لم تكن
صدفةً عرض فيلمين من أفلامه : المصري "البداية" (1986) لمُخرجه "صلاح أبو
سيف"،
والفرنسي "غيمةٌ في كوب ماء" (2011) لمُخرجه "سرينات كريستوفر ساماراسينغ".
*******
البدايات
:
كانت بداية مشواري الفنيّ أدوار بطولة في المسرح الفرنسي،
ولكن، في السينما أدواراً ثانوية، كما أخرجتُ أفلاماً للتلفزيون الفرنسي.
عندما
كنت في مصر، وقبل سفري إلى فرنسا، مثلتُ دوراً بسيطاً في فيلم بعنوان
"الفرسان
الثلاثة"، كان ذلك في الأربعينيّات، وكنت أحبّ التمثيل، وكانت عائلتي
تُعارضني،
ومنعتني من مشاركتي في الفيلم، وطلبت من المخرج حذف المشهد
الذي مثلته، كانت
الأبواب، بالنسبة لي، مغلقة تماماً، كنت في تلك الفترة أدرس الحقوق، ومن
ثمّ جئتُ
إلى فرنسا لدراسة العلوم السياسية، وكان لديّ منحة اعتمدت عليها في معيشتي،
ولكنها
توقفت، والتحقت بمدرسة التمثيل، وبدأت أعمل مع فرقٍ مسرحية
بسيطة في مسارح صغيرة،
وكنت أشارك في أدوار رئيسية، كما عملت في أشغال خارج التمثيل كي أنفق على
نفسي،
اشتغلت كومبارس، وفي سوق الخضار، ونادل في مقهى، ومترجم... ويوماً بعد يوم،
أصبحت
معروفاً كممثل، وهكذا أكملت مشواري، كانت الخطوات الأولى صعبة
في البداية، ومع
إصراري، بدأت أهدافي تتحقق تدريجياً.
في أواخر السبعينيّات، ذهبت إلى مصر كي أُنهي أعمالاً عائلية، قبل ذلك
كنت
أزورها كلّ سنتين تقريباً، وخلال تلك الزيارة تعرفت على الشاعر "صلاح
جاهين"، كان
إنساناً، وصديقاً عظيماً، ومن خلاله اقترح عليّ المخرج "كرم مطاوع" دور
البطولة في
مسرحية بعنوان "دنيا البيانولا"، وافقت، وخلال فترة قصيرة انهالت عليّ
العروض من
أهمّ المخرجين كي أمثل أدواراً مهمة في مسلسلاتٍ تلفزيونية، ومنذ تلك
الفترة، بدأت
أخطو خطواتٍ جديدة في حياتي.
في الحقيقة، لم يكن هدفي التمثيل في السينما، ولم
أكن أحبّ الوسط السينمائي، وكنت أفضل العمل المسرحي ممثلاً، ومخرجاً، ولكن
انتقالي
إلى السينما، والتلفزيون حوّل حياتي الفنية، وكسبتُ شعبية كبيرة في مصر.
وصلت
إلى فرنسا في مرحلةٍ إبداعية غنية جداً من الناحية الفنية، والثقافية، وكان
هناك
كبار المفكرين، والمخرجين، عشتُ في وسط تلك المرحلة، وقريباً من تلك
الشخصيات
العظيمة، لو لم أحضر إلى فرنسا في سنّ العشرين ما كنتُ عايشت ذاك المناخ
الذي أثرّ
في تكويني الفكري، ولهذا أعتبر نفسي محظوظاً من هذه الناحية.
السينما لم تكن حبي الأول.. ولكني طرقت
بابها الكبير
منذ أن كنت صغيراً، أحبّ السينما، وأحرص على مشاهدة
كلّ الأفلام، ولكن، كان هدفي التمثيل في المسرح الذي كان في مرحلة انفتاح
كبيرة
جداً.
بعد نجاحي في مصر اشتركت في أعمالٍ مهمة جداً، هناك بعض الأفلام
المصرية
التي أعتبرها من أهمّ الأعمال، "الصعود إلى الهاوية" للمخرج "كمال الشيخ"
استلمت
أول جائزة تمثيل عن هذا الفيلم، ومن ثمّ "البداية" للمخرج الكبير "صلاح أبو
سيف"،
وحصلت عنه على جائزةٍ من أحد المهرجانات في سويسرا، وفيلم "لا
عزاء للسيدات" للمخرج
"بركات" مع الفنانة "فاتن حمامة".
هناك فيلمٌ تونسي"شيشخان" حصلت به على جائزة
في إحدى دورات "بينالي السينما العربية" بباريس، وأخرى في باستيا
(كورسيكا)،...
"وداعاً بونابرت" فيلمٌ مهم، وأيضاً "لورانس العرب"، ولكن لم
يكن
دوري فيهما رئيسياً، في"شيشخان" كنت أتحدث اللهجة التونسية، عندما صورت في
تونس،
أجرى المخرج، والمنتج بروفات تمثيل لأول مرة، وطلبا مني بأن أتكلم باللهجة
المصرية،
أو اللغة الفرنسية، قلت لهما : لا يمكن، أمهلوني أسبوعاُ، وبالفعل، بعد
أسبوع بدأت
أتكلم باللهجة التونسية، ولكن اللهجة الأسهل، بالنسبة لي، هي
المصرية طبعاً.
لدي أفلام
محدودة القيمة أردت بها الانتشار
في مرحلةٍ من مسيرتي
الفنية تحتم عليّ قبول بعض الأدوار، عندما قررت الاستمرار في مصر، كان لابد
من
إثبات وجودي في أفلام خفيفة، في الحقيقة، مثلتها بهدف الانتشار، وكنت أعرف
بأنّ
قيمتها محدودة، كانت أفلاماً جماهيرية، ولم تكن سيئة في إطار
نمط الإنتاج وقتذاك،
ولكن ليست من النوعية التي أرغب بمشاهدتها كمتفرج.
وبعد ذلك بدأت أختار الأفلام
التي تُناسب أفكاري السياسية، والاجتماعية مع مخرجين كبار،
ولكنني عملت مع الكثير
من المخرجين الشباب الذين كانوا ينجزون أفلامهم الأولى، وكنت سعيداً بأن
يعرضوا علي
أدواراً، كانوا يعتبروني من نوعية الممثلين القدامى، وكانت بالنسبة لي
أفلاماً
مهمة، لأنني كنت أتعرف على السينما الجديدة، وأولئك الشباب،
وثقافتهم، أصبح البعض
منهم مشهورين، كانوا يشكلون مستقبل السينما المصرية، ولم تكن أفلامهم
تافهة، كان
ذلك الجيل يمتلك هماً ثقافياً في مرحلة مهمة في السينما المصرية، وبما أنهم
كانوا
شباباً، فقد كانت لديهم اهتمامات بالقضايا الاجتماعية،
والسياسية، وقدموا في
أفلامهم مواضيع محظورة مثل الجنس، الدين، والحريات،...
لن أقول عنهم بأنهم شباب
الثورة اليوم، ولكنهم كانوا يعكسون في أفلامهم الأفكار
الشبابية، عندما كنت ألتقي
بواحدٍ منهم، كنت أحرص على التعرّف عليه، وأقتنع بأفكاره، كانت مغامرة
بالنسبة لي،
فقد لا ينجح الفيلم رُبما، ولكن، عندما يحقق نجاحاً، كنت بدوري أنجح معه،
وكان من
المهم أن ينجز هؤلاء تلك الأفلام.
اليوم مثلاً، لا أقبل العمل إلاّ في أفلام
تتضمن معنى، ثقلاً، ومضموناً حتى وإن فشل الفيلم، أنا على
استعدادٍ للعمل فيه أفضل
من المشاركة في أفلام تقليدية.
مازلت أحتفظ بنسخ بعض هذه الأفلام، أشاهدها
أحياناً بالصدفة عندما تبثها إحدى القنوات التلفزيونية. عندما
أشاهدها، أحاول
التدقيق في نقاط الضعف لتحسين أدائي في المرات القادمة، وعندما أجد في دور
معين
الأداء جيداً، أعترف لنفسي بأنني لن أستطع تكراره في فيلم آخر، في المسرح
مثلاً،
عندما نشاهد ممثلاً سيئاً نتعلم منه كثيراً، الأفلام الجيدة
التي عملتها لا أستطيع
أن أعملها بطريقةٍ أخرى، هناك أدوار نجحت فيها، وأخرى أديتها بصدق، ولكنني
لست
نادماً عليها.
خياراتي
متعددة.. وليست كلها ناجحة
أعتزّ بدوري في فيلم "جنينة
الأسماك" لمخرجه "يسري نصر الله"، وحصلت على جائزة عنه على
الرغم من صغره، وأيضاً
دوري في فيلم "عفاريت الإسفلت" لمخرجه "أسامة فوزي". من
القدامى، أحبّ العمل مع
"صلاح أبو سيف"، "كمال الشيخ"، "بركات"، عندما أعمل مع المخرجين العظام
أبقى
متواضعاً جداً، هم يقودون العمل، وأنا في خدمتهم. ولأنّ "أسامة فوزي"،
و"يسري نصر
الله" أصغر مني سناً، فإنّ علاقتي معهما تختلف بالمقارنة مع المخرجين
القدامى الذين
كانوا أكبر مني، كنت مطيعاً لهم بالمعنى الفني.
الآخرون مهمين جداً، لأنه يوجد
تبادل فكري معهم، ويضخون دماء جديدة في العمل، والفنّ، وكنت
أتناقش في تفاصيل
معينة.
كان "سيدة القطار" لمخرجه "مؤمن السميحي" من الأفلام الغير ناجحة،
عندما قرأت الموضوع وجدته جيداً، ومن تونس عملت مع "فريد بو غدير"، و"رشيد
فرشيو".
كان"شيشخان" أول فيلم مثلته في تونس، وبدأت الحكاية عندما مثلت مع
"علي
بن عياد" دور "عطيل" في مسرحيةٍ بمناسبة افتتاح أحد المسارح المهمّة، كان
أكبر
ممثل، ومخرج في ذلك الوقت، والتقينا مع "محمود بن محمود"، و"فاضل الجعايبي"،
وكانا
وقتذاك طلبة في الجامعة، وبعد مشاهدتهما للمسرحية، قالا لي سوف نعمل معاً
في يوم
من الأيام، كانوا ظرفاء جداً، أتذكر بأنهما قالا لي بأنّ الشخصية عمرها 75
عاماً،
وكان عمري في ذلك الوقت 50 سنة، وعندما تحققت طموحاتهما، وبدآ
بإخراج الفيلم، اتصلا
بي فعلاً، وبعد اليوم الأول من العمل معهما، طلبا مني بأن أؤِدي الدور كما
أريد،
ويجب القول بأن المسرح، والسينما التونسية، من أحسن المسارح، والسينمات
العربية،
فقد أنجزوا أعمالاً قوية، يمكن القول بأنّ المستوى الفني،
والثقافي في تونس عالي
جداً.
الجزيرة الوثائقية في
21/12/2011
جميل راتب، مشوار حياة 2/2
صلاح سرميني ـ باريس
في الحلقة الأولى من "مشوار حياة"، تحدث
الفنان "جميل راتب" عن بداياته المسرحية في فرنسا، وعودته بعد ثلاثين عاماً
إلى
مصر، وانطلاقة مسيرته السينمائية فيها.
في هذا القسم الثاني يكملُ ذكرياته
المُبعثرة عن مشاركته كممثلٍ في أفلامٍ أجنبية، وعلاقته مع
كبار الممثلين مثل :
أنطوني كوين، محمود المليجي، محمود مرسي، محمد صبحي،...والممثلات : غابي
مورليه،
فاتن حمامة، سناء جميل،..
والأهمّ، يُصحح، ورُبما للمرة الأولى، خطأ شائعاً
انتشر في الصحافة العربية يشير بأنه كان عضواً في "الكوميدي
فرانسيز"،......
العمل مع
الكبار
كان أول فيلم أجنبيّ اشتركتُ فيه هو "ترابيز" لمُخرجه "كارول ريد"،
ومن ثمّ
عملتُ مع مخرجين آخرين، ومنهم "مارسيل كارنيه"، "ديفيد لين"، وهو مكسبٌ
كبير لأيّ
فنان.
هناك ممثلٌ عظيمٌ جداُ عملت معه في فيلم "لورانس العرب"، واستفدت منه،
ومن
إنسانيته، وأصبح من أكبر أصدقائي، هو "أنطوني كوين"، كان يعتبرني مثل أخيه
الصغير،
واكتسبت الكثير من علاقتي معه على المستوى الفني، والإنساني.
كان "أنطوني كوين"
يوماً في روما يمثل "زيارة السيدة العجوز"، وأرسل لي بطاقة سفرٍ كي ألتقي
مع
المخرج، وعندما وصلت هناك، فوجئت بأنه لا يوجد دور لي، فعرضوا عليّ العمل
كمساعد،
وافقت، لأنني كنت مهتماً بالإخراج السينمائي، فقد أخرجت سابقاً
أفلاماً للتلفزيون
الفرنسي لصالح قناةٍ متخصصة بأفلام موجهة للمغرب العربي.
من حظي في المسرح
الفرنسي بأنني عملت مع ممثلين مهميّن مثل "لوران تيرزييف"، و"سوزان فلون"،
..كان
أغلب الممثلين الذين عملت معهم من طراز عالٍ جداً، وكان العمل معهم مكسباً
كبيراً
لي.
فيما يتعلق بالممثلين العرب، كان هناك تفاهمٌ فنيّ مع "سناء جميل"،
"محسنة
توفيق"، "فاتن حمامة"، و"سعاد حسني"، ولكن "فاتن حمامة" مهمة جداً، فهي
ممثلة
كبيرة، ولا أحد يستطيع انتقاد أدائها، هي "أم كلثوم" السينما، لا يوجد نقاش
حولها،
هناك فنانون كبار، ولكن هي خارج هؤلاء تماماً.
عملت أيضاً مع "ناديا لطفي"،
"سعاد حسني"، "مريم فخر الدين"، "مديحة يسري"، "هدى سلطان"،...وأغلب
الممثلات الذين
أصبحن نجماتٍ في غيابي، لو كنت بقيت في مصر، كنا نجحنا مع بعض.
بالنسبة
للممثلين الرجال، هناك واحدٌ مهمٌ جداً، وأعتبره أستاذاً كبيراً، هو "محمود
المليجي"، وفي المسرح، والتلفزيون أحب العمل مع صديقي "محمد صبحي"، هو
مخرج، مؤلف،
وممثل عظيم في المسرح، ولكن، لم يستطع أن يكون بنفس الحجم في السينما، إنه
فنان
كبير، واستفدت منه كثيراً، عملت مع أغلب الممثلين الرجال:
"صلاح السعدني"، "نور
الشريف"، "عادل إمام"،... ولكن، بالنسبة لي، كممثل، لا أعتقد
بأنهم أضافوا لي كما
فعل كلّ من "محمود المليجي"، و"محمد صبحي".
"محمود المليجي" إنسانٌ متواضعٌ
جداً، فنانٌ كبير، يهتم، ويركز في عمله، اشتغلت معه في بعض
الأفلام، وكنت حريصاً
بأن أكون في مستواه، هو من الممثلين العظام الذين خدموا الفن بصدقٍ،
واحترام.
كما كنت من المُعجبين جداً بممثل عظيم هو "محمود مرسي"، هناك بعض
الأدوار التي رفضها، وطلب من المخرجين، والمنتجين بأن يقترحوها عليّ، كان
من
المفترض بأن يمثل في مسلسل "الراية البيضاء"، ولكنه اعتذر، ومثلت الدور
بدلاً عنه،
كان مهماً بالنسبة لي، لقد أثرّ علي كثيراً في الفنّ، وعلى المستوى
الإنساني.
من
الأسباب المهمة التي جعلتني أغادر مصر هي حبّ الأعمال الفنية، فأنا حالياً
أعيش بين
البلدين، لأني تعودت العيش في فرنسا في أجواءٍ ثقافية، وفنية مهمة جداً
أكثر من
مصر.
التجربة
الفرنسية
كنت واحداً من ممثلي "الفرقة الفرنسية للكوميديا"،
وكان رئيسها عضواً في "الكوميدي فرانسيز"، وهو احد الذين ساعدوني على
العمل،
والانتشار في الفنّ، ولم أكن عضواً في "الكوميدي فرانسيز"، وهذا التشابه
جعل
الصحفييّن يكتبون بأنني عملت مع "الكوميدي فرانسيز".
مثلت مع ممثلين في جولات، بدأنا جولة في عددٍ من البلدان العربية،
وكنت أمثل دور
البطولة، كانت الفرقة اسمها "تروب فرانسيز دي كوميدي" بإدارة "جان مارشا"،
الحقيقة
هو الذي اختارني.
هناك شخصية مهمة في تلك المرحلة، "غابي مورليه"، واحدة من أكبر
الممثلات، كانت صديقة للعائلة، ولخالي "محمد سلطان"، وكنا نعتبرها مثل
خالتنا،
عندما جئت إلى باريس فرحت بي جداً، حاولت مساعدتي، ولكن خالي رفض، نقل لها
أكاذيب
عني، حتى اليوم الذي شاهدتني في حفل تخرجي من مدرسة التمثيل،
كانت في لجنة التحكيم
مع "جان مارشا"، وبعد أن حصلتُ على الجائزة الثانية، قالت لي بأنّ اللجنة
رغبت بأن
تمنحنك الجائزة الأولى، ولكني اقترحت على الأعضاء بأن يمنحوك الجائزة
الثانية،
وقررت أن تساعدني، عندما وجدتني في الأستوديو، اندهشت، وقالت :
"يستطيع هذا الشاب
البقاء في بلده معززاً، مكرماً، ولكنه يعيش في باريس بتواضع، لقد ترك كلّ
شيء في
مصر، وجاء إلى فرنسا من أجل المسرح".
وتحدثت مع المخرج، ومنحني دوراً
صغيراً.
كان "سليمان نجيب" ينظم الموسم المسرحي في مصر، ويعرف الممثلين
الأجانب،
قابل "جان روشا" وقال له:
ـ هل تعرف ممثلاً مصرياً اسمه "جميل راتب" ؟
ـ نعم
أعرفه.
ـ هل تعتقد بأنه يستطيع التمثيل في فرقتك.
وأعطوني دور
البطولة.
كان "سليمان نجيب" يعتقد بأنه من المهم أن تتضمّن دار الأوبرا ممثلاً
مصرياً، كان رجل مسرح، ويحب المسرح.
"سليمان نجيب"، "جان مارشا"، "أنطوني
كوين"، "غابي مورليه"،... هؤلاء ساعدوني في حياتي الفنية بالدعم المعنوي،
وبطرقٍ
مختلفة، وهذا أمر لا أنساه أبداً، لقد رحلوا عن عالمنا جميعاً، وأفكر
أحياناً بأنني
لم أعرف كيف أعبر لهم عن شكري، ولكن هذه هي الحياة.
مصر ... بعد
ثلاثين سنة
عشت في فرنسا ثلاثين سنة قبل العودة إلى مصر، بعد
تلك السنوات الطويلة، تعرفت على الشعب المصري، وأدركتُ بأنه من أعظم
الشعوب، شعرت
بمصريتي، ويتحتم عليّ الإشارة بأنني أحب الجمهور المصري الذي
رضي بي، بدون قبول
المصريين ما كنت أصبحت ممثلاً معروفاً، وأنا نفسي مندهش لقبولي، إذا لم
يتبن
الجمهور ممثلاً لن يمتلك أيّ حضور.
خلال فترة قصيرة، تعرفت على الشعب المصري،
تستقطب مهنتي كلّ الفئات الاجتماعية، البورجوازيين، والعمال من
كلّ طبقات المجتمع،
ومن خلال معاشرتهم يستطيع الواحد منا أن يفهم ماذا تعني مصر، والمصريين،
وأنا قريب
جداً من الناس البسطاء، وفي عملي أعتمد على آراء العمال، لأنهم صادقون،
عندما أمثل
مشهداً، وأتلقى منهم إشارة الرضا، هذا يعني بأنني أديت دوري
بطريقةٍ
صحيحة.
عندما حصلت على بعض الشهرة، يمكن أن ألتقي بممثلٍ يجاملني، ويقول لي:
إنت هايل، أو يقول لي: "إنت زي الزفت"، وهنا رُبما يحسدني، ولهذا، أعتمد
على
الجمهور لأنه صادق.
هناك ثلاث وقائع عشتها، وأثرت عليّ جداً، في إحدى المرات،
كنت أشارك في برنامج تلفزيوني، وكان هناك حوار معي، وكنا نتلقى مكالماتٍ من
الجمهور، عندما انتهى اللقاء، قالت لي مقدمة البرنامج :
ـ هل هناك أشخاصاً تريد
أن تشكرهم؟
قلت لها : نعم، ثلاثة.
ـ من هم ؟
ـ أولاً، سائقٌ، وقف، نزل من
الأوتوبيس، سلم عليّ، وصعد مرة أخرى، لقد أثرت تلك الواقعة علي
كثيراً.
في مرةٍ
أخرى، كنت في المطار أنتظر صعود الطائرة، تقدمت نحوي سيدة تعمل في النظافة،
امرأة
بسيطة جداً، نظرت إلي، وغابت، ثم عادت، وقدمت لي زجاجة من المياه الغازية،
وقبل أن
أشكرها، اختفت وسط الزحام.
في مرةٍ ثالثة، سافرت إلى القاهرة، وأوصلني سائق
تاكسي إلى بيتي، وفي الطريق دار بيننا حديث عن الأولاد، وفي لحظةٍ وجه لي
سؤلاً:
ـ وحضرتك عندك أولاد، أجبته بالنفي، فردّ علي فوراً:
ـ ولا يهمّك، كلنا
أولادك،
..
هذه ثلاث وقائع حدثت معي، وتأثرت منها جداً، وأريد أيضاً أن أشكر
الجمهور، لولا تبنيه لي، لما حظيت على شهرتي هذه، أنا لست نجم شباك، ولكن
وجودي في
العمل مهم، وما يريحني، ويخدمني الشعبية، وأقولها بتواضعٍ،
بأنها أكبر من النجوم
الكبار، الجمهور قريبٌ مني، وأنا بدوري قريبٌ منهم، وأحسّ بهم.
خلاصة
القول..
أنا معجبٌ بالكثير من الممثلين، ولا
يعني بأنهم أثروا في تكويني، يجب أن يمتلك الممثل نوعاً من
الموهبة، أو الحضور، قال
لي "أنطوني كوين" مرةً، بأنّ الممثل يصبح في قمة الأداء بعد 30 سنة، في
البداية
شجعني كبار المخرجين، ولكن الممارسة، والمجهود في العمل هو الذي يجعل
الممثل
يتقدم.
مثلت كثيراً في المسرح، وعندما رجعت إلى مصر عرضوا علي أدواراً
سينمائية،
كانت فرصة بأن أعمل في السينما، لأنّ العمل فيها مختلف عن المسرح،
والتلفزيون.
وافقت على أعمالٍ كثيرة، جيدة، وغير جيدة، لا أخجل من الأعمال التي
مثلتها، تعتبر في الوضع العام للسينما المصرية أعمالاً جادة، وفرصة بأن
أمثل شخصيات
مختلفة، كانت تجربة مفيدة، كنت أوافق على فيلم إذا كان الدور
يمنحني فرصة
للتعبير.
بالنسبة للأدوار المختلفة، بوليسية، أو كوميدية في الأفلام التجارية،
كان يعنيني منها الأدوار الجيدة، وفرصة بأن أجرب، أمارس، وأتعلم، وأتعوّد
على هذه
الأدوار، وكنت أفكر بأنه عندما يكبر الممثل في المهنة يمكن أن
يختار، وهو ما حدث
معي فعلاً.
كان من المفترض أن أنجز فيلماً بعنوان "عصفور الشوارع"، عرضت على
الممثلة، والمخرجة الفلسطينية "هيام عباس" بأن تعمل معي، وأمثل الدور
الرئيسي،
ولكن، مع الأسف، لم نستطع الحصول على تمويل للفيلم، ومازلت أحتفظ
بالسيناريو.
الجزيرة الوثائقية في
28/12/2011 |