فى أحد بيوت مدينة السادات سيدة تسكن فى إحدى الشقق، بالدور الثالث أو
الرابع غالبا، ذلك أن البيت من دون مصعد، وبالتالى من الصعب أن يكون عمارة
كبيرة مكونة من تسعة أو عشرة طوابق، السيدة وحيدة، مثل آلاف الوحيدات
اللائى يعشن حولنا.. ويقال إن هذه السيدة سيئة السمعة، تسمح بأعمال منافية
للآداب فى مسكنها وذات مساء طرق بابها طارق، ولما فتحت الباب فوجئت بثلاثة
رجال برءوس حليقة وقد أطلقوا لحاهم. يرتدون الجلابيب البيضاء القصيرة
والسراويل الطويلة ويضعون فوق رءوسهم طاقيات مخرمة الجوانب، ولا يذكر
السيناريو نص الحوار الذى دار بين الطرفين. فقط جملة خبرية تقول إنهم
أوهموها بأنهم طلاب متعة.. أزاحوها جانبا واقتحموا المكان، دخلوا الحجرات
بحثا عن النساء. لم يجدوا أحدا. وفيما يبدو أن الغضب استبد بهم، وما هى إلا
لحظة إلا وجرجروها، من شعرها، على السلالم وخرجوا بها إلى الشارع. فوجئت
الضحية بكتيبة من رجال أشداء، بذات الزى الأبيض، حددت الصحف عددهم بـ«350»
ثلاثمائة وخمسين! وبينما تتعرض المرأة للمهانة، صعد عدد من الأشاوس إلى
شقتها، نزلوا حاملين أثاثها وكل مقتنياتها. كوموها فى منتصف الشارع. أشعلوا
فيها النيران، وكانوا كرماء مع السيدة، فتركوها بعد علقة موت.
هذا الكلام ليس وصفا لواحد من أفلام الرعب المعتمدة على المغالاة، ولكن،
كما جاء فى الصحف، وقائع حدثت فعلا.. فى مصر، وفى الحاضر. ولم تقل لنا
الصحف ما الذى جرى، لاحقا، هل تم القبض على الجناة، أم أن السلطات
القانونية خافت من منظر الكتيبة القادمة من الجحيم.. كذلك لم يذهب صحفيو
الحوادث إلى مكان الفعل المشئوم، وهل صحيح أن أشباه الرجال هؤلاء، حقيقة،
ضمن جماعة دينية، أم مجرد بلطجية.. وهل لهم علاقة بقطع أذن مواطن مصرى ــ
قبطى أو مسلم، لا يهم ــ وهل هم أنفسهم الذين منعوا أسرة من الصلاة فى جامع
لأن بعض أفرادها من اللصوص.. الإجابة لا تخرج عن أحد احتمالين: إما أنها
عصابات عادية، خارجة عن القانون، ولا علاقة لها بالجماعات، وهذا ما أتمناه،
وهنا يصبح على الدولة التعامل معهم بالقانون.. أو أنها جماعة مقتنعة أنها
دينية، والدولة والناس يخشيان بطشها، مما سيجعل خطرها يتضاعف، وستتحول إلى
كيان تضخمه المخاوف، على الرغم من ضعفها.
عقب الحرب العالمية الثانية، كتب الأديب المفكر برتولد بريخت «النازية.. هى
عقاب الشعب الألمانى»، لأن الألمان هم الذين اختاروا النازية، من خلال
صناديق الاقتراع، وقتل منهم سبعة ملايين ألمانى.. وأخشى ما أخشاه أن يكتب
«بريخت مصرى»، بعد عشرين عاما: الدولة الدينية.. هى عقاب الشعب المصرى.
الشروق المصرية في
30/03/2011
إليزابيث
بقلم: كمال رمزي
فى بداية التسعينيات، فاجأت إليزابيث تايلور الجميع، بوقوفها أعلى سلم مدخل
مستشفى، وهى صلعاء تماما، تبتسم ابتسامة عريضة، مشرقة، نابعة من القلب،
يمتزج فيها البشر مع الشقاوة. لم تكن اللقطة ضمن فيلم سينمائى ولكن واقعية،
حقيقية، ذلك أنها اصيبت بأورام، وبعد تدخل جراحى استكملت شفاءها بعلاج
كيميائى، يسبب تساقط شعرها، وبشجاعة قررت أن تظهر صورتها على هذا النحو،
لتقوى عزيمة ملايين النساء، اللاتى فى مثل وضعها، وتشجعهن على مواجهة
الحياة، من دون شعر.
شفيت إليزابيث من الأورام، واعتبرت نفسها محاربة ضد مرض الإيدز الذى كان
يفتك بالآلاف، خاصة فى أفريقيا، القارة التعيسة، فبدأت حملتها الواسعة من
أجل إنشاء مراكز للعلاج والأبحاث، وبجاذبيتها، وثقافتها العريضة، جمعت
الكثير من الأموال لتحقيق مشروعها. وفى تجمع كبير للأثرياء ورجال الأعمال
بلندن، لمست شغاف القلوب حين تحدثت لهم قائلة «اليوم أقف أمامكم ليس بصفتى
ممثلة على الشاشة، ولكن بوصفى ممثلة لكل المرضى الذين يتعذبون من آلام
الإيدز.. كل الأطفال الذين يموتون فى الدول الفقيرة.. فأنا صوت الأنين الذى
يخرج من كل مريض، وزفرات الآهات التى لا تصل لمسامعكم، من الأمهات المنسيات
فى الضواحى.. وتمكنت إليزابيث من إقامة مستشفى كبير، فى الكونغو، ومراكز
طبية فى العديد من البلدان.. إنه جانب إنسانى نبيل، لا يمكن إغفاله فى حياة
من أطلق عليها قطة هوليوود المدللة».
إليزابيث تايلور «1932 ــ 2011» ولدت فى بريطانيا، هاجرت مع والديها إلى
أمريكا وهى فى السادسة من عمرها، ولم يكن من الممكن أن تغفلها عيون هوليوود
المنتبهة، فالتقطتها، طفلة، لتقدمها فى «شخص يولد كل لحظة ــ لهارولد يونج
1945» ثم «لوسى تأتى للبيت» لفريد ويكوكس 1943، و«جين اير» لروبرت ستيفنس
1943، وسرعان ما ودعت الطفولة، لتغدو فتاة ناضجة، فنيا ونفسيا وثقافيا
وجسمانيا، وأتيحت لها الوقوف أمام كبار الممثلين: مونتجمرى كليفت فى «مكان
تحت الشمس» 1951. روبرت تايلور فى «إيفانهو» 1952. بول نيومان فى «قطة على
سطح صفيح ساخن» 1958، وفى العام 1966، التقت ريتشارد بيرتون فى «من يخاف
فرجينيا وولف» الذى أخرجه مايك نيكولس».. ومرة أخرى يقف أمامها بيرتون
ممثلا، وخلفها مخرجا أيضا، فى «الدكتور فوستس» 1967 المأخوذ عن مسرحية «مأسأة
الدكور فوستس» لكريستوفر مارلو.. وما بين الفيلمين يقدمان سويا، أشهر وأنجح
أفلامهما: «كليوابترا» لجورج مانكوفيش 1966، وبصرف النظر عن الأخطاء
التفصيلية المتعددة فى الفيلم، فإن إليزابيث، بقدراتها تمكنت من تجسيد
عشرات الانفعالات المتغيرة مع الحفاظ على الإحساس بكرامة وكبرياء ملكة..
ذلك أنها من النوع النادر الذى يستطيع أن يكون أى كائن يريده، فهى الصاخبة،
العدوانية، المشاكسة، فى «ترويض النمرة» لجورج سيدنى 1952، والزوجة
المتعطشة للحب والحنان فى «قطة على سطح صفيح ساخن».. لم تنجح إليزابيث فى
أفلامها السبعين، بضربة حظ، لكن بموهبتها، وجديتها، وأخذها لفنها مأخذ
الجد.. وغادرت الدنيا، وسط أبنائها وأحفادها بهدوء، بعد أن أنجزت، إنسانيا،
ما يستحق التقدير.. فكما يقول أكبر أولادها «عاشت حياتها بشغف وشجاعة».
الشروق المصرية في
26/03/2011
ذاكرة المكان.. لها رائحة ولون وطعم
بقلم: كمال رمزي
صدق من أطلق عليه «قلب مصر»، فالحركة بداخله لا تتوقف، يستقبل ويرسل، من
الصعب تخيل القاهرة بدونه. تطورت وتغيرت بعض تفاصيله، لكن ملامحه الجوهرية
ظلت على حالها، ربما لأن المجمع، بجلاله، ومساحته، حدد له شكلا لا يمكن
الفكاك منه. اسمه أصلا ميدان الإسماعيلية، الخديو الذى حلم يوما أن تغدو
القاهرة مثل باريس، عاصمة النور والجمال، التى عشقها. ورأى الخديو، فى زميل
دراسته بفرنسا، على مبارك، خير من يستطيع تحقيق صورة عصرية للقاهرة، فأوكل
له، فيما كلفه من مشاريع، تحويل منطقة البرك والأتربة ــ الممتدة من بولاق
إلى ما يعرف بقصر العينى الآن ــ إلى مركز للعاصمة، ونجح كل من على مبارك
وإسماعيل فى مسعاه، وأصبحت المساحة الكائنة وراء مجمع التحرير، الذى لم يكن
موجودا أيامها، قاصرة على سرايات الطبقة الحاكمة، باسم جاردن سيتى، وأقيمت
ثكنات للجيش المصرى فى المساحة التى تحولت، فيما بعد، إلى جامعة الدول
العربية وفندق هيلتون ومبنى الحزب الوطنى المنهار. وعقب هزيمة أحمد عرابى
بعد أيام، أصدر الخديو توفيق مرسوما بحل وتسريح الجيش المصرى، ووجدت القوات
البريطانية فى ثكنات قصر النيل مكانا نموذجيا لجنودها، يتوافق تماما مع
استراتيجيتها التى تفضل أن يكون تمركزها بجانب الممرات المائية، فتقيم
قاعدة لها فى قناة السويس، وكما هو الحال بالنسبة لسفارتها التى أثارت
زوبعة دبلوماسية حين تقرر استقطاع جزء من حديقتها الذى يقطع كورنيش النيل.
فى 17 مارس 1947، انسحبت القوات البريطانية من معسكرات قصر النيل، وقام
الملك فاروق برفع العلم المصرى على الثكنات، فى حضور قيادات الجيش المصرى،
ورئيس الوزراء، محمود فهمى النقراشى، ولم يفت الملك ارتداء الملابس
العسكرية، وبعد ثلاث سنوات، وافق على البدء فى بناء مجمع التحرير، وأمر
بإقامة قاعدة جرانيتية عملاقة، فى منتصف الميدان، يليق بأن يوضع فوقها
تمثال لجده، إسماعيل باشا.. وجاءت القاعدة قطعة فنية بديعة، تجمع بين
الأبهة، والرسوخ، فضلا عن الانسياب والنعومة، تتكون من عدة عمدان، تنهض على
كحكة دائرية، وتندمج العمدان فى جسم اسطوانى، تؤدى فى أعلاها إلى ثلاث
دوائر هرمية.. لكن أحداث التاريخ، أحيانا تعصف بخطط ومشروعات أشد السلطات
قوة ونفوذا.. قامت ثورة يوليو 1952. وبينما الملك يبحر منفيا من البلاد،
كان تمثال إسماعيل باشا، المصمم والمصنوع فى إيطاليا، قادما على سفينة، إلى
الشطآن المصرية.. هكذا، الخديو يأتى متأخرا، وبينما مات إسماعيل باشا منفيا
عام 1895 فى اسطنبول، نفى تمثاله وضاع داخل مصر، ويقال إنه وضع فى جراج
واسع ببورسعيد، ولما تعذر نقله، أو ربما لأنه لم يعد له ضرورة، تم بناء
عمارة حوله، وترك منسيا فى مكانه. لقد ذهب عصر وجاء عصر، وبقيت القاعدة
الجرانيتية خاوية.
بعد ثورة يوليو، تغير اسم الميدان، أصبح ميدان الحرية، ثم ميدان التحرير،
وإبان العواصف الساخنة، عقب رحيل جمال عبدالناصر، اتجه التفكير العام نحو
وضع تمثال كبير، يليق بالزعيم، فى المكان الشاغر، أعلى القاعدة، وبالطبع،
لم يكن الرئيس السادات مهيأ، نفسانيا، لتنفيذ الفكرة. ربما خطر على باله أن
تحمل القاعدة، فى يوم ما، تمثالا له.. لكن هذا اليوم لم يأت، ولن يأتى
أبدا، وذلك أن القاعدة نفسها، جرى تفكيكها عام 1990، بسبب الحفر تحتها،
لاستكمال مشروع مترو الأنفاق. وحتى الميدان الذى تقرر أن يحمل اسم السادات،
أصر الناس، بعفوية، أن يظل «ميدان التحرير»، متجاهلين تلك اللافتتين
المعلقتين على سورى الجامعة الأمريكية وجامعة الدول العربية، والمكتوب
عليهما «ميدان أنور السادات».
للأماكن حضورها فى الذاكرة، برغم تغير ملامحها أو اختفائها، أثرها
الانفعالى يظل باقيا، خاصة حين يرتبط المكان بوجوه أو أحداث.. «مقهى على
بابا»، فى ميدان التحرير، الصغير، المكون من دورين، برغم أنه تحول إلى محل
لبيع العاديات، والذى يعلن أنه للإيجار، لا يزال قادرا على إثارة البهجة
عند كل من التقى نجيب محفوظ، فى مكانه المفضل، بالدور الثانى، صباحا..
«مقهى إيزافيتش»، الذى تحول إلى مكتب سياحة، والذى كتب عنه مكاوى سعيد
صفحات تقطر محبة فى كتابه الشائق «مقتنيات وسط البلد»، يكاد المرء يتذوق
«عيش السراية» عندما يتذكره.. لكن يبقى لقاعدة التمثال حضورها الأعمق،
لدرجة أن الكثير منا، ينسى أنها قد أزيلت، فالواضح أنها أصبحت قطعة من
التاريخ، لا تزال نابضة بالحياة، على المستوى العام، والخاص، ومما يزيد من
أهميتها، موقعها فى منتصف ميدان التحرير، قلب مصر.
غير صحيح ما يقال عن استكانة الشعب المصرى واستسلامه للجلادين، فنظرة
واحدة، خاطفة، لنصف القرن الأخير، تبين بجلاء، نزعة الإباء عند المصريين،
واستعدادهم للاستشهاد فى سبيل الكرامة والعدل، ولعل مخالب السلطة، ممثلة فى
الجحافل المتنامية للفيالق المسماة حماية الأمن، تؤكد إدراك النظم
المتوالية لقوة الجماهير المصرية، فإذا كان شعراوى جمعة هو صاحب فكرة إنشاء
قوات الأمن المركزى، عقب مظاهرات 1968، فإن هذه القوات، تضاعفت عدة مرات،
عقب رحيل عبدالناصر وقدوم أنور السادات، وأصبحت جاهزة للتعامل مع ثوار
انتفاضة يناير 1972، التى شهد ميدان التحرير، وقاعدة التمثال الجرانيتى،
أهم أحداثها: فى اليوم التالى لاقتحام القاعة الكبرى بجامعة القاهرة فجرا،
والقبض على الطلبة المعتصمين، توجه آلاف من طلاب الجامعات سيرا على
الأقدام، إلى ميدان التحرير، والتفوا حول القاعدة واندلعت المعارك بين
الثوار وقوات الأمن المركزى، ومنذ ذلك الحين سيغدو الميدان أقرب للقلعة
التى يرتعب النظام من استيلاء الثوار عليها، وبالضرورة، تعمل السلطة، بنشاط
محموم، على تخليصها من قبضة الشباب، وسيلتها فى هذا عساكر الأمن المركزى،
المدججون بالعصى والقنابل المسيلة للدموع.. ولاحقا، ستتم زيادة أسلحة الأمن
بالرصاص المطاطى، والحى، والزجاجات الحارقة.. وطوال أيام وليالى 24، 25،
26، تحول ميدان التحرير إلى ميدان حرب. وبرغم صمود الثوار، وقوة عزيمتهم،
تمكنت قوات الأمن، بكثافتها، وعنفها، من اقتحام الميدان، الذى بدأ، عقب
القبض على المئات، وتشتيت الآلاف، أقرب إلى أرض خربة بعد مذبحة: بقع دم
واسعة، كوفيات وأحذية. أوراق وبقايا أطعمة.. لاحقا، ظهرت هذه المواجهات، فى
العديد من الأعمال الفنية والأدبية، ومن أشهرها قصيدة «سفر الخروج.. أغنية
الكعكة الحجرية» لأمل دنقل.
بعد خمس سنوات، جاءت «البروفة» الثانية، على ذات المسرح الحى، فى الميدان،
أمام مجمع التحرير، وحول الكعكة الحجرية، فالمظاهرات التى اندلعت على طول
البلاد، مطالبة بالعدل والحرية، اتجهت فى موجة من موجاتها، نحو «القلعة»
واستولت عليها فعلا، وأدرك السادات، وقد تمكن منه الفزع، أن العاصفة أقوى
من قدرته على مواجهتها فتراجع عن قرارات رفع أسعار السلع الضرورية من
ناحيته، وأمر قوات الجيش بالنزول إلى الشوارع نظرا لفشل قوات الأمن فى قمع
المظاهرات، وكان حصاد انتفاضة 17، 18 يناير 1977، 160 شهيدا، وجرح أكثر من
600 ثائر، واعتقال 1250 مصريا.
المصريون، تعلموا الدرس، وقوات الأمن المركزى ازداد عددهم وعتادهم. الدرس
هو: لا تنازل، والنصر لمن يحتفظ بقلب مصر، ميدان التحرير.. وطوال الأيام
التالية لـ25 يناير، حاول الأمن المركزى، بجحافله، استرداد الميدان، لكن
عبثا، ذلك أن قواه خارت، فلم يستطع إلا الانسحاب والتشتت، وبقى الثوار،
والمجمع، وذكرى القاعدة الجرانيتية، النابضة بالحضور، والحياة.
الشروق المصرية في
16/03/2011
كتلتان.. وثلاثة تماثيل
بقلم: كمال رمزي
كتلتان تجمعتا أثناء ثورة 25 يناير 2011 كما لم يجتمعا من قبل على هذا
النحو. من الصعب أن ترى لهما مثيلا فى مكان آخر وزمان غير هذا الزمان..
كتلة منهما بشرية، والثانية معمارية، بينهما وشائج قوية وعميقة، فرضتها
عوامل ذات طابع روحانى وإن بدا ماديا.. مئات الآلاف من الثوار، كأنهم جسد
عملاق، حضورهم يملأ الميدان، يمتد نحو الشوارع المؤدية له، هتافاتهم
الموحدة، النابعة من أعماق القلوب، تصل إلى أبعد الآفاق، تنادى بمطالب
عادلة. المنظر المهيب، بأصواته الهادرة، المترعة بالعزيمة، لا يتركان شكًا
فى حتمية النصر. لكن النظام، بصلفه ورعونته، لم يصدق أن لحظة تصفية الحساب
حانت.
أمام جحافل الجماهير، تنهض الكتلة الثانية: مجمع التحرير الضخم، الواثق،
شديد العنفوان، لم تؤثر السنوات على نضارته. إنه جزء أصيل من المشهد.
علاقته حانية على المتظاهرين. إنه خط دفاع لهم، وحاميا لظهورهم أيضا، وطوال
أيام الثورة، حتى عقب اندحار قوات الأمن المركزى، لم تتقدم قوات الهمج من
ناحيته.. بدا المجمع، بطرفيه المقوسين، محتضنا للثوار، بوجوههم المتوجهة
نحوه.
المجمع، يطل على ثلاثة تماثيل، يربط بينها معنى نبيل، يتعانق مع أمل ثوار
فى سبيله للتحقق. تماثيل لأبطال رهنوا حياتهم من أجل الحرية والعدالة. فى
زاوية من ظهر المجمع، يقع ميدان صغير يحمل اسم صاحب التمثال الذى ينهض
واثقا، واضعا كفيه فوق مقبض سيفه، رافعا هامته بكرامة: سيمون بوليفار «1783
ـ 1830»، بطل تحرير أمريكا الجنوبية، قاد الثورة ضد الاستعمار الإسبانى،
واستطاع، فترة مضيئة من الزمن، أن يوحد بوليفا وكولومبيا والإكوادور وبيرو.
أمام المجمع، على يساره، تمثال الزعيم الشعبى، عمر مكرم «1750 ـ 1822»، يده
اليسرى تحتضن الكتاب العزيز، مضموما إلى صدره، عند القلب تماما، يرفع سبابة
كفه الأيمن، وكأنه يلقى خطابا على الجموع، ولا يحتاج الأمر للتفكير طويلا
فيما يمكن أن يقوله الرجل الذى دافع عن الاسكندرية ضد الحملة الفرنسية،
وقاد ثورة القاهرة الأولى، ووقف ضد طغيان محمد على.. مسجد عمر مكرم، طوال
أيام الثورة، أصبح الملجأ الأمين لبناتنا الثائرات، اللاتى أثبتن، بجلاء،
أن كرامتهن، وقوة إرادتهن، ومساهمتهن فى صنع المستقبل، لا تقل عما يتمتع به
شبابنا، الثائر، الواعى، الأطول بقاء من الأوغاد العابرين، الجلادين.
مفارقة عميقة المغزى، يجسدها موقع تمثال بطلنا الغالى، الشهيد، رئيس أركان
الجيش المصرى، عبدالمنعم رياض «1919 ــ 1969»، الذى لقى ربه بطلا، فى ساحة
الوغى، بين جنوده، فى حرب الاستنزاف.. يطالعنا بالملابس العسكرية، يتهيأ
بقدمه ليخطو نحو الأمام، يمسك فى كفه الأيسر منظار الميدان، يتوجه بنظره فى
اتجاه الكتلتين: البشرية والمعمارية، وفى مقابل توجه تمثال عمر مكرم.. حول
نصب تمثال القائد، سالت دماء واستشهد شباب. إنها بانوراما ملحمية، فى
الزمان والمكان، فى التاريخ والجغرافيا، لا يصنعها إلا عبقرى، لا وجود له.
الشروق المصرية في
12/03/2011
مجمع التحرير.. شىء من التاريخ
بقلم: كمال رمزي
لو كان يحكى، لروى لنا، ولأجيال قادمة، عشرات الوقائع الفريدة، المدهشة،
ذات المعانى العميقة، التى تستحق البقاء فى نور الذاكرة، ولأطْلعنا، على
جوانب من تاريخ ملىء بالدروس والعبر، ولسرد علينا ما حدث من تغيرات متعددة
الدلالات، اعتملت بداخله، وخارجه.. لكن، لأنه صامت، فإنه ينتظر ذلك الروائى
أو السينمائى كى يقص حكاياته. وأظن أن البداية ستكون عن الرجل الموهوب الذى
صمم هذا البناء الشامخ، الراسخ، فى أوسع ميادين مصر: محمد كمال إسماعيل،
جاء من سلالة البنائين العظام، من نسل عباقرة المعمار، الذين صنعوا مجد
الحضارة الفرعونية. الكثير منا لا يعرفه، وربما آن الأوان لإزالة غبار
النسيان عنه. عاش مائة عام «1908 ــ 2008».
ولد فى ميت غمر، قضى صباه فى مدينة الإسكندرية العامرة بالطرز الإسلامية
والأوروبية، قديمها وحديثها. وبعد إتمام دراسته، بتفوق، فى هندسة جامعة
فؤاد، ذهب لاستكمال مشواره التعليمى إلى فرنسا حيث حصل على شهادة
الدكتوراه. عاد إلى وطنه ليغدو، بعد سنوات، مديرا عاما للأبنية الأميرية،
ويصمم، بخيال خصب، وروح وثابة، العديد من البنايات التى أصبحت من المعالم
المصرية الأثيرة، ذات الجمال الأخاذ من ناحية، والمتعددة المنافع من ناحية
ثانية، ومنها.. على سبيل المثال، دار القضاء العالى، بمدخله الرحب، وسلالمه
الرخامية العريضة، وأبوابه المتسعة التى تذكرك بأبواب المعابد، وعمدانها
الشاهقة. إنه يجسد قوة ورهبة العدالة. وإذا كان «دار القضاء العالى» يضم
محكمة النقض ومكتب النائب العام ودوائر جنايات ومحكمة القيم ونيابات
استئناف القاهرة، فإنه شهد عشرات التظاهرات، من شتى الفئات الاجتماعية، بما
فى ذلك قضاة، وأهالى معتقلين، وموظفون وأصحاب مظالم، يطالبون جميعا، بشىء
من العدل، والواضح أن سحر المعمار، داخليا وخارجيا، أغرى العديد من
السينمائيين، بتصوير مشاهد محورية من أفلامهم هناك.
أما مجمع التحرير، فإنه متعدد الأشكال، فإذا نظرت له وأنت تقف قبل جامع عمر
مكرم، سيبدو لك، كمقدمة سفينة على قدر كبير من الرشاقة، خطوطها الجانبية
تنساب بنعومة. وإذا نظرت له من شارع الشيخ ريحان، أى إلى ظهر المجمع، سترى
ما يشبه جزءا من دائرة، قمتها زاحفة نحوك، تتسم بالحيوية. وإذا وقفت فى
منتصف الميدان، فإن المجمع سيتخذ هيئة القوس، مرنا وقويا.
المجمع، هو مركز الثقل فى الميدان، تبدو كل البنايات حوله متواضعة، سواء
جامعة الدول العربية، الكالح، الخالى من الجمال، أو فندق الهيلتون، الأقرب
للعلبة البيضاء الكبيرة، أو العمارات القديمة، المتآكلة الجدران، ولكن يبقى
ذلك الرونق المرصع بعبق التاريخ فى مبنى المتحف المصرى وقصر وزارة الداخلية
الأنيق، لكن كليهما مكون من طابقين، بينما المجمع يتكون من أربعة عشر
طابقا.
المهندس الكبير، محمد كمال إسماعيل، المفتون بالأفنية والقباب، أفرد مساحات
داخل المبنى، كصالات ومناور، إما مفتوحة الأسقف أو يعلوها أقبية ذات نوافذ
زجاجية، هى امتداد وتطوير للشخاشيخ المتوافرة فى العمارة الإسلامية. أبواب
المجمع الرئيسية تؤدى إلى صالة متسعة الأرجاء، على اليسار ومجموعة مصاعد
أنيقة، للصعود بالموظفين، وعلى اليمين سلالم مريحة، للدور الأول والثانى،
وثمة ممرات جانبية، تؤدى إلى صالات أقل مساحة، بها مصاعد كبيرة، لنقل
الأثقال إلى الأدوار العليا، وبسبب موقع المجمع، وشكله، وكثر نوافذه،
وأفنيته، تجد أن ضوء الشمس، والهواء المتجدد، لا ينقطعان عن المكان.
عشرات الهيئات الحكومية تشغل أكثر من ألف حجرة، يعمل بها آلاف الموظفين. فى
الخمسينيات، كان العدد أقل، واعتبر العمل فى المجمع نوعا من الوجاهة
الاجتماعية، المنخرط فيه لابد أن يكون متأنقا، ذلك أنه ذاهب إلى مكان شديد
الاحترام، وسيجلس إلى مكتب فى غرفة مستقلة، معه زميل أو زميلان على الأكثر،
وإذا طلب شايا أو قهوة فإن النادل سيقدم له المطلوب وهو يرتدى جاكتة بيضاء
وبنطالا أسود. عمال النظافة لا يتوقفون عن العمل، والسعاة يرتدون بزّات
صفراء، ودورات المياه، شأنها شأن الممرات، بالغة النظافة، مما يدفع المرء
للتصرف بتحضُّر.
لكن مع الستينيات، فى نهاية عصر الرومانسية، شهد المجمع عدة أحداث فاجعة،
فعلى فترات متقطعة أقدم ثلاثة أو أربعة شباب، ممن تهشمت قلوبهم بفعل الغرام
الفاشل، على الانتحار بإلقاء أنفسهم من الأدوار العليا.. وهذا سر شبكة
الحديد والسلك التى امتدت فى الفراغ، عند الدور الثامن، فالهدف منها أن
تجعل المنتحر يتهشم ولا يموت.
توالت السنوات، ثم العقود، وبدأ التغير شيئا فشيئا. أعداد الموظفين تضاعفت،
مرة ومرتين وعدة مرات، كذلك الحال بالنسبة للمتعاملين معهم. اكتظت الحجرات
بالموظفين: أربعة أو خمسة مكاتب فى الغرفة الواحدة، يجلس إليها ضعف عدد
أصابع الكفين، وأخذت المكاتب تزحف إلى الطرقات، وألغيت حجرات البوفيهات،
فاستقطع البعض عدة أمتار فى هذا الممر أو ذاك، كى يعد فيه المشروبات، ولجأ
البعض الآخر إلى دورات المياه، لذات الغرض، وتماشيا مع الأجواء الجديدة،
اختفى النادل النظيف، وحل مكانه رجل مشعث الشعر، يرتدى قميصا متسخا،
وبنطالا مكرمشا. يقدم المشروبات على صينية من صفيح قذر.. توافق هذا مع
ارتفاع ثمن المشروب، من قرشين إلى خمسة إلى عشرة قروش، ثم ربع ونصف جنيه.
ولمواجهة الموقف، وبادعاء التأفف من تلك المشروبات، أصبح من المألوف أن
ترى، فى الدرج الأخير من المكاتب، سخانا وكنكة وبرطمانيين، فى أحدهما سكر
والثانى شاى، مع بعض الأكواب، لزوم إعداد ما يعدل المزاج.. وأبدى البعض
دهشته من وصول النمل إلى الأدوار العليا، استجابة لإغراء السكر.
من ناحية ثانية، مع نوبة الورع التى انتشرت فى السبعينيات والثمانينيات،
درج العديد من الفراشين على ترك أعمالهم الدنيا والتفرغ للآخرة. أحضروا
كمية كبيرة من القباقيب، وضعوها فى مدخل دورات المياه، لزوم الوضوء، وفرشوا
الممرات بالحصير، على نحو لا يترك إلا مساحة صغيرة لمرور شخص واحد، يلتصق
بالجدران كى لا يدوس على الحصير، وأصبح من المعتاد أن ترى عامل نظافة قد
أطلق لحيته، وجاء بمنضدة أو مكتب قديم، يضع فوقه سمسمية وحمصية ولادن وعطور
زيتية فى زجاجة صغيرة وبخور. يجلس هائما، وقورا، دمثا، بجوار بضاعته
الحلال، لا أحد يجرؤ على سؤاله عن المكنسة. وإذا قلت له «صباح الخير»،
سيجيبك زاجرا «وعليكم السلام ورحمة الله».
من ناحية ثالثة، أخذت بالوعات الحمامات تنسد بفعل تفل الشاى، وانطلقت
المياه من الصنابير الفاسدة، وبدا العديد من دورات المياه أقرب للمستنقعات
الآسنة، وبدلا من إصلاح الأمور، تم إغلاق محابس وأبواب الحمامات.. وأصبح
على من يريد قضاء حاجته أن يصعد أو يهبط عدة أدوار، بحثا عن حمام مفتوح.
من ناحية رابعة، تراكمت المكاتب والدواليب المنتهية الصلاحية فى الأركان،
تعلوها أكوام التراب، وأهمل الموظفون رجالا ونساء، مظهرهم الذى بدا تعيسا،
مغموما، خاصة حين وقوفهم فى طوابير طويلة، متعرجة، فى انتظار المصاعد، بما
فى ذلك المصاعد المخصصة للبضائع.
جاء الفرج، مؤقتا بسبب واقعة مأساوية، ففجأة، فى أواخر السبعينيات، انفجرت
قنبلة فى دورة مياه مديرية الشباب والرياضة بالدور الخامس، واندفع الآلاف
نحو الأبواب الجانبية لتخفيف الضغط على السلم الرئيسى. وحينها، اكتشف
الجميع أن الأبواب الجانبية مغلقة، وراءها كراكيب، وانتابهم الذعر والحيرة،
كما لو أنهم لم يشاهدو الأثاث المهشم من قبل.. قيل يومها إن «مجنون ليبيا»
هو من أوعز للبعض بوضع القنبلة.. المهم، أصيب من اصيب، وانكسرت أرجل البعض،
واتخذ قرارا بتخلص المجمع من أحماله الثقيلة، بشرا وركاما، واتخذت عدة
خطوات فى هذا الشأن، ولكن الإهمال، وانعدام الحس بالمسئولية، عاد بالأمور
إلى مربع الدمامة.. وفى الشهور الأخيرة، قبل صورة 25 يناير، تسربت معلومات،
فيما يشبه جس النبض، تتحدث عن بيع المجمع للوليد بن طلال، كى يحوله لفندق،
وطبعا، توقف هذا الكلام مع إعادة النظر فى ممتلكات المصريين المنهوبة، باسم
البيع.. هذا عما جرى داخل ذلك الصرح المعمارى العظيم، وبقى أن نتلمس ما حدث
حوله.
إنه موضوع آخر.
الشروق المصرية في
09/03/2011
صلاح مرعى
بقلم: كمال رمزي
هذا الإنسان الرائع، والمبدع المرهف، ترك أثرا جميلا فى كل من اقترب منه،
أو انتبه لدوره البناء فى الأفلام التى شارك فيها.. صلاح مرعى، النحيل،
طويل القامة، صاحب الوجه المشرق، واضح الملامح، الذى لا تفارق الابتسامة
شفتيه، يتلمس محدثه بنظرات تفيض بمحبة صادقة، لا يرتفع صوته أبدا، لا يعرف
الغضب طريقا إلى نفسه، يحنو على الجميع، لا يتردد لحظة فى تقديم يد العون
لكل من يقصده. دائما، يرى نصف الكوب الملآن، وبالتالى عاش حياته سعيدا، يهب
الرحمة والبهجة، بسخاء، حتى لمن لا يعرف الرحمة والبهجة.
صلاح مرعى، من مدرسة العمل الدائم، الدءوب. إنه فلاح مصرى بامتياز، يذوب
عشقا فى أرضه.. وأرض صلاح مرعى تتمثل فى عالم الديكور الذى أخلص له كل
الإخلاص، وبالضرورة، أصبح اسمه من أهم الأسماء فى هذا المجال، بل علامة على
جدية وجودة العمل الممهور بتوقيعه.
جاءت بدايته مع المخرج الرقيق، الدافئ، حلمى حليم الذى أسند له تصميم
المناظر، هو وماهر عبدالنور ومختار عبدالجواد. اسم الفيلم «الحياة حلوة»
1966، وحينذاك، عند البدء فى تحقيق الفيلم عام 1964، كان صلاح مرعى فى
الثانية والعشرين من عمره.. لكن تجربته الأهم، الأطول بقاء، والأعمق أثرا،
تجلت فى علاقته مع الفنان الكبير، شادى عبدالسلام. فى تقديرى، أن كلا منهما
كان يبحث عن الآخر، فمن مقاعد الطلبة، تابع صلاح، بشغف، محاضرات شادى، فى
معهد السينما، ووجد الأستاذ فى تلميذه، ذلك الحس التشكيلى الواضح، فضلا عن
معرفة قواعد الدراما والإيقاع والبناء. سريعا، تطورت العلاقة بين التلميذ
والأستاذ إلى صداقة صافية نبيلة، يضرب بها المثل، قائمة على الاحترام، ولعل
كل من زار أتيليه شادى فى إحدى عمارات شارع 26 يوليو، يتذكر بوضوح، ذلك
الشاب المنكب على مكتب، لساعات طويلة، يستكمل تصميم أحد الاسكتشات.. إنه
صلاح مرعى، الذى يعد من مدرسة «المومياء»، حيث تعلم أن الديكور عنصر جوهرى
فى الفيلم، يسرى فى شرايينه، ويندمج معه اندماجا كاملا.
حقق صلاح مرعى ديكورات أكثر من عشرين فيلما، منها «أغنية على الممر» لعلى
عبدالخالق 1972، «أبناء الصمت» لمحمد راضى 1974، «قليل من الحب كثير من
العنف» لرأفت الميهى 1995، «الساحر» لرضوان الكاشف 2002، «ألوان السماء
السبعة» لسعد هنداوى 2008.. ولعل أسلوبه الذى يصلح للتأمل والدراسة، يتبلور
على نحو بديع ودقيق، فى «الجوع» لعلى بدرخان 1986، فالديكور هنا يوحى أكثر
مما يصرح، ويعبر أكثر مما يجسد، فالقبو الذى يتجرع فيه الفقراء «البوظة»
رمادى الجدران، أقرب إلى المدفن الكبير، وثمة شرخ فى الحائط، يزداد اتساعا
بتوالى المشاهد، وفى المقابل، على النقيض، تظهر سراية المرأة الثرية «ملك»
بالغة الاتساع، ناعمة الرياش، لكن زوجها الفتوة القادم من القاع يبدو كما
لو أنه ضائع فى متاهتها، الأمر الذى ينبئ بتحول انتمائه، من الناس إلى
السادة.. صلاح مرعى، أخيرا، لم يتردد فى مساعدة الجميع، والوقوف إلى
جانبهم، إنسانيا وفنيا.. إنه رجل جميل، من زماننا.
الشروق المصرية في
05/03/2011
فن المناسبات..المزيف
بقلم: كمال رمزي
صناع ستة مسلسلات تليفزيونية، وبعض كتاب الأفلام، أعلنوا، بوطنية محتقنة،
أنهم قرروا إدخال ثورة 25 يناير فى أعمالهم، الأمر الذى يستوجب تغييرات
طفيفة على قليل من المواقف والحوارات، تمهد لقيام الثورة.. هذا الكلام
الفارغ، يذكرنا بنوع من فن المناسبات المفتعل، الذى يطفو كفقاعات الهواء،
مستغلا الأحداث الكبرى. وطبعا، سرعان ما تنفثئ الفقاعات وتتلاشى، ولا
يتذكرها أحد إلا من باب الطرافة، فحين قامت ثورة «1952» كان المخرج، كاتب
السيناريو، حسين فوزى، ينفذ فيلم «عفريت عم عبده»، وفورا، وجد من الملائم
أن يشير إلى ذلك الحدث الجلل، وبالتالى، كما يرصد الناقد محمد كامل
القليوبى، أضاف مشهدا للعفريت «السيد بدير»، وهو يستعرض قواه الخارجى،
فيقرأ فى جريدة «أخبار الغد»، خبرا لا يتوقعه أحد، يقول «سيقوم الجيش
المصرى بحركة مباركة..» ويستكمل الأخبار التى باتت معروفة.. وأصبح «عفريت
عم عبده» هو أسرع وأول استجابة للثورة.. ولاحقا، توالت مسرحيات سعدالدين
وهبة، وغيره، تتعرض للأوضاع الظالمة قبل «52»، مؤكدة أن لحظة تصفية الحساب
آتية. وفى جملة موجزة ودقيقة يصف الناقد فاروق عبدالقادر هذه الأعمال بقوله
«مسرحيات تتنبأ بالثورة بعد وقوعها».
ثلاث حروب خاضتها مصر، عقب ثورة «52»، ومع كل حرب ترتفع أصوات حماسية تزعم
أن أصحابها سيقدمون فنا جديدا، يعبر عن قوة ومتانة الشعب المصرى، وجيشه
الباسل. وبتعجل، أنهى نيازى مصطفى «سجين أبوزعبل» ليحظى بلقب أول فيلم عن
حرب السويس.. جاء الفيلم مسطحا، شديد الافتعال، يتضمن صراعا بين تاجر
مخدرات شرير وشاب طيب، يحكم عليه بالسجن الذى تدمره غارات العدو، وبينما
تتوالى الأحداث وفق منطق قائم على المصادفات، لا يمكن أن تعرف شيئا عن
الأعداء، أو لماذا هذه الحرب. وحتى الجاسوس، لا يشير الفيلم إلى جنسيته.
وعندما اعترض النقاد على تجاهل الدول المعتدية، وعدم ذكر أسمائها، علق
نيازى مصطفى، بأريحية لافتة «عندما أخرج فيلما أضع أمامى احتمال عرض هذا
الفيلم فى أى ظرف وأى مكان».
إلى حد ما، تحاشت السينما المصرية، والمسلسلات التليفزيونية، الخوض فى حرب
«67»، ربما لأن الهزيمة لا تغرى أحدا على الاقتراب منها سريعا.. ومع
انتصارات «73» تفتحت شهية الكثير من الاسطوانات نحو الاستغلال الفورى لنصر
أكتوبر، وفى أقل من عام ظهرت أفلام من نوع «الوفاء العظيم» لحلمى رفلة حيث
الصراع التقليدى، المستتر والمعلن، بين رجلين، من أجل فتاة. هنا، كما الحال
فى «سجين أبوزعبل»، غياب كامل عن التاريخ والسياسة، وحضور مفاجئ لحرب لا
نعرف أسبابها، ولكن لها دورها كمكان يجمع، مصادفة، الزوج والحبيب، وقد
تطهرا من الأنانية، فإذا كان الحبيب يضحى من أجل الزوج، فإن الزوج الذى
يستشهد لا يفوته، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أن يبارك زواج الحبيب من زوجته
التى ستصبح أرملة.. إنه فن المناسبات البائس الذى نتمنى ألا يمتد لمسلسلات
وأفلام الثورة.
الشروق المصرية في
02/03/2011 |