«٦ سنوات سجنا، و٢٠ عاما يمنع خلالها من كتابة السيناريوهات أو إخراج
الأفلام والاقتراب من صناعتها بأى شكل من الأشكال، وأيضا يمنع من مغادرة
البلاد، وكذلك الإدلاء بأية تصريحات أو عقد أى لقاءات مع وسائل الإعلام
الإيرانية والأجنبية».. حكم واضح وصريح فى التعبير عن تقييد الحريات ووأد
أى محاولات للديمقراطية فى ظل حكم الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد، ورغم
أن الحكم صادر ضد جعفر بناهى المخرج السينمائى، وليس قائدا لانقلاب عسكرى
مثلا، فإن النظام الإيرانى أكد من خلاله أنه لا يعترف بالإبداع أو صناعة
السينما أو أى شكل من أشكال التعبير عن الرأى والديمقراطية التى رأت كثير
من وسائل الإعلام العالمية أن ٢٠١٠ عام اغتيالها فى إيران بصدور هذا الحكم
القاسى الذى يلزم أحد أبرز رموز وصناع السينما فى العالم بالابتعاد طيلة ٢٦
عاما عن محبوبته الأولى (السينما)..
والتى تغلغل فى صناعتها منذ أن كان صبيا فى العاشرة من عمره، وقضى ٤٠
عاما حتى الآن فى عشقها وممارستها. تقديرا لهذا الفنان وإنجازاته فى
التعبير عن آرائه رغم محاولات التعتيم وتقييد حريته.. تلقى «المصرى اليوم»
قليلا من الضوء على مشوار جعفر بناهى الذى اكتفى بالتعبير عن تمسكه بـ«الصبر
والإرادة» تعليقا على هذا الحكم.
٢٦
عاما فى قبضة النظام.. والتهمة: الدعاية ضد الجمهورية
الإسلامية
فى أوائل مارس الماضى، اعتقلت القوات الإيرانية المخرج «جعفر بناهى»
وزوجته وابنته فى موقف وصف بأنه لتقويض الحركة الخضراء المعارضة للرئيس
الإيرانى محمود أحمدى نجاد، وسبق ذلك رفض السلطات منحه تصريحا للسفر إلى
ألمانيا لحضور فعاليات مهرجان «برلين» السينمائى الدولى، وهو الرفض الذى
اعتبره كثير من المحللين السياسيين أمرا بات معهودا فى إيران ويمارس ضد
الفنانين هناك، ونفذ من قبل مع كثير منهم وكان آخرهم الممثلة «فاطمة معتمد
آربا» التى منعت من السفر للعمل فى هوليوود، بدعوى أنها «تمثل دون حجاب»،
وأيضا مع مخرجين بحجة عدم حصولهم على تصاريح لتصوير الأفلام وعلى رأسهم «باهمان
جوبادى» وغيره، فى خطوة حللت بأنها محاولة من النظام الإيرانى للتصدى لسطوة
السينمائيين الإيرانيين الذين وجدوا متنفسا لهم فى المهرجانات الدولية
الكبرى ونجاحهم والفوز بجوائزها عن أفلام معارضة للنظام وكاشفة لممارساته
القمعية خاصة بعد الثورة الخضراء التى اجتاحت المجتمع هناك عبر الاحتجاجات
والمظاهرات بعد فوز نجاد بفترة رئاسية ثانية، وهذا ما دعا مستشار الرئيس
الإيرانى للشؤون الفنية للتصريح بأن «إيران ستقاطع المهرجانات الغربية إذا
تحولت إلى مناسبة لعرض النشاطات الهدامة ضد الحكومة»، على حد وصفه، وذلك
تعليقا على عرض بعض الأفلام مؤخرا فى عدد من المهرجانات مثل «الأيام
الخضراء» لـ«حنا مخملباف» الذى يرصد مظاهرات الشارع الإيرانى التى تلت
إعلان النتائج فى يونيو الماضى، و«تهرون» لـ«نادر همايون» الذى يبرز الجانب
المظلم لطهران وانتشار العاهرات والشحاذين ومروجى المخدرات فيها.
الغريب أن المسؤولين عن الثقافة فى الحكومة الإيرانية يحاولون إظهار
نوايا حسنة «مصطنعة» عن معاملة أفضل للسينمائيين فى الفترة المقبلة، فقد
أعلن المعاون الجديد لوزير الثقافة والإرشاد الإسلامى للشؤون السينمائية عن
نيته تأسيس مجلس أعلى للسينما يقع تحت إدارة رئيس الجمهورية مباشرة ويكون
الهيئة العليا التى تحدد السياسة الرئيسية فى الشؤون السينمائية، وتخول
إعطاء تصاريح الإنتاج والعرض، كما أكد قرب عقد لقاء مع صناع السينما
المستقلة الذين كانوا قد عبروا فى رسالة جماعية عن قلقهم لما آلت إليه
أحوال ذلك النوع الذى صنع شهرة للسينما الإيرانية عالميا، كما استنكروا
القيود المفروضة عليها وظروف عرض أعمالهم فى إيران والرقابة التى تخضع لها
ومنعها.
تأتى هذه التصريحات بعد مقاطعة عدد من الفنانين لمهرجان الفيلم
الوثائقى مؤخرا فى إيران احتجاجا على القيود التى تحملها مخرجو الأفلام
الوثائقية لنقل صورة حقيقية عما جرى بعد الانتخابات الرئاسية، وكان أبرزهم
«رخشان بنى اعتماد» التى قدمت فيلمها «نحن نصف المجتمع الإيرانى» عن حملة
الانتخابات الرئاسية، وتتحدث خلاله مع المرشحين عن خططهم بخصوص وضع المرأة
الإيرانية.
ورغم هذه الظروف القمعية، لم يخش «بناهى» من إظهار مواقفه المعارضة
لنجاد وممارساته، وكان قد أعلن عن تقديمه فيلما عن مظاهرات الاحتجاج على
إعادة انتخاب نجاد رئيسا للمرة الثانية فى يونيو قبل الماضى، وكشف عن
تأييده خصم نجاد ومنافسه المعتدل «مير حسين موسوى» الذى كان رئيسا للوزراء،
واعتبرته الحكومة وقتها من أبرز معارضيها، حيث اعتقلت السطات الأمنية
«بناهى» وزوجته وابنته من منزلهم فى مارس الماضى.
كان ذلك الاعتقال للمرة الثانية، فقد اعتقل «بناهى» فى يوليو ٢٠٠٩ عقب
مشاركته فى حفل تكريم «ندا أغا سلطان» الشابة الإيرانية «شهيدة الحجاب»
التى قتلتها الحكومة الإيرانية أثناء مظاهرات الاحتجاج على إعادة انتخاب
نجاد رئيسا للمرة الثانية فى يونيو ٢٠٠٩، وكان «بناهى» قد توجه بصحبة
مجموعة من المعارضين لزيارة قبر «ندا»، كما شارك فى مهرجان «مونتريال»
بوشاح أخضر على كتفيه كرمز للثورة الخضراء المعارضة لنجاد، وهو ما رأته
الحكومة الإيرانية تعبيرا خطيرا عن موقفه، وأفرج عنه، لكن تم التحفظ على
جواز السفر الخاص به، وحين توجه للحصول على تصريح للسفر إلى «برلين» فى
فبراير الماضى للمشاركة فى المهرجان الذى عقد فعالية لتكريم السينما
الإيرانية تحت عنوان «السينما الإيرانية»: الحاضر والمستقبل.. توقعات داخل
وخارج إيران»، رفضت السلطات منحه التصريح، ثم ألقت القبض عليه أوائل مارس.
قضى «بناهى» ما يزيد على شهرين فى المعتقل فى ظروف سيئة، فقد تم الإفراج عن
زوجته وابنته، لكن لم يسمح لأحد حتى عائلته أو محاميته بزيارته حتى ١٨ مارس
الماضى، وهدد «بناهى» بالإضراب عن الطعام فى حال استمرار تلك الظروف التى
وصفتها زوجته «طاهرة سعيدى» لوكالات الإعلام بعد السماح لها وابنتهما
بزيارته فى محبسه، حيث صرحت لوكالة الأنباء الفرنسية بأن زوجها لم يجهز أى
فيلم عن الانتخابات، مؤكدة أنه صور لقطات داخل منزله ولا تقترب بأى شكل من
النظام الإيرانى.
منع الحبس «بناهى» من المشاركة فى عضوية لجنة تحكيم المسابقة الدولية
لمهرجان «كان»، وهو ماعلق عليه وزير الثقافة الفرنسى «برنار كوشنير» وقتها
فى بيان أصدره: «شعرنا بالندم لعدم تواجد بناهى، لكن مقعده فى لجنة التحكيم
ترك خاليا تكريما له، ونأمل أن يعود لنشاطه لنحتفى جميعا بالسينما
الإيرانية».
لم يكن موقف وزير الثقافة الفرنسى هو الوحيد الداعم لصانع الأفلام
الشهير، بل دعمه أيضا عدد من زملائه من السينمائيين العالميين وأعضاء رابطة
المخرجين الأمريكيين، فخلال فترة اعتقاله أصدروا التماسا موقعا بأسمائهم
إلى الحكومة الإيرانية للإفراج عن «بناهى»، ومن بينهم «روبرت دى نيرو»
و«فرانسيس فورد كوبولا» و«ستيفن سبيلبيرج» و«مارتن سكورسيزى» و«جوليت بينوش»
و«مايكل مور» و«أنج لى» و«كين لوتش»، كما قدم ٥٠ من زملائه الإيرانيين
التماسا بالمعنى نفسه منهم «أشجار فرهادى» و«فاطمة معتمد آريا» و«عباس
كياروستامى»، إلى جانب التماسات من عدد من إدارات المهرجانات الدولية
والاتحادات السينمائية مثل «برلين» و«تورنتو» و«كارلو فيفارى».
تم الإفراج عن «بناهى» فى ٢٥ مايو الماضى بكفالة ٢٠٠ ألف دولار، مع
التأكيد على أنه سيخضع لمحكمة الثورة، وهو ما حدث ليصدر ضده هذا الحكم
القاسى الذى يعتقل بموجبه ٦ سنوات، وبعدها يبقى ٢٠ عاما دون مغادرة البلاد
ودون صناعة الأفلام، أو عقد أى حوارات أو لقاءات مع الإعلام، أى يخرج من
السجن ليسجن مجددا لما تبقى من عمره الذى تجاوز الخمسين حتى الآن، وفى
حيثيات مقتضبة للحكم ذكرت محكمة الثورة فى بيان صادر عنها «هذا الحكم ضد
جعفر بناهى بسبب التجمهر والتواطؤ وتوافر نية ارتكاب جرائم ضد الأمن القومى
فى البلاد والدعاية ضد الجمهورية الإسلامية».
ردود فعل الإعلام الغربى على سجن مخرج
«أوفسايد»
أثار الحكم عاصفة من الاستهجان فى وسائل الإعلام العالمية المختلفة،
والتى أجمعت على ضرورة انتهاز فرصة تزامن صدوره مع الاستعداد لموسم توزيع
الجوائز السينمائية الكبرى، مثل «سيزار» و«أوسكار» و«بافتا» و«جولدن جلوب»
وحتى «الرازى» رغم أنها مخصصة لتوزيع جوائز أسوأ الأعمال والنجوم خلال
العام، ودعوة جميع السينمائيين للتذكير باسم بناهى وما حدث له، وخاصة لحظة
تسلمهم جوائزهم حين تكون عدسات وكاميرات المصورين كلها مركزة عليهم، حتى
يظل حاضرا فى أذهان الإعلام ولا ينسى فى ظل تواجده فى قبضة النظام الإيرانى.
واللافت للانتباه أن بعض وسائل الإعلام خاصة الأمريكية لم تمنح خبر
الحكم على بناهى الأهمية الكافية، فجاء ضئيلا، وكذلك المتابعة والتغطية
الخبرية له مثل الأخبار السابقة عن اعتقاله، والإفراج المؤقت السابق عنه فى
مايو الماضى، فى الوقت الذى يتصدر فيه أى خبر رغم تفاهته النشرات الفنية
على المواقع والصحف الأمريكية، وهو ما دفع موقع «statescene»
للتأكيد على أن بناهى من الفنانين المحاصرين الذين قلما يهتم الإعلام
الأمريكى بهم، رغم أهميتهم على خريطة السينما العالمية والتأثير الكبير
الذى أحدثوه بها، وأشار الموقع إلى واقعة سابقة حدثت مع بناهى حين حاول
الهجرة من هونج كونج إلى الولايات المتحدة عام ٢٠٠٣، حيث أراد المسؤولون
الأمنيون عن شؤون المهاجرين فى مطار «جى إف كى» تصويره والحصول على بصمات
أصابعه (تفييشه)، لحين السماح له بالدخول فرفض رغم وضع الأصفاد الحديدية فى
يديه، وتم إرجاعه إلى هونج كونج.
لكن الصحف الكبرى فى الولايات المتحدة اهتمت بإبراز حزنها على سجن
بناهى، وتساءلت صحيفة «الاندبندنت»: ما الجريمة التى ارتكبها بناهى؟ هل هى
العمل على صناعة فيلم عن الانتخابات الرئاسية العام الماضى؟ إذن كان يمنع
الفيلم من الخروج إلى النور، لا مخرجه نفسه»، وعلقت مجلة «تايم»: «أن يحكم
على صانع أفلام بعدم العمل كأنه يسجن تماما، وإن خرج من السجن الصغير إلى
سجن أكبر»، وهى التعليقات نفسها التى أدلى بها بناهى لوكالة الأنباء
الفرنسية عقب صدور الحكم، وربما تكون الأخيرة وفقا لما تلزمه به السلطات
الأمنية لحين استئناف الحكم على يد محاميته فريدة خيرت.
وقد اهتم الإعلام بخبر الحكم على بناهى بشكل أكبر من زميله محمد
رسولوف الذى صدر ضده هو الآخر حكم بالسجن لمدة ٦ سنوات، لكن شهرة «بناهى»
وتأثيره رجحت كفة الاهتمام به أكثر، خاصة أن النظام اعتبره الرأس المدبر
الذى كان يجهز لفيلم عما بعد الانتخابات بمعاونة رسولوف.
تعلم صناعة الأفلام فى العاشرة.. وفاز بـ«الكاميرا الذهبية»
فى «كان» عن أول أفلامه «البالون الأبيض»
فى العاشرة من عمره، ألف جعفر بناهى، كتاباً حصل عنه على جائزة إحدى
المسابقات الأدبية، وفى العمر نفسه تقريبا بدأ يتشرب صناعة الأفلام، فعمل
فى التمثيل والتصوير والمساعدة فى إخراج أفلام بعض المخرجين، كما صنع
أفلاما على شرائط ٨ مللى الأصغر حجما فى الشرائط السينمائية والمعروفة
باستخدام الهواة لها، وفى فترة خدمته فى الجيش الإيرانى خلال الحرب
الإيرانية العراقية (١٩٨٠/١٩٨٨) صور بناهى فيلما وثائقيا عن تلك الحرب.
مع إتمامه دراسته فى كلية «السينما والتليفزيون» بالعاصمة الإيرانية
طهران، أخرج «بناهى» العديد من الأفلام للتليفزيون الإيرانى، وكانت النقلة
المهمة فى حياته حين عمل مساعدا للمخرج الإيرانى الشهير «عباس كياروستامى»
فى فيلمه «عبر أشجار الزيتون» عام ١٩٩٤، ليتتلمذ على يد واحد من أبرز
المخرجين فى العالم، وتثمر علاقة التلميذ بأستاذه عن أول أفلامه «البالون
الأبيض»، الذى أخرجه «بناهى» عن سيناريو «كياروستامى»، واستقبله الوسط
السينمائى بحفاوة بالغة، فقد أثبت خلاله موهبته، وأشاد النقاد وزملاؤه من
كبار مخرجى السينما العالميين بمستواه الفنى المميز، وحصل على جائزة
الكاميرا الذهبية فى مهرجان «كان»، كما اختارته كثير من الصحف الكبرى وعلى
رأسها «الجارديان» ضمن قائمتها لأفضل ٥٠ فيلما فى تاريخ السينما، ويتناول
الفيلم قصة فتاة صغيرة فى إيران ترغب فى شراء سمكة زينة صغيرة احتفالا
بالعام الجديد، لكن والدتها ترفض لحاجتها إلى المال، ومع إلحاح الصغيرة
وشقيقها تضطر لتلبية طلبها، وأثناء رحلتها لشراء السمكة تفقد المال، فتضطر
للعودة للبحث عنه، وأثناء تلك الرحلة يعرى بناهى الكثير مما يحدث فى
المجتمع الإيرانى وخاصة ما يعيشه الفقراء.
فى عام ٢٠٠٠ قدم بناهى تحفته الثانية «المرآة» التى حصل عنها على
الجائزة الذهبية فى مهرجان «لوكارنو» و«الأسد الذهبى» فى «فينيسيا» إلى
جانب جائزة «فيبرسى» (الاتحاد الدولى للنقاد) فى مهرجان «سان سباستيان»،
وخلاله وجه لطمة قوية للنظام والمجتمع الإيرانى معريا أوضاع المرأة
الإيرانية، حيث قدم ٧ نماذج لنساء خرجن من السجن، كل منهن لها ظروف مختلفة
لسبب سجنها، وكل منهن تلقى معاملة سيئة مختلفة بعد الإفراج عنها، لكنهن
يتفقن فى الوضع المتدنى للمرأة فى أى مكان فى إيران، والتى يعاملها الرجال
بازدراء.
توالت خبطات بناهى السينمائية التى ينتقد من خلالها النظام الإيرانى
والمجتمع القائم على التشدد وغياب الديمقراطية، فقدم فى عام ٢٠٠٣ فيلم
«الذهب القرمزى» والذى عاد خلاله للتعاون مع أستاذه «عباس كياروستامى»، حيث
كتب له السيناريو، وحصل عنه على جائزة لجنة التحكيم فى قسم «نظرة خاصة» فى
مهرجان «كان».
وفى عام ٢٠٠٦، شارك «بناهى» بفيلمه «أوفسايد» فى مهرجان «برلين»، حيث
حصل على جائزة لجنة التحكيم الكبرى (الدب الفضى)، واستمر خلاله فى رصد
أوضاع المرأة التى تمنع حتى من حضور مباريات كرة القدم، فتتسلل مجموعة من
البنات لمشاهدة إحدى المبارايات فى الاستاد، متنكرات فى ملابس رجال.
المصري اليوم في
25/12/2010
النسيم
بقلم: كمال رمزي
من الذى يستحق هذا الوصف والعنوان أكثر من عبدالمنعم إبراهيم
«24/12/1924 ــ 18/11/1987» ذلك الفنان الذى تسلل إلى شاشة السينما
المصرية، لطيفا ناعما، ومنحنا، بيسر وبساطة، شيئا من البهجة الرقيقة.. وبلا
ضوضاء، انسل من بيننا دون أن ننتبه إلى أنه من اللآلئ الثمينة فى حياتنا.
تمتع وجه عبدالمنعم إبراهيم بنوع من الصفاء الفريد، يبدو فى نقاء
وشفافية طفلا لم يتعرض ولم يمارس أيا من شرور الدنيا، يملك قدرة فائقة على
الحب والتواصل مع الآخرين. يخفق قلبه مع خفقات قلوب العاشقين. يعيش ويعايش
آلام المحزونين،، يقف إلى جانب الضعفاء والمهزومين.. وبهذه السمات دخل عالم
السينما ليغدو الصديق الحميم، الحنون، للبطل، مكمن سره ومجفف دموعه، وهو فى
هذا ينضم إلى مجموعة الأصحاب المخلصين على الشاشة الفضية، عبدالسلام
النابلسى، إسماعيل ياسين، محمود شكوكو، فؤاد المهندس، وغيرهم.. ولعل ظاهرة
الصداقة لا تتجلى فى أى سينما من سينمات العالم بقدر حضورها القوى فى
أفلامنا، وهى فى هذا تعبر عن جزء أساسى من مكونات الشخصية المصرية، تحتاج
لمن يرصدها ويحللها، واقعيا وفنيا.
شارك عبدالمنعم إبراهيم فى أكثر من «120» فيلما، قام فيها بأدوار
ثانوية، فيما عدا بعض الأعمال القليلة، اضطلع فيها بالبطولة، مثل «سر طاقية
الإخفاء» لنيازى مصطفى 1959، الذى ينطوى على فكرة جميلة تؤكد أن القوة
المطلقة هى الشر المطلق، وبالتالى يسهم «عصفور» ــ عبدالمنعم إبراهيم ــ فى
حرق الطاقية.. وثمة «لعبة كل يوم» لخليل شوقى 1971، حيث يلهث بطلنا الباحث،
بجلد، عن لقمة عيش شريفة، فينتقل من مهنة هامشية لأخرى، ويتعرض لسطوة
الفتوات وجبروت أصحاب المال والسلطة.. ويأتى أداء عبدالمنعم إبراهيم،
بلمساته الكوميدية، ذات الطابع العفوى، لينقذ الفيلم من قبضتى الميلودراما
والعنف.
لم يتقيد عبدالمنعم إبراهيم بنمط واحد، ذلك أنه قام بأدوار من شتى
المهن، ومختلف الطبقات، وتحاشى تماما أن يسخر منها، بل جسدها على نحو يبرز
جوانبها المضيئة، فى «السفيرة عزيزة» لطلبة رضوان 1961 تقترب منه سكين
الجزار وهو يدافع عن زميله «شكرى سرحان»، وبرغم الرعب المرتسم على وجهه، لا
يهرب، ولكن يستنجد، بطريفية، من الشرفة قائلا «الغوث، الغياث الغياث»،
متسقا مع كونه مدرسا أزهريا للغة العربية.. ويرتفع فناننا الاستثنائى
بشخصية «الأزهرى» وببلاغة اللغة العربية فى «المراية» لأحمد ضياء الدين
1970.. هنا، الجميلة المدللة، المغرورة «نجلاء فتحى»، ترفض العرسان، واحدا
تلو الآخر، إلى أن يحين دور المدرس الأزهرى الذى يدرك ما تنطوى عليه طبيعة
الفتاة من استعلاء، فيواجهها بفضل الله الذى منحه «دارا ودوارا ودوارة
ودردارة»، ولأنها لا تعرف معنى كلماته، يشرح لها: دار أسكن فيها.
دوار استقبل فيه الزائرين. دوارة هى الساقية التى تروى أرضى. دردارة
هى الطاحونة التى أطحن بها الغلال.. فى هذه المرة، هو الذى يرفضها، لأنها
لا تصلح زوجة، فلا يكفى أن تكون المرأة جميلة فقط. وفى لحظة تنوير، تحطم
الجميلة مرآتها لتبدأ حياتها من جديد.
وصل عبدالمنعم إبراهيم إلى مستوى رفيع فى الكوميديا بأدائه الممتع
لشخصية «سكر هانم» للسيد بدير 1960، فبعيدا عن الهزل أو المغالاة، انتقل
بسلاسة من انفعال إلى آخر، ما بين استمتاعه بالاقتراب من الجميلتين «سامية
جمال» و«كريمان»، وذعره من «عبدالفتاح القصرى» وهربه من مطاردته.. وفى
ثلاثية نجيب محفوظ، أسند له حسن الإمام دور «ياسين»، فجمع عبدالمنعم
إبراهيم بين الكوميديا والتراجيديا، فبينما أثار الضحك وهو يتعقب امرأة
بدينة يكتشف أنها أخته «هدى سلطان»، يمس شغاف القلب حين تغرورق عيونه
بالدموع بسبب عبارات والده الجارحة عن أخلاقيات والدته.
فى «عودة مواطن» لمحمد خان 1986 يجسد دورا بديعا، عميق الجذور، كتبه
عاصم توفيق.. إنه من فرسان الجيل الماضى، حاول مع رفاقه أن يحقق العدالة
فزج به فى السجن. عاش فترة متنقلا من معتقل لآخر، ودارت الحياة دورة
ودورتين، فاته الكثير، وضاعت فرصته فى تكوين أسرة، لكنه لايزال يعمل، فى
مصنع الحديد والصلب.. وها هو يشهد تفكك أسرة شقيقته المتوفاة ــ تماما
كالمجتمع المصرى وبرغم أن حبات المسبحة انفرطت، كل واحدة تسير فى اتجاه،
إلا أن كلا منهم يجد فيه، على نحو ما، مرفأ أمان. وبقلبه الكبير، يحتضنهم
جميعا، يحاول أن يضىء لهم الأنوار، وأن يجمعهم، بنظرة عين حانية، لا تخلو
من عتاب ممزوج بالأسى.
على الشاشة الصغيرة، فى السنوات الأخيرة، ازادت التجاعيد حول عينيه من
إحساس المتفرج بقلبه النابض بالرحمة، هذه الرحمة التى تجلت فى مسلسل «زينب
والعرش» ليحيى العلمى 1979، عندما مثل شخصية «عم صالح»، فراش بمؤسسة صحفية
أقرب إلى الغابة، يرى ويفهم ويسمع ولا يقول إلا الكلمة الطيبة، يعطف على
الضحية ويرثى للمصير الذى سيلقاه الجلاد. وفى تلك الأحراش الوحشية لا تجد
«زينب» ضميرا أنقى من ذلك الرجل الوحيد، الذى يغدو أقرب إلى الأب. يشعرها،
ويشعرنا معها، أنه حتى فى الغابة.. يوجد من له قلب.
الشروق المصرية في
25/12/2010
"ابن
القنصل" .. تمثيلية فكاهية نجحت جماهيرياً
بامتياز
تقدمها : خيرية البشلاوي
إذا حقق العمل الفني الغرض الذي صنع من أجله. اذن فقد نجح.. و"ابن القنصل"
وفر جرعة الضحك كما يتوقعها المتلقي. وسلّي جمهور الصالة. وخرج الجميع في
حالة من
الانبساط..
كيف حقق ما حققه؟
قدم المؤلف أيمن بهجت قمر تمثيلية تختبئ في
ثناياها أسرار وخدع يتم الكشف عنها في مواقف عولجت بذكاء يسمح لكل الضالعين
فيها
باستغلال مهارته بخفة تخدم الهدف وتحرك الشهية للضحك.. والمخرج عمرو عرفة
في هذه
المواقف باعتباره المايسترو أضفي الكثير من الحيوية والحركة
السلسة عبر توجيهه
الحساس واللاقط لآلية توليد الضحك وذلك عبر المفارقات في الأداء. وعكس
الأدوار.
وأيضاً الفهم لطبيعة السخرية الكامنة في
تركيبة الدور المزدوج لكل شخصية..
مدير
التصوير محسن أحمد فتح شهية العين "إذا صح التعبير" من خلال اختيار مدهش
لملامح
الإسكندرية وتأكيد شخصيتها بل وتقديم من خلال المشاهد المختارة شهادة
مرئية لمدي
التميز والجمال المتفرد لهذه المدينة التي أعادت إليها السينما في الفترة
الأخيرة
وضعها الأثير كعروس للبحر المتوسط..
وحين تسكن الأذن وترتاح لسير الحكاية ووقع
الحوار وتنتعش الروح المعنوية بفعل التفاعل مع عدد الشخصيات التي تتحرك
داخل
العالم المصنوع علي الشاشة. وتجد أن صنَّاع العمل لم يخيبوا آمال الجمهور
اذن نحن
أمام عمل مسل نموذجي يضم الحدوتة. والشخصيات والضحك علي ذوق ومزاج الغالبية
من
الجمهور المصري. كما يضم "الأكشن" الذي يحتاج مصمم معارك.. اذن
كل العناصر المسلية
متوفرة.
الحدوتة
تنبع حدوتة "ابن القنصل" من صميم الخيال الشعبي الدارج
والتقليدي الذي يبتهج أمام الفهلوة. والنكتة اللفظية. وفيض
العواطف "السنتمنتالية"
أي التي ليس لها معادل موضوعي يستدعيها بهذا الفيض. علي سبيل المثال. بكاء
"سليمان
عيد" حين يتم الإفراج عن "القنصل" "خالد صالح" بعد ثلاثين سنة سجنا ويستعد
للرحيل
تاركاً زملاء الزنزانة. وبدلاً من السعادة وتبادل التهاني يبكي الزميل
ويصيح هذا "ظلم..
ظلم" فمن الطبيعي هنا أن يضحك الجمهور أمام انقلاب الحال وحدة المفارقة بين
موقف يستدعي الفرح بينما يواجه بردود فعل باكية تري في خروج السجين "ظلم".
وكثير
من المواقف الأخري تستشعر من خلالها الحس المصري الشعبي الأصيل عند أيمن
بهجت قمر
ليس فقط فيما يكتبه للسينما وإنما أساساً في تأليفه للأغاني. وفي هذا العمل
يدمج
الأغنية والرقصة مع خفة الأداء في مشهد يجمع بين خالد صالح
وغادة عادل يفيض بالبهجة
والتهريج والحس الساخر. والنكتة المبطنة. وفي حركة الكاميرا المرحة.. وهنا
أيضاً
في نفس هذا المشهد الراقص الذي يتم داخل شقة "ابن القنصل" نشعر بقدر كبير
من
الانسجام بين العناصر المرئية والسمعية المكونة للمشهد وبين عنصري التأليف
والاخراج
ومدير التصوير ومؤلف الموسيقي. والمشهد نفسه نموذج لمفهوم التسلية
"entertainment)
التي يتوقعها دافع التذكرة ويشعر بأنه أخذ حقه
"تالت ومتلت" من صنَّاع العمل. وهي
تسلية حميدة وبلا إسفاف.
هذا النوع من التسلية لا يتطلب من المتفرج أدني جهد.
فهو مجرد متلق سلبي. يستقبل وينفعل ويضحك ولا يحتاج جهد التأمل أو التفكير
أو
الانغماس في مشكلة من ركام المشكلات التي يجود بها الواقع ويصطدم بها في
تفاصيل
حياته اليومية.. فنموذج "ابن القنصل" الفيلم. يعتبر تميمة لسد
الفراغ علي نحو حميد
وايجابي في نفس الوقت. فالفيلم لا يعكر صفو التقاليد ولا الأجواء المحافظة
حتي في
رسمه لصورة المتدين المضلل المنتمي إلي جماعة "إسلامية" مزيفة. ولا عندما
يقدم صورة
الغانية التي لعبتها غادة عادل في "التمثيلية" التي تلعب فيها أكثر من
شخصية. وغادة
في هذا العمل تضيف إلي "ألبوم" عملها الفني. صورة أخري لجانب من مهاراتها
التمثيلية
بعد "شقة مصر الجديدة" و"ملاكي اسكندرية".. فهي لا شك موهوبة واضافة
ايجابية للثروة
الفنية التي تملكها السينما المصرية.. نلاحظ أن ممثلات السينما المصرية
الموهوبات
قد تتفوقن علي نظرائهن من الرجال.
الحدوتة هذه الخيالية بعيدة الاحتمال
والتصديق أسكنت الممثلين في أدوار لعبوها باحتراف فسكنوا بدورهم في المستوي
المناسب النفسي والمزاجي لطبيعة الدور والشخصية التي يلعبونها..
خالد صالح
المزور القدير والخطير للوثائق الذي خرج من السجن بعد سنوات طويلة لا يعرف
أين
سيذهب. فيتلقفه شاب ملتح يدعي أنه ابنه. فيوفر له المسكن
والمأكل . بعد أن يضيق به
الحال. ويفتح له الباب الخلفي لممارسة الجنس عبر الكمبيوتر دون أن يترك له
الفرصة
للدخول. مما يفتح الباب للسخرية والمفارقة التي تزداد سخونة حين يأتيه من
هذا الباب
نفسه غانية فاتنة لم يسمح له الابن أن يقترب منها حسب خطة
مرسومة..
السجين
الخارج من السجن يلتقي بماضيه. بالصديق الذي خانه. والمرأة التي باعها.
والكنز الذي
لم يستطع استعادته.. وحتي الجنس الذي حُرم منه وأراد أن يمارسه
بشكل أو بآخر وهو في
صحبة الغانية. كما يتضح في نهاية الفيلم اتفقت علي حصاره وأحكام الخناق
عليه بخدعة
الابن المزعوم الذي اتضح أنه ليس ابنه. وأنه ليس عضواً في جماعة الإرهابيين
لأنهم
في الحقيقة ليسوا جماعة ولا هم إرهابيون وإنما اصدقاء هذا
الشاب الذي ادعي ذلك
لأسباب تدخل في خطة الانتقام التي دبرتها المرأة التي أهانها وتخلي عنها
والتي لعبت
دورها سوسن بدر كضيف شرف بمهنية عالية.
الفيلم كما أشرت في البداية أقرب إلي
التمثيلية الفكاهية المحكمة التي تعتمد علي تركيبة "اللغز" وحبكته حيث يتم
الكشف عن
غموضه في النهاية والتي تتجسد من خلال مشهد استعراضي ظريف علي شاطئ
الإسكندرية.
حين تجتمع كل العناصر التي تضافرت ونسجت ألعابها حول الشخصية المحورية
"القنصل"
الذي لعب دوره خالد صالح بينما يتفهم تماماً طبيعة الدور وجوهره الساخر
الطريف.
وكذلك طبيعة المظهر "الاسطوري" الذي تستدعيه الشخصية شبيهة الحاوي. أو
الساحر
العجوز. أو حتي "الجني" الذي خرج من القبو "الزنزانة" وقد فقد مهاراته
وارتعشت
أصابعه. فوقع في "الشرك" الوهمي الذي نصبه من يتلقفه وهو خارج لتوه إلي
دنيا النور.
وإلي المدينة التي كانت مسرحاً لخطاياه في
حق الصداقة والعاطفة والرجولة و..
الخ..
استعاد أحمد السقا في دورية "عصام. وناصر السماك" لياقته المعنوية
والتمثيلية في أدائه للشخصيتين.. في الشخصية الأولي "عصام ابن
القنصل" تقمص ملامح
شخصية المتدين المتطرف. المغسولة دماغه من قبل الجماعات
"الإسلامية". فأطلق اللحية
وارتدي الجلباب. والطاقية وأخضع سلوكه إزاء الأب لمبادئ الدين
الذي يوصي بالوالدين.
فأطاع وأكرم وتقرب إلي القنصل عاطفياً. وأخيراً يتضح أن هذا المظهر ليس سوي
"قناع"
وحين يخلعه تظهر حقيقته وحقيقة الدور الذي أسند إليه انه "ناصر السماك" زوج
"بوسي"
التي لعبت دور الغانية!! و"بوسي" نفسها ابنة المرأة التي أزلها القنصل في
شبابه "سوسن
بدر".
كل الممثلين في هذا العمل كانوا يلعبون ادوارهم وهم يضعون الأقنعة
فهم ليسوا شخصيات حقيقية والمهارة المطلوبة هي فقط إحكام
القناع أمام الحاضرين في
صالة العرض..
كل اللعيبة في هذه التمثيلية ادركوا كنه الأدوار التي يؤدونها
والهدف منها. خالد سرحان وهناء عبدالفتاح وضياء الميرغني
وسليمان عيد .
التمثيلية الفكاهية كما تجسدت في شريط ابن القنصل تضمنت مشاهد "بهلوانية"
"جرافيك" نفذت بطرافة فيما يشبه النكتة البصرية واشير إلي مشهد "الكرسي
المتحرك"
الذي جلس عليه صديق عادل القنصل "هناء عبدالفتاح" وكان دوره أن يلعب دور
المصاب
بجلطة في المخ أقعدته علي المقعد المتحرك. ثم اتضح أنه عجوز متصاب ومتزوج
من امرأة
في سن ابنته.
*
ابن القنصل في الخلاصة الأخيرة. شريط ترفيهي ظريف. تمت حياكة
خيوطه باستخدام جيد التوظيف لإمكانيات السينما من توليف "معتز
الكاتب" وديكور "سامي
الجمال" وصورة "محسن أحمد" وموسيقي "محمود طلعت".. ومن خلال
اختيار جيد ومناسب
لطاقم الممثلين بمن فيهم ضيوف الشرف "سوسن بدر. ومجدي كامل.
ومصطفي هريدي"..
المساء المصرية في
26/12/2010 |