يستعد المخرج محمد خان للوقوف وراء الكاميرا من جديد وذلك بعدما وافق
على مشروع فيلم كان من المفترض أن يبدأ تصويره قبل حين لولا اعتذار المخرج
محمد فاضل عنه ما دفع برئيس جهاز السينما، المنتج المحترف ممدوح الليثي
لاختيار خان في بادرة أشاعت قدراً كبيراً من الارتياح في صفوف المعجبين
بسينما هذا المخرج، والداعمين للسينما الجادّة على العموم .
الفيلم مقتبس عن رواية لنجيب محفوظ وضع لها السيناريو مصطفى محرّم
والاجتماعات الحالية بين المخرج وكاتب السيناريو هدفها توحيد الرؤية الفنية
والتقدّم صوب قيام المخرج بترشيح الممثلين الذين سيقومون بالأدوار الرئيسة
وشبه الرئيسة .
يأتي هذا الخبر مع مرور ثلاثين سنة على ولادة سينما هذا المخرج المصري
الكبير، إذ انطلق في تحقيق الأفلام سنة 1980 عندما أخرج فيلماً من بطولة
نور الشريف بعنوان “ضربة شمس”، تبعه على الفور بفيلم آخر من بطولة نور
الشريف هو “الرغبة” . واعتمد خان في الفيلمين على سيناريوهين من كتابة
اثنين من الجيل نفسه هما فايز غالي وبشير الديك .
وفي الوقت الذي يقوم خان بالتحضير لفيلمه الحادي والعشرين، ورد في بعض
الأخبار أن المنتج محمد السبكي صرّح بأنه لا يرى إمكانية التعاون مع المخرج
محمد خان بعد تعاونهما السابق سنة 1993 تحت عنوان “مستر كاراتيه”، وأضاف
أنه يرى أن المخرج “متميّز وعبقري” لكن هناك حاجزاً بينه وبين الناس ما
يجعل أفلامه لا تنجح تجارياً .
الحاجز الوحيد بين محمد خان وبين الناس هم المنتجون أنفسهم الذين
يعتبرون أن ما عنده لتقديمه ليس ما يعود إليهم بالحد الأعلى الذي يطلبونه
من الايرادات . ذلك لأن إيرادات معظم أفلام محمد خان لم تكن أقل من الكلفة
بل فوقها بذلك معظم أفلام نجحت واستردت تكاليفها وحققت أرباحاً، لكن، وعلى
نحو مفهوم، ليست بالأرباح التي يحققها الفيلم الهادف بكل طاقته لتلبية
الجمهور السائد، كتلك التي ينجزها مخرجون شبّان يلتهمون الفرص قبل أن تغيب
مع ممثلين بلا بصمات أو طموحات فنية . في الواقع، يشترك جميع العاملين في
صنع أفلام مثل سلسلة “اللمبي” (التي فشل آخرها فشلاً ذريعاً على أي حال)
وأفلام “فخفاخينو” و”بوبوس” و”ابقى قابلني” و”مقلب حرامية” والعديد سواها،
بافتقارهم الى الطموحات التي تتجاوز ما قد ينجزه الفيلم من إيرادات تجارية
. مجرّد إتمام فيلم ما صوب هذا الغرض وحده، يكون كل العاملين فيه تخلّوا
حتى عن أبسط شروط الإبداع ناهيك عن المسؤولية الوطنية المفترض بها أن
تدفعهم لإنجاز ما قد يكون رفعاً لشأنه وتقديراً له .
خروج محمد خان إلى الساحة الفنيّة قبل ثلاثين سنة لم يكن استثنائياً .
السينما المصرية آنذاك كانت نجحت في الحفاظ على جدّية الحرفة والخطاب
السينمائي والفكري عبر جيل جديد من المنتمين، روحاً وتجربة، إلى جيل ثورة
23 يوليو بكل مقوّماتها . وكما كانت السينما المصرية قد استوعبت بعد قيام
الثورة صناعة الأفلام الهادفة وتلك الجماهيرية العادية، توازى هذان النوعان
من السينما لمعظم الثمانينات، فكانت هناك تلك المصنوعة لجمالياتها ومعانيها
وإبداعاتها والأخرى التي، من باب ايجاز الوصف، يُطلق عليها أفلام المعلّبات
أو “المقاولات” .
عبر أفلامه المتوالية، وجد محمد خان الزاوية الصحيحة المناسبة
لطموحاته ورؤاه . كان يعتمد على السيناريو الذي يتولّى قول الأشياء بصدق
ويتداول شخصيات طبيعية والذي سيتيح له معالجتها على نحو واقعي . أفلامه
الأولى (ومن بينها لجانب “الرغبة” و”ضربة شمس” فيلمه الجيد “طائر على
الطريق”) لم تحاول أن تفرض حس المدينة بل دارت في أجواء مختلفة سواء أكانت
صوّرت داخلها أو خارجها . ومع فيلم “الحرّيف” (1983) تبدّت قدراته على
النظر الى المدينة نظرة جديدة تضاف من دون أن تمتزج لنظرة السينمائيين
السابقين الذين تعاملوا مع المدينة وحاراتها وشخصياتها وأبرزهم صلاح أبو
سيف . على عكس سواه من تلك الفترة، لم يرد محمد خان الخوض في حكايات الحارة
الشعبية، لكنه في ذات الوقت لم يخن الواقعية التي تكتنزها القاهرة، المدينة
التي أحبّها في كل لقطة من كل فيلم أنجزه .
“الحريف” نفسه كان خطوة شجاعة، لا منه فقط، بل من عادل إمام لكونه لعب
دوراً ضد نمطه . وبما أن غاية عادل إمام كانت دائماً وستبقى تجارية، فقد
نبذ الفيلم الذي بصرف النظر عن حدود الإقبال عليه كان أفضل عمل ظهر فيه ذلك
الممثل إلى اليوم .
أفلام محمد خان بعد “الحريف” (ومنها “خرج ولم يعد” و”مشوار عمر”
و”عودة مواطن” و”زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا” ثم “فارس المدينة”
سنة 1993 كانت علامات على طريق السينما المصرية . عملاً بعد آخر شيّد
المخرج سينما صادقة لا تخجل من أن تحب التعبير واللغة السينمائيين بعيداً
عن الخطابة والأفكار الجاهزة للتصدير قبل التصوير . التسعينات كانت صعبة
لانحسار التعامل مع السينما التي مثّلها محمد خان وصحبه . العقد الأول من
القرن الحالي، كان أيضاً صعباً- لكن إذ يقف خان على أهبة عمل جديد، سيدرك
المعجبون والنقاد كم السينما العربية محظوظة بوجوده وأمثاله وكم عليها أن
تسعى لأن تعزز سينماه وما تعبّر عنه في هذه المرحلة من الظروف التي يمر بها
العالم العربي .
"هوليوود" تستبيح السينما
الأوروبية
تنطلق الكاميرات قريباً لتصوير فيلم تشويقي بعنوان “الأيام الثلاثة
المقبلة” من إخراج بول هاجيس وبطولة ليام نيسون وأوليفيا وايلد . ليس هناك
ما هو غريب في هذا العمل، باستثناء أنه مقتبس من فيلم فرنسي بعنوان “لأجل
إيلي” يدور حول زواج سعيد إلى أن يتم اتهام الزوجة بجريمة قتل تدفع الزوج
المؤمن ببراءة زوجته إلى التحقيق بنفسه . وليس الاقتباس عن أصل فرنسي هو
بدوره أمراً غريباً، فهناك الكثير من الأفلام الفرنسية التي تحوّلت الى
أفلام هوليوودية خلال السنوات الثلاثين الأخيرة خصوصاً . لكن ما هو لافت
حقيقة ازدياد عدد الاقتباسات الهوليوودية عن الأفلام الفرنسية، وذلك بمعدل
فيلمين إلى ثلاثة في العام الواحد .
على الشاشات الفرنسية اليوم مجموعة يمكن التقاط عدد من الأفلام التي
تستعير من الحياكة الهوليوودية كل شيء، حتى لتبدو كما لو أنها أمريكية
الصنع، لولا أن الممثلين فيها يتحدّثون الفرنسية وبعضهم من الخامات
الفرنسية المعروفة . هذه الأفلام تتميّز بالموضوع المثير، والإخراج على
الطريقة الأمريكية وبأسلوب خال من الذاتية، وحسب مونتاج قائم على التقطيع
المتواصل والإيقاع السريع . الى ذلك، فإن لا شيء في السيناريو لا يمكن
ترجمته الى فيلم أمريكي، فالأحداث عالمية والشخصيات شفّافة والموضوع بأسره
ينتمي الي أي مكان .
هذا شأن فيلم آخر خرج الى الصالات الفرنسية قبل خمس سنوات بنجاح عادي،
تحت عنوان “أنطوني زيمَر” مع صوفي مارسو وإيفون عتّال في البطولة . حالياً
انتهت شركة كولومبيا من تصويره تحت عنوان “السائح” مع إنجلينا جولي وجوني
دب .
وحالياً في العروض الأمريكية “عشاء للأغبياء” من بطولة الكوميدي ستيف
كارل الذي ليس سوى ترجمة للفيلم الفرنسي “لعبة العشاء” الذي قام الكوميدي
جاك فيليريه ببطولته سنة 1998 .
والسينما الفرنسية ليست وحدها التي باتت مصدراً مهمّاً للأفلام
الأمريكية، بل أحد أهم ما يدور خلف جدران الاستديوهات الأمريكية الكبيرة هو
محاولة إتمام الإستعدادات للانطلاق بتصوير فيلم “الفتاة ذات الوشم التنين”
المأخوذ عن فيلم سويدي لم يمض على عروضه الأمريكية أكثر من ثلاثة أشهر .
لكن نجاح الرواية التي كتبها ستيغ لارسن عند طبعها في الولايات المتحدة،
ونجاح أقل قدراً للفيلم السويدي الذي أخذ عنها كانا كافيين لحمل شركة
“سوني” للتعاقد مع المخرج ديفيد فينشر والممثلين روبن رايت ودانيال كريغ
وستيلان سكارسغارد في نسخة أمريكية جديدة .
وهناك فيلم سويدي حديث آخر يتسلل الى “هوليوود” بأكثر من وسيلة .
الفيلم هو “دع الشخص الصحيح يدخل” وهو فيلم رعب أنجزه توماس ألفردسون وتم
عرضه في السويد أواخر العام الماضي، ومبرمج للعروض الأمريكية في الأول من
أكتوبر/تشرين الأول المقبل)، ولو أن أحداً لن ينتظر نتائج العرض بل بوشر
بإعادة كتابة السيناريو منذ الآن .
ومع أنه ليس في الاعتماد على الإنتاجات الأوروبية أي جديد، فهوليوود
اقتبست سابقاً من سينماتها جميعاً، وحين لم تجد ما تقتبسه دعت مخرجين
وسينمائيين مرموقين إلى العمل عندها، الا أن وفرة هذه الفرص تضع السينما
الأوروبية على المحك . من جهة، من المفيد للسينمائي الأوروبي أن يجد أن
عمله له حياتان، واحدة في أوروبا والأخرى في أمريكا، مع ما يعنيه ذلك من
أجر مزدوج عن فعل واحد . لكن من ناحية أخرى، وأهم، فإن ما يحدث في الصميم
هو محو الهوية الخاصّة من الفيلم الأوروبي مع ازدياد تفصيل الفيلم، لكي يفي
بإغراء الاستديوهات الأمريكية . بكلمات أخرى، مادام الفيلم الأوروبي
معمولاً بلغة فنية وثقافية أوروبية، ليس هناك ما يُعيب إذا “استحلت”
هوليوود الاقتباس . ما هو مخيف وذو دلالة سلبية، أن العديد من هذه الأفلام
بات يرتدي الثياب الأمريكية من الأساس . ثياب إغراء تكشف من العورات أكثر
مما يجب .
علامات
الاثنا عشر
حين قرر المخرج الأمريكي سيدني لومِت في ،1957 أن الوقت حان لدخوله
السينما مخرجاً استعار من خلفيته المسرحية، ممثلاً ثم مخرجاً، عملاً كان
رينالد روز كتبه مسرحية تلفزيونية بعنوان “اثنا عشر رجلاً غاضباً” سنة
،1954 ومنحها خبرته في إدارة الممثلين بعدما وافق هنري فوندا على بطولتها
وإنتاجها أيضاً . المسرحية تقوم على رصد اثني عشر محلّفاً (كلهم رجال)
مجتمعين في غرفة خاصّة للبت في القرار الذي سيصدرونه على شاب متّهم بقتل
رجل عجوز . الشاب يدّعي براءته . المحلّفون (معروفون بأرقام فقط من 1 الى
12) يدخلون القاعة على أساس أنهم متّفقون على إدانته، لكن واحداً منهم (رقم
8) يكشف عن ريبته في أن الشاب مذنب فعلاً . هذا يُثير الجميع في البداية
على أساس أن قناعاتهم كانت جاهزة لإصدار الحكم والانصراف كل في سبيله، لكن
حجّة رقم ،8 وهو الدور الذي أدّاه هنري فوندا، من القوّة بحيث إنه، وطوال
96 دقيقة من الفيلم، سوف يكسب في كل تصويت يتم أصواتاً جديدة إلى صفّه .
بما أن القرار المطلوب يجب أن يكون إجماعياً فإن متابعة التصويت ضرورية
للوصول الى نتيجة نهائية . في المقابل، هناك بضعة أفراد من هذه المجموعة
تعارض احتمال براءة الشاب وأحدهم (رقم 3 كما قام به لي ج . كوب) هو الأكثر
نزعة الى العنف والفاشية في محاولته تجريم الشاب، لكي نكتشف في النهاية أن
لديه مفهوماً محافظاَ للغاية، وأنه ينظر الى المتّهم نظرته إلى بعض
الشخصيات والمواقف التي تعرّض إليها
غني عن القول إن المخرج استعان بعدد من الممثلين الذين لا يمكن تخطئة
مفرداتهم في الأداء . وإذا كان هنري فوندا النجم بينهم، نظراً لشهرته، فإن
الباقين ممثلون لا يقّلون عنه إجادة خصوصاً مارتن بلسام (رقم 1) لي ج . كوب
(3) إ . ج . مارشال (4)، جاك ووردن (7) جوزف سويني (9) وإد بيغلي (10)
في طيّات العمل، ليست هناك فسحة يتمكّن فيها المشاهد من أن يكون حرّاً
في الموقف . سيدني لوميت، من هذا الفيلم وصاعداً، لم يعرف منح المواقف
معطيات مثيرة للجدل، بل كان دائماً ما يعزز من يؤيده ويهوي بالمطرقة على
الباقين، كما لو أن الناس خلقت بيضاء أو سوداء من دون تدرّجات . هذا لم
يمنع من اعتبار الفيلم أفضل ما عرضه مهرجان برلين ونال الجائزة الذهبية سنة
،1957 وهي الدورة التي عرض فيها المخرج صلاح أبوسيف فيلمه الجيد “الفتوة” .
قبل عامين أنجز المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف نسخة روسية عن ذلك
الفيلم، كما هناك نسخة سينمائية أمريكية أخرجها وليام فرايدكن سنة ،1997
لكنها لم تصل الى مستوى الأصل . لكن نسخة ميخالكوف، وإن لن تترك الأثر
ذاته، هي الأفضل حتى من نسخة لوميت، كون المخرج، في تحويل المسرحية
وشخصياتها الى الروسية، يقدم على ما تحاشاه المخرج من تبرير للمواقف على
طريقة مدروسة ومن وضع الجريمة في صلب الوضع الاجتماعي . بالتالي، فإن
المداولات تبحث في السياسة المحلية والاقتصاد والمجتمع في الوقت الذي لا
يزال فيه الفيلم يسرد وضعاً حادّاً ومشوّقاً في الأساس .
م.ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
المصرية في
10/08/2010
ثقافات / سينما
بول موراي: صورة جانبية لديفيد لينتش
عبدالاله مجيد / إعداد القسم الثقافي
المخرج والفنان البصري الأميركي ديفيد لينتش معروف بمعالجته
السينمائية المتميزة وغير التقليدية التي أصبحت بصمته في الإخراج السينمائي
لا يخطئها الجمهور أو النقاد. وتتسم أعماله السينمائية بالصور الكابوسية
والحلمية والتصميم الصوتي المتقن. وكثيرا ما يتناول لينتش في افلامه عالم
العنف والأسرار غير المرئي الذي يكمن وراء مظهر البلدة الأميركية الصغيرة
الوادعة، مثل "بلو فيلفيت" و"توين بيكس" أو مدن كبيرة مثل فيلم "لوست
هايواي" أو "انلاند امباير".
ولكن تحت صوره السوريالية التي يقحم بها خيولا بيضاء بين افراد
العائلة في غرفة المعيشة يلتزم لينتش بمبادئ لا يحيد عنها. ويلاحظ الناقد
السينمائي بول موراي ان لينتش يبدو في بعض جوانبه رومانسيا من المدرسة
القديمة، شغوفا بتقديم وجوه نسائية شابة جميلة وابطال مهندمين لا تجدهم إلا
على الشاشة ولكن افلامه تبقى هرطيقية تتحدى التقاليد المتعارف عليها في
السينما. ورغم العالم ما بعد الحداثي الذي يسكننا ونسكنه نبقى تقليديين في
احترامنا للمنطق بحيث يصدمنا فيلم مثل "لوست هايواي" الذي يتحول بطله
اللابطل الى شيء آخر بلا تفسير في منتصف الطريق.
هنا يصح على لينتش ما يذهب اليه فلوبير عن المبدع الذي يراعي آداب
السلوك والنظام في حياته كي يتمكن من تحقيق الأصالة والتمرد في عمله الفني.
ولينتش يتصف بالاثنين لكنه في المقام الأول شجاع. فأن لا تكون مفهوما انما
يتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة. واشد ما يخيف في العمل الفني ألا يعرف المبدع
ما يصنعه، حيث يكون اللوذ بالأشكال المعهودة اغراء يكاد لا يقاوم. ولدى
لينتش القدرة على ألا يثق بشيء سوى رؤيته وعلى كل ما فيها من غرابة فهي
رؤية ذات جمال أخاذ، تعبر عن افتتان طفولي بالعالم وحب غامر لكل ما فيه.
رُشح لينتش اربع مرات لجائزة الاوسكار، ثلاث مرات لأفضل مخرج والرابعة
لأفضل سيناريو. وفاز مرتين بجائزة سيزار الفرنسية وجائزة السعفة الذهبية في
مهرجان كان وجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية. ومنحته الحكومة
الفرنسية وسام جوقة الشرف برتبة فارس في عام 2000 وبرتبة ضابط في عام 2007.
وفي العام نفسه وصفته صحيفة الغارديان بأنه أهم مخرج سينمائي في هذا
العصر.
إيلاف في
10/08/2010
«عام
آخر» لمايك لي
و«الحادثة الغريبة لأنجليكا» لدي أولفييرا
رونق حكايات
الأسى
زياد
الخزاعي
يشكو متابعو اشتغالات
صاحب «أسرار وأكاذيب» (1996) البريطاني مايك لي، من كثافة الأسى في نصوصه،
وإصراره
على النزوع نحو إظهار القدر الأعظم من الخيبة، التي تلفّ عوالم أبطاله.
يرون أنهم
(الأبطال)
لا يتماشون والرفاهية التي تعمّ جزيرة شكسبير وأعوانه من جهابذة الثقافة
الأنغلوسكسونية. يتأسّون بدورهم على أن غالبية حكاياته لا تبتعد عن الكرب
الشخصي،
الذي يميل إلى التدمير والإقصاء المتعمَّدين، قبل أن رأوا
الانقلاب الكبير للمخرج
لي في «السعيد محظوظ» (2008)، وتابعوا قهقهات بطلته بولين على أحوال بلدها،
سواء في
السوق أم المكتبة أم العراء، أم في داخل سيارة تعليم السياقة.
في حالة
البرتغالي مانويل دي أولفييرا (تجاوز المئة بعام ونصف العام)، يبتهج المرء
في
متابعة جهد استثنائي من قامة سينمائية عنيدة ضد العمر وبلاياه، تسعى دائماً
إلى وضع
مخرزها على الريب البشري الذي يقودنا نحو وهم التهم. أبطاله
جمهرة بشرية يُشاكلها
الجغرافي والديني، الطبقي والمسيّس، الحداثي والأصولي، الإيماني والإجحادي،
وأبرز
نماذجها متمثّلة في رائعته «الكوميديا الإلهية» (1991)، التي احتفت بالوهم
عبر
شخصيات معاصرة تعاني الاغتراب. بعض هذه الشخصيات يُظَنّ أنها
إنجيلية، وآخر يتشبّه
بأبطال دوستيوفسكي. لكن هناك إجماعا على البحث في عذابات الذنب وعقابه،
والصدق
وأقانيمه، والنفاق وزلاّته، قبل محنة البعث. هؤلاء الأبطال هم، في الشكل
العام، رؤى
متثاقفة لأوروبا المتغيّرة والساعية إلى القوة الاقتصادية الماكنة في ربط
الغرب
الأميركي بالعمق الآسيوي، من دون إنكار الهوس المبطّن للامبريالي الذي
أسقطه
التاريخ، قبل رؤية دي أولفييرا وهو يسعى إلى حكمة الغرائبيّ في
جديده «الحادثة
الغريبة لأنجليكا».
وجه ميت
للوهلة الأولى، يبدو دي أولفييرا، الذي يرفع
النقّاد مقامه أسوة بالإسباني لوي بونويل والدانماركي كارل
ثيودور دراير، حارساً
للاقتباس الأدبي، وهو عنوان قوته، كـ«تمركزات الفتاة الشقراء» (2000)
المقتبس عن نص
لإيتشا دي كواريش، حول حب قاتل بين رجل وحسناء شقراء؛ واستعارته نص
أوغستينا
بيسالويس «المرآة المسحورة» (2005)، عن الشابة ألفريدا التي
تريد استحضار روح مريم
العذراء وطلّتها. بيد أن متابعي سلّته السينمائية الغنية، وهم قلّة نادرة،
يُمسكون
بهاجس التأسّي على الفرادات المثالية في التاريخين الأدبي والسياسي في
برتغاله،
التي تتغاضى عنها أجيالها المتأمركة حالياً، كما في «العالم
واليوتوبيا» (2000)، عن
القس أنتونيو فاييرا، الذي ساهم في الدفاع عن السكّان الأصليين في برازيل
القرن
السابع عشر ونجاحه في إلغاء العبودية؛ أو مناكداته حول الأصول كما في
«كريستوف
كولومبس» (2007)، عن مساعي طبيب يريد إثبات أن المكتشِف ليس
إسبانياً بل برتغالي.
ومثله، الأكاديمي الأميركي في «الدير» (1995)، الباحث ضمن خزائنه عن
وثيقة تُثبت أن
شكسبير إسباني وليس إنكليزياً.
في دراميته الجديدة «الحادثة الغريبة لأنجليكا»،
استعاد دي أولفييرا رونق حكايات الأسى، الدائرة حول الوله الذي
يغمر كيان المصوِّر
الشاب، الذي استُقدِم على عجل لتصوير وجه الحسناء، التي ماتت قبل ساعات من
زفافها
الموعود. وسواسه بحبّه للجسد الميت فرض عليه وهم التقمّص الناقص، الذي ما
إن يقوده
إلى عالم موتها حتى يصدمه واقع خيالاته. في نهاية العمل
المتفلسف، تنوس روح أنجليكا
فوق الموت القريب للآخرين. فالقدر مرسوم للأرواح في ألقها، وهو أسى سينمائي
شعري،
يجد صداه تماماً في «وادي أبراهام» (1993)، بموت الحسناء إيمّا وهي عاجزة
عن إتمام
عشقها للشبان الثلاثة. ومثلها حكاية بطلة «الرسالة» (1999)، التي تكتشف أن
حياتها
نعوة لحب لن يتمّ لشاعرها المتيّم.
رد الهوان
يركن البريطاني مايك لي إلى
تحامله على كائناته، باعتبار أن إساءتها فهم ضرورة اندماجها
ضمن الكتلة الاجتماعية
هو عنوان مآسيها، التي تجلّت في نصّه الأول «لحظات قاتمة» (1971)، بجعله
بطلته
هيلدا (سارة ستيفنسون) صورة للعجز في التفاعل الاجتماعي بسبب
عاهتها، ما يقودها الى
جُبّ التوحّد، قبل أن تشاركها في هذا عائلة «في غضون ذلك» (1983)، التي
تنهار قيمها
وتتفكّك روابطها بسبب الركود الاقتصادي وقسوته وسياسات رئيسة الوزراء آنذاك
مارغريت
ثاتشر ومحافظيها. ومثلها أيضاً الأحوال المريرة التي تدفع بالشاب جوني
(ديفيد
ثيوليس، أفضل ممثل في مهرجان «كان» 1993)، بطل «أعزل»، إلى
ارتكاب جريمة الاغتصاب
قبل انهياره في أحقر الأزقة الفقيرة في لندن، فيما يكون حفل عيد ميلاد
السيدة
سينيثيا (القديرة بليندا بليثن) الطامة التي تكشف «أسرار وأكاذيب» (1996)
عائلتها،
بعد أن تفضح سرّ الضيفة السوداء «ابنتها البيولوجية». في حين
يتجلّى أسى البطلة
العجوز «فيرا درايك» (2004) مع اعتقالها بتهمة الإجهاض السرّي، هي التي
ظلّت مصرّة
على ظنّها أنها تقدّم خدمة لمجتمع الحرب الذي شاع في حمل السُفّاح.
مع اختياره
الفطن ثيمة العائلة، اخترق لي التابو الرسمي الساعي إلى تقديم المجتمع
البريطاني
باعتباره طاهراً وعصياً على التفكّك. لا يتّهم خطابه النظام السياسي وحسب،
بل يُبرز
المديات الهدّامة التي تقوم بها الوحدات الاجتماعية، التي
كُلّفت منذ انتهاء الحرب
العالمية الثانية مهمّة إعادة التوازن الاجتماعي، والتي فشلت بها مع
استعارتها
النظم المعمول بها في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تسبّب التطبيق في
سرقة المال
العام بمختلف الحجج، وهو ما تسعى إليه حكومة تحالف المحافظين
والليبراليين الحالية
بوقفه وإعادة ما تمّ تسريبه. ما حدث من انهيار اقتصادي في سبعينيات القرن
الماضي لم
يتسبّب في انهيار المملكة، بل أشاع جحافل من الفقراء والمعوزين والعاطلين
و«عمّال
الهامش»، كما ظهر في نصّه البليغ «كل شيء أو لا شيء» (2001)، الذي يتشارك
بتعدّدية
خطوطه الدرامية مع جديده الأخير «عام آخر»، وفيه يُقارب العائلة البريطانية
المتوسّطة، التي تتحوّل إلى حمّالة أسى للآخرين، منطلقة من رضى
شخصي بقوة آصرتها
وتحمّلها في رد الهوان على الشخصيات المتهالكة، التي ما تفتأ بالمجيء إلى
دارتها.
استند غاري وتوم (أداء مشعّ لجيم برودبنت وليسلي مانفيل) الى عزائهما
الشخصي
للكينونات التي لا تستطيع القيام بمهمتها الاجتماعية على الوجه الأكمل:
الصديقة
ماري تنتهي مخمورة إلى مواجهة خيبة حياتها ورُهابها من الآخرين، وغيرتها من
الوافدين إلى مستعمرة الزوجين (خطيبة الابن جو). روني، شقيق
غاري، اصطدم بابنه
العاق، الذي أحال مأتم والدته إلى فضيحة. صديق الطفولة كين فَقَد رشده
مخموراً
ولاعناً وحدة حياته وخشيته من الموت من دون سند. ولا ريب في أن صدى هذه
الإرادات
موجودة في عمل دي أولفييرا «أنا ذاهب إلى البيت» (2001)،
باكتشاف الممثل العجوز
غلبير (ميشال بيكولي)، بأسى ساحق وأثناء مشاهدته فيلم «يوليسيس» لجوزيف
سترايك (1967)،
أن وقته حان للتقاعد والتفرّغ لرعاية حفيده الصغير، الذي فَقَد أمه وجدته
وشقيقته بحادث سيارة، وكاد العجوز يتخلّى عنه في لحظة أنانية صفراء.
)لندن(
السفير اللبنانية في
10/08/2010 |