قاعة المحكمة واحدة من الأماكن المألوف تكرار تصويرها في السينما بالعلاقة
مع المشاهد التي تحتوي على جلسات المحاكمة المرتبطة في أكثر الأحيان
بالأفلام البوليسية أو بالأفلام التي تعالج قضايا مرتبطة بالخلافات الأسرية
على أنواعها.
وفي الغالب الأعم تتحول مشاهد جلسات المحاكمة في الأفلام إلى وقائع روتينية
شكلا، يتم تصويرها بأساليب متشابهة، ولها هدف درامي متكرر ينتهي إما بتبرئة
المتهم أو إدانته.
بالمقابل، شهدت مسيرة السينما العالمية عددا قليلا من الأفلام التي تضمنت
جلسات محاكمة يمكن وصفها بالتاريخية بامتياز، بعضها عبّر بشكل عميق عن
أفكار تعكس مجريات العصر وترتبط بالقضايا المتعلقة بالإنسان والوجود ضمن
شروط تاريخية محددة، وتحتوي، بالمقابل، على دلالات ذات طابع شمولي تحيل إلى
موقف من الصراعات الطبقية والاجتماعية وأزمة الفرد الباحث عن العدالة
بالعلاقة مع آليات القمع السلطوي، وبعضها يناقش قضايا فلسفية خصوصاً ما
يتعلق بمفهوم الحقيقة.
تاريخيا، يسجل لفيلم "م" ("م" هو الحرف الأول باللغة الإنجليزية من كلمة
"القاتل")، وهو الفيلم الذي أخرجه فريتز لانغ في العام 1931، أنه أطرف
الأفلام التي صورت واقعة جلسة محاكمة، وأغربها وأعمقها، على الأغلب حتى
يومنا هذا.
تتكون هيئة قضاة المحكمة في هذا الفيلم من لصوص وشحاذين، المدعي العام لص،
محامي الدفاع لص، المسؤولون عن تنفيذ الحكم لصوص، أما المتهم فهو مجرم
مهووس ارتكب مجموعة جرائم قتل متسلسلة ضحيتها أطفال. وعلى غرابة الأمر فإن
المحاكمة تتم بطريقة واقعية.
ويتبين من مجرى المحاكمة التي تجري في قبو أحد المباني المهجورة بحضور
جمهور غفير من اللصوص والشحاذين، أن الجميع ملمون تماما بأصول القانون
الجزائي التي اكتسبوا معارفهم فيها من خبراتهم الشخصية نتيجة تعرضهم
المتكرر للمحاكمة.
هذه المحاكمة الغريبة سببها أن الجرائم التي ارتكبها القاتل المهووس والتي
أثارت الذعر في المجتمع، أدت إلى انتشار رجال الشرطة في أرجاء المدينة بحثا
عن القاتل، مما تسبب في إعاقة عمل اللصوص والشحاذين فأصبح من مصلحتهم
العثور على المجرم ومعاقبته على ما ارتكبه من جرائم ما كان لهم أن يهتموا
بإدانتها لولا أنها منعتهم من ممارسة جرائمهم الخاصة.
لا تقتصر دلالة هذه المحاكمة على المفارقة القائمة فيها، بل تكتسب أهمية
سياسية أعم من خلال سياق الفيلم كله الذي يرمز ما بين السطور إلى خطورة
صعود القوى النازية في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين.
بعد تسعة عشر عاما من هذا الفيلم، ستنبهر الأوساط السينمائية في العالم بعد
مشاهدة فيلم "راشومون" بتوقيع المخرج الياباني غير المعروف عالميا آنذاك
أكيرا كيروساوا، وهو الفيلم الذي تضمن وقائع محاكمة غريبة جديدة من نوعها
طرحت الكثير من الأسئلة الجذرية المتعلقة بمفهوم الحقيقة ومدى موضوعيتها
بالعلاقة مع مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة.
تتلخص القضية في جريمة ارتكبها قاطع طريق وسط الغابة، حيث قتل مسافرا من
طبقة النبلاء واغتصب زوجته. لا يصور المخرج هيئة المحكمة بل يكتفي بصوت
القاضي وهو يستنطق أطراف القضية، المجرم والزوجة والقتيل الذي يدلي بشهادته
بعد عملية استحضار لروحه، والذين نراهم، كلاًّ على حدة، جالسين يواجهون
جمهور المشاهدين ويدلون بشهادتهم حول ما حدث، بحيث يقدم كل منهم زوايا رؤية
مختلفة عن الآخرين تؤدي إلى تفسير مغاير لحقيقة ما حصل.
ولا يتعلق الأمر هنا بالشهادة الكاذبة فقط، بل بكيفية النظر إلى الوقائع
والتركيز على تفاصيل معينة فيها وتفسيرها بما يؤدي إلى نسبية الحقيقة التي
تفقد موضوعيتها وتتحول إلى حقيقة ذاتية نتيجة ارتباطها بالمصلحة الطبقية
والخاصة بكل شاهد.
ولتأكيد فكرته، لا يكتفي المخرج بشهادة الأطراف الثلاثة المرتبطين بالواقعة
مباشرة، بل يكشف في نهاية الأمر عن وجود شاهد رابع هو حطّاب فقير كان يمر
بالصدفة في الغابة فترة وقوع الجريمة، وهو شاهد يفترض أنه محايد وكان يمكن
أن يكون موضوعيا في روايته للحدث لولا أن له أيضا مصلحة في إخفاء معلومة
مهمة.
ويقدم المخرج الأميركي أورسن ويلز في العام 1962 فيلم "المحاكمة" المقتبس
عن رواية الكاتب فرانز كافكا، حيث تتحول المحاكمة إلى حالة تجريدية عبثية
في آن. يحكي الفيلم قصة رجل يدعى "جوزيف. ك"، هو مواطن في بلد لا اسم له،
يتعرض للاعتقال ويجد نفسه متهما في قضية غير محددة، وعندما يحاول الدفاع عن
نفسه لا يعثر على هيئة المحكمة.
إضافة إلى هذه المحاكمات السينمائية غير التقليدية والمهمة في مضامينها
ودلالاتها والتي تنتمي إلى مرحلة مبكرة من عمر السينما، تميزت لاحقا أفلام
قليلة أخرى بواقعيتها وقيمتها السياسية أو الاجتماعية التاريخية. وهذا ما
نجده في فيلم المخرج الأميركي ستانلي كرامر، وهو فيلمه الشهير "محاكمة
نورنبرغ" الذي أخرجه في العام 1961 واعتمد فيه على وقائع موثقة ترتبط
بالمحاكمة التي جرت في مدينة نورنبرغ في العام 1950 لبعض قادة الجيش النازي
المتهمين بجرائم حرب ضد الإنسانية، وهي المحاكمة التي توصف بأنها محاكمة
العصر.
لا تقتصر أهمية المحاكمة في هذا الفيلم على مضمونها وقوة إخراجها، بل تتركز
أساسا على مصداقيتها كونها تجسيدا سينمائيا صادقا ومؤثرا لوقائع موثقة، أي
أنه فيلم روائي تسجيلي في آن يمزج قوة الدراما بمصداقية الوثيقة.
ومن الجدير بالذكر هنا أن كرامر نفسه سبق أن اخرج في العام 1960 فيلما
مميزا يتضمن محاكمة ذات قضية جذرية مرتبطة بالمجتمع الأميركي، حمل عنوان
"أن تحصد الريح"، وتجري أحداثه في العام 1925، ويكشف زيف الديمقراطية
الأميركية من خلال اعتقال أستاذ يقوم بتدريس نظرية داروين ومحاكمته.
ويقدم المخرج الأميركي سيدني لوميت في العام 1957 فيلمه المثير "اثنا عشر
رجل غاضبا" والذي تميز من الناحية الفنية، في تجربة أولى من نوعها في
السينما العالمية، بتصويره المشوق للغالبية العظمى من مشاهد الفيلم داخل
قاعة ضيقة مغلقة ملحقة بقاعة المحكمة يجتمع فيها المحلفون الاثنا عشر
لتقرير مصير المتهم، فيحتد الصراع بينهم بسبب موقف أحدهم الأخلاقي الرافض
لإدانة المتهم والمعارض لموقف بقية المحلفين. يتميز الفيلم من الناحية
الدرامية بنقله المسؤولية من هيئة المحكمة إلى هيئة المحلفين، فلا تعود
المحاكمة مسألة قانونية، بل مسألة أخلاقية.
أما من الناحية السياسية، فيشكل الفيلم إدانة صريحة للمواقف العنصرية
المنتشرة في أميركا في ذلك الوقت، حيث يصر معظم المحلفين، انطلاقا من موقف
عنصري، على إدانة مراهق بقتل والده لأنه ينتمي إلى أقلية من المهاجرين من
أصل إسباني، رغم براءته من ذلك الفعل.
أشهر المحاكمات السياسية في السينما العالمية نجدها في الفيلم الإيطالي
"ساكو وفانزيتي" الذي أخرجه جوليانو مونتالدو في العام 1971، ويستعرض فيه
وقائع محاكمة اثنين من العمال الإيطاليين المهاجرين إلى أميركا وتحميلهما
مسؤولية قتل أحد الأشخاص تم قتله على يد رجال الشرطة أثناء التحقيق معه
بسبب مواقفه السياسية اليسارية. وقد تم اتهام العاملين ساكو وفانزيتي أيضا
بسبب علاقتهما بتنظيم سياسي يساري.
وانتهت المحاكمة بإدانة العاملين ثم إعدامهما، في حين أن قضيتهما أثارت
الرأي العام العالمي الذي تعاطف معهما، وتجلى ذلك التعاطف بالاعتصامات
والمظاهرات وبقية أشكال الاحتجاج على تلك التهمة الملفقة. ومن المفارقة أنه
تم تبرئة هذين العاملين بعد موتهما بعقود.
ينتمي فيلم "ساكو وفانزيتي " إلى تيار السينما السياسية الإيطالية الذي
انتشر في ستينيات القرن العشرين، وهو التيار الذي يستند منهجه إلى إعادة
بناء وتنظيم الوقائع، ليس فقط المرتبطة مباشرة بالحدث، بل التي قد تبدو
للوهلة الأولى غير ذات صلة مباشرة، إنما يمكن ربطها به والاستفادة منها في
عملية تحليل الحدث وصولا إلى استنتاج سياسي.
ويقدم الفيلم الأميركي ذو العنوان الدال "مدان بالشبهة" (1991) للمخرج
إيرفين وينكلر، نموذجا مهما للفيلم الذي يصور محاكمات ترتبط بقضية سياسية
بشكل مباشر. فهذا الفيلم يعود بنا إلى أميركا في خمسينيات القرن العشرين
التي شهدت تشكيل لجنة النشاطات المعادية لأميركا برئاسة السيناتور ماكارثي،
وهي اللجنة التي صبت جام غضبها بشكل خاص على عدد كبير من السينمائيين
الأميركيين، من كتاب السيناريو والمخرجين والممثلين بشكل خاص، ممن عدّتهم
اللجنة معادين لأميركا ويهددون أمنها بسبب انتمائهم للحزب الشيوعي الأميركي
أو التنظيمات اليسارية الماركسية.
يستمد فيلم "مدان بالشبهة" مادته من وقائع حقيقية يلخصها في حكاية مخرج
سينمائي كان ذات يوم، هو وزوجته، على علاقة مع تنظيم ماركسي، ثم تخلى عن أي
نشاط سياسي، غير أن هذا لا يعفيه من القمع الذي مورس على السينمائيين
اليساريين.
في نهاية الفيلم يصور المخرج جلسة المحاكمة التي وجد فيها هذا المخرج نفسه
في مواجهة أعضاء اللجنة. ولا تبدو جلسة المحاكمة في الفيلم ذات أهمية خاصة،
فهي تكرر، من حيث الشكل، جلسات محاكمة تضمنتها أفلام أخرى عالجت الوقائع
نفسها، أما ما هو مهم في هذه المحاكمة فهو أن المتهم يجد نفسه في مواجهة
أخطر، مواجهة مع ضميره ومع حريته الشخصية وكرامته، ففي حين أنه حضر الجلسة
بنيّة الاعتراف بنشاطه السياسي السابق، يرفض أن يكون واشيا بحق الآخرين
متحملا عواقب ذلك الموقف بكل خطورتها. هكذا تتحول المحاكمة من قضية قانونية
إلى قضية أخلاقية سياسية ترتبط بمفهوم المبدأ.
في تاريخ السينما العربية أيضا أفلام تضمنت محاكمات ذات دلالات عميقة، سواء
على المستوى الإنساني العام أو الاجتماعي أو السياسي، يمكن أن نميز بينها
حالات، اثنتان منها تنتميان إلى السينما المصرية، والثالثة، وهي الأحدث
والأهم، من إنتاج مغربي.
أول هذه الأفلام هو "أريد حلاًّ" للمخرج سعيد مرزوق المنتج في بداية
السبعينيات من القرن العشرين، والذي تتحول فيه جلسة المحاكمة الخاصة بطلب
زوجة الطلاق من زوجها، إلى محاكمة ليس فقط للاضطهاد الذي تتعرض له المرأة،
بل بشكل خاص للقانون المدني نفسه.
وفي فيلم المخرج يوسف شاهين "حدوثة مصرية" ، وهو بمثابة سيرة ذاتية للمخرج
نفسه، ثمة محاكمة رمزية خيالية يلعب دور المدعي فيها طفل يجسد صورة الطفل
الموجود في داخل الفنان، أما المدعى عليه فهو الفنان الذي تضعه المحاكمة في
مواجهة ذاته وتاريخه ومجتمعه، فيدافع عن نفسه ملقيا اللوم على آليات القمع
المختلفة ومن الأوساط المختلفة, التي يتعرض لها الإنسان منذ طفولته فتمنعه
من تحقيق ذاته، كمبدع.
أما الفيلم الثالث فهو "درب مولاي الشريف" من إنتاج العام 2004 بتوقيع
المخرج حسن بن جلون، وهو مقتبس عن رواية "الغرفة السوداء" للكاتب المغربي
جواد مديدش التي يسرد فيها وقائع حقيقة عن تجربة والسجن والتعذيب والمحاكمة
لأسباب سياسية في المغرب المعاصر.
يتشابه فيلم "درب مولاي الشريف" مع الفيلم الأميركي "مدان بالشبهة" من حيث
الخط العام لحكاية بطله المدعو كمال والموظف في المطار، الذي سبق له أن كان
عضوا في منظمة ماركسية أيام كان طالبا، ثم تخلى طوعا عن النشاط السياسي،
لكنه يجد نفسه مطالبا بعد سنوات بأن يكون واشيا ضد رفاقه القدامى، فيمنعه
ضميره وكرامته من ذلك الفعل، ويتحمل نتيجة ذلك كل أصناف التعذيب الجسدي
والنفسي ثم السجن ثمانية عشر عاما.
تجري واقعة المحاكمة قبيل نهاية الفيلم، ولا يستغرق المخرج في عرض
تفاصيلها، بل يُبرز بشكل خاص شجاعة المتهم ورفاقه المدركين لمصير المحاكمة،
وكذلك موقف محامي الدفاع الذي بادر مع بداية الجلسة بالإعلان عن انسحابه من
القضية لقناعته بأن هيئة المحكمة غير نزيهة وقرارها محكوم سلفا بإرادة رجال
المباحث. هكذا تتخذ المحاكمة بعدا أشمل وتتحول إلى محاكمة للنظام
ولممارساته القمعية.
الرأي الأردنية في
28/05/2010 |