يبدو أن سمة (غزارة الإنتاج) التي كان يأخذها بعضهم على ممدوح
عدوان في حياته، ستلاحقه حتى بعد رحيله أيضاً ... فبعد أن
تابعنا له العام الماضي
مسلسلا كان قد كتبه قبل سنوات من رحيله بعنوان (الدوامة) ونشرت أخبارٌ عن
مسلسل آخر
قادم له كتب له السيناريو والحوار عن روايته (أعدائي) تصدر دار ممدوح عدوان
للنشر
والتوزيع كتاباً جديداً له بعد أكثر من خمس سنوات على رحيله.
الكتاب بعنوان: (المتنبي في ضوء الدراما: دراسة واجتهادات)
وهو حصيلة الدراسات الطويلة والمعمقة
التي قام بها ممدوح عدوان على شعر المتنبي وحياته إبان العمل
على مشروع مسلسل (المتنبي)
الذي قام عدوان بكتابته أواخر التسعينيات، وأنتجه تلفزيون أبو ظبي عام
2002.
مسلسل تحول إلى مأساة!
لم يظهر مسلسل (المتنبي) بقدر
الاجتهاد والحماس اللذين عمل فيهما ممدوح عدوان على مشروع رواية سيرة شاعر
العربية
الأكبر الذي شغل الناس بشعره كما شغلهم بسيرته وحياته وطموحه
وتقلباته السياسية
ونهايته التراجيدية الغامضة في زمن عاصف مضطرب كان المتنبي شاهداً عليه،
وعنواناً
من عناوينه.
فالمسلسل الذي تولى الفنان سلوم حداد مهمة المنتج المنفذ له لصالح
تلفزيون (أبو ظبي) تعاقب على إخراجه سبعة مخرجين في ظروف عمل
غير صحية على
الإطلاق... إلى أن انتهى إلى المخرج الأردني فيصل الزعبي، الذي يذكر بعض
شهود
العيان، أنه جيء به إلى موقع التصوير دون أن تكون لديه فرصة لقراءة نص
المسلسل
كاملا قبل الشروع بتصويره... أما الفنان سلوم حداد، فقد ظهر في
المسلسل وهو يجسد
المتنبي وعينه على ميزانية المسلسل ومشاكله الإنتاجية... ولم يكن لديه
الوقت الكافي
لقراءة شعر المتنبي العظيم جيداً، فجاء إلقاؤه للشعر حافلا بالأخطاء
اللغوية
الفاضحة، ناهيك عن تواضع المقترح التمثيلي الذي قدمه لتجسيد
الشخصية!
وعدا عن
الحذوفات الكبيرة التي تعرض لها النص في ظل هذه الفوضى الإنتاجية التي لم
تحترم
عظمة الموضوع وجهد الكاتب... فقد شكلت هذه الصورة البائسة التي
ظهر بها المسلسل
صدمة قاسية لكاتبه ممدوح عدوان. كانت الصدمة نابعة من الجهد الكبير المبذول
في
كتابة العمل، والبحث في تفاصيل سيرة بطله، ومحاولة تقديم رؤية أدبية جديدة
في
الاقتراب من شعره وتفسيره، انطلاقاً من فهم جديد لشخصية
المتنبي... وقد أرسل الكاتب
ممدوح عدوان رسالة إلى إدارة تلفزيون أبو ظبي، يشرح فيها اعتراضاته الكبيرة
على
الصورة التي ظهر بها العمل، وألمه من العبث بنصه... (كنا نتمنى لو نشرت في
الكتاب)
الأمر الذي دفع بتلفزيون أبو ظبي إلى عدم تسويق العمل أو إعادة عرضه مرة
أخرى، حتى
تاريخ كتابة هذه السطور!
وإذا فهمنا خلفية ما جرى لنص مسلسل (المتنبي) يمكن أن
ندرك لماذا ذهب ممدوح عدوان إلى وضع هذا الكتاب عن المتنبي... لقد أراد
بشكل أو
بآخر، أن يقدم وجهة نظر يبدو أنها ضاعت وطمست في ثنايا النص الدرامي...
وربما أراد
في الوقت نفسه أن يقدم للقارئ الحصيلة النظرية لعمله على إعداد
نص درامي عن سيرة
شاعر كبير كالمتنبي، تعكس خصوصية بحثه، وجدية عمله الدؤوب في التعامل مع
الدراما
التلفزيونية كمشروع ثقافي يستحق أن يشغل بعناية وبإحساس بالمسؤولية
الثقافية تجاه
الموضوع أولا... وتجاه المشاهد تالياً.
صورة مختلفة عن السائد!
يتساءل
ممدوح عدوان في مقدمة الكتاب: (هل ظل من الممكن إضافة شيء حول المتنبي،
مالئ الدنيا
وشاغل الناس، طيلة هذه القرون التي امتدت من ولادته حتى الآن؟ وهل ظل جانب
منه لم
يدرس ويُمّحص ويقلّب على أكثر من وجه، ولم يخضع للنقاش والأخذ
والرد بين محبي هذا
الشاعر العظيم وبين منتقديه وكارهيه؟)
ويوضح ممدوح عدوان السبب الذي دفعه
لمحاولة إضافة جديدة في الكتابة عن المتنبي فيقول: (أكتب عن المتنبي بعد أن
اشتغلت
عامين كاملين في قراءته وتحليل شعره ودراسة تفاصيل حياته من أجل كتابة
مسلسل
تلفزيوني عنه، والكتابة الدرامية تفرض على صاحبها أن يتغلغل ما
استطاع في نفوس
أبطاله لكي يفهمهم وأن يتخيلهم في الحالات التي يمكن أن يكون فيها البشر،
وأن يرسم
ردود فعل البشر، وذلك كله ضمن إطار المعلومة التاريخية الموثقة. وقد حاولت
إخضاع
المتنبي وتفاصيل حياته المتعارف عليها والمبثوثة في الكتب
للشرط الدرامي، وأوصلني
هذا إلى بعض النقاط المتعلقة به وبحياته وطباعه وشخصيته الإجمالية، وطريقة
كتابته
للقصيدة، وعلاقته برجال عصره وظروف عصره، أرى من الضروري أن أطرحها للقراء).
ويسارع ممدوح عدوان منذ مقدمة الكتاب إلى تقديم استنتاج مثير للجدل حول
المتنبي: (إن صورة المتنبي في أذهان محبيه ومبغضيه مختلفة
كثيراً عن صورته الحقيقية
التي يخرج بها الدارس أو المحلل أو المتمعن) ولعل أول ما ينقضه من ركائز في
تلك
الصورة المتخيلة ما يتعلق بشكل المتنبي... فأول ما اصطدموا به أثناء السعي
لتصوير
المسلسل التلفزيوني كان حول شكل المتنبي.
يعتبر ممدوح عدوان أن صفة النحول
الشديد التي ألصقت بالمتنبي استنادا إلى بيت الشعر الذي يقول فيه: (كفى
بجسمي
نحولاً أنني رجلٌ، لولا مخاطبتي إياك لم ترني) هي جزء من الصورة النمطية
التقليدية
التي يرى بها الناس الشاعر، وهو يرى أننا يجب ألا نأخذ بيت
الشعر هذا على محمل
الجد، لأنه شبيه بمبالغات الصوفيين... ويقول بالمقابل:
(صادفت
وصفاً وحيداً لشكل
المتنبي وكان كما يلي: كان رجلاً مليء العين، قوياً بديناً خليقاً شخيصاً
عادي
الخلق، قوي الأساطين، وثيق الأركان، جيد الفصوص فيه جفاء وخشونة)
مشكلة ممدوح
عدوان هنا، أنه لا يذكر المرجع للقارئ، ولا يوضح لنا من هو صاحب هذا الوصف
المغاير
الذي ينقض كل ما عرف عنه... هل هو شخص معاصر للمتنبي؟ قريب
منه؟ ملتصق به؟ أعتقد أن
ذكر المرجع في ثنايا النص مسألة ضرورية لأنها يمكن أن تشرك القارئ في الحكم
على
مصداقية صاحب هذا الوصف، وبالتالي مدى الاقتناع به واعتماده!
الشرط الدرامي...
ومعركة الموهبة!
هذه المشكلة تواجه قارئ الكتاب في غير موضع، لكن تبقى أهمية
هذا الكتاب في الجوانب التي أضاءها ممدوح عدوان في دراسة شخصية المتنبي،
انطلاقاَ
من (الشرط الدرامي) وفي الواقع فإن التركيز على فهم الشرط الدرامي يكشف
أهمية عمل
ممدوح عدوان في كتابة الدراما... فالشرط الدرامي هو البوصلة
التي يهتدي بها النص
الدرامي، وخصوصاً في مجال دراما السيرة الذاتية... فلا معنى لعمل درامي عن
شخصية لا
يقترح أو يحدد لنا ما هو شرطها الدرامي الذي حكم مسار حياتها أو تحكم
بتحولاتها،
وهاهنا يعتبر ممدوح عدوان أن معركة المتنبي الأبرز في حياته هي
(معركة الموهبة)
يقول:
(الموهبة
هي السبب اللازم والكافي لتوليد الأعداء والحاسدين والمبغضين،
بمقدار ما تولد من المحبين والمعجبين... وسبب العداء هو عادية
الآخرين التي لا تريد
الاعتراف بشيء غير عادي، وهؤلاء يكونون أعداء المواهب والنجاح دائماً.
وظهور
الموهبة يكشف عاديتهم فيسعون إلى طمسها أو التشويش عليها، أو السخرية منها،
أو
التشكيك بها وبمصادرها).
ويضيف في موضع آخر: (بعد أن تثبت الموهبة نفسها، وبعد
أن يصبح وجودها مسلماً به، تبدأ المعركة الحقيقة حول الموهبة للاستفادة
منها، فهناك
من يريد استثمارها وتوظيفها لصالحه الشخصي، أو لصالح اتجاه ما يكون على
الأغلب من
الاتجاهات السائدة في السياسة أو الإبداع باعتبار أن الموهبة الجديدة رهان
آخر على
صحة الاتجاه أو دعم له... وهذا كله حدث للمتنبي).
ويوضح ممدوح عدوان كيف كانت
موهبة المتنبي الاستثنائية سر كل معارك حياته، وسر كل المعارك التي أثيرت
حوله بعد
وفاته وعلى مر العصور فيقول في تحليل يحمل الكثير من الأفكار التأملية
الهامة:
(بمقدار
ما كان للمتنبي من متحمسين له نجحوا في إعادة اكتشاف قيمته عبر
العصور، كان له من الخصوم منذ أيامه حتى يومنا هذا، والذين لم
يتركوا عيباً إلا
ألصقوه به، فمن قائل بسرقته أشعاره من غيره، إلى المشهرّين بكونه ابن
سقّاء، إلى
المتحدثين عن بخله أو جبنه، إلى من يحاكمونه وفق معايير هذا العصر ليروا
فيه مداحاً
للملوك، انتهازياً متملقاً متسولا على أعتابهم. ولكن شخصية المتنبي تظل
إشكالية في
مجالات أخرى غير مجالات الموهبة وإن كنت أرى أنها متفرعة عنها، فهناك
التعصب له إلى
درجة الرغبة في كسب نسبه وأصوله إلى هذا الطرف أو ذاك، أو
تقريب موهبته من الوحي
الغيبي، وكل من الطرفين ينطلق من الشعور بأن هذا الرجل لم يكن عادياً).
عصر
المتنبي ورواية مقتله!
وانطلاقا من تميز واستثنائية المتنبي، يمكن أن نفهم
تحولاته وتقلبه بين مدح الحكام، أو سعيه لنيل الإمارة، في عصره السياسي
المضطرب
الذي عاشه (النصف الأول من القرن الرابع الهجري) والذي مرت الخلافة
العباسية فيه
بأسوأ مراحلها، فكانت الولايات التابعة لبغداد تتمتع باستقلال
شبه تام، ولا يربط
الولاة بالعاصمة إلا المال الذي يدفعونه للخليفة... وفي قراءة علاقة
المتنبي بعصره،
يقول ممدوح عدوان:
(نتوقع
أن شخصاً طموحاً مثل المتنبي، يعيش في زمان كهذا،
سيحاول أن يظفر هو الآخر بولاية أو أن يستقل بإمارة. كما أنه
حين يظهر شخص بشاعرية
وصيت داوٍ مثل المتنبي، ولا يستقر عند واحد من هؤلاء الولاة أو الحكام،
نتوقع أن
كلاً منهم يريد الاستئثار به، أو نيل مدحه على الأقل، فيكافئه من يظفر
بالمديح، ثم
يحاول إغراءه بالبقاء، وحين لا يرضى يحاول فرض الحصار وما يشبه الإقامة
الجبرية
عليه، كما أنه سيحقد عليه ويطارده إذا لم يظفر بشيء من مدحه).
يتناول ممدوح
عدوان إلى جانب المفاصل الأساسية في شخصية وعصر المتنبي، عناوين أخرى مثيرة
في حياة
المتنبي... منها: (هل كان المتنبي شيعياً؟) وحقيقة ادعائه
(النبوة) ويفرد حيزاً
هاماً وجديداً كي يجلو (كيف كانت تولد القصيدة عند المتنبي) وصولاً إلى
المسائل
الأساسية الأخرى التي يتم التطرق إليها عادة لدى الحديث عن هذا الشاعر
الإشكالي
الغامض النهاية، وأبرزها (هل كان سارقاً للشعر) و(كيف قتل
المتنبي)
ولعل أكثر
الاستنتاجات التاريخية التي قام بها ممدوح عدوان في هذا الكتاب براعة، هي
تلك
المتعلقة برواية مقتله... فهاهنا يورد المراجع التي روت رواية
مقتله على يد فاتك
الأسدي ويفند ما جاء فيها... فهو يسقط صاحب (بغية الطلب في تاريخ حلب) التي
تقول
إنه قتل هو وابنه وسلب ماله، بسبب قصيدة هجا فيها ضبة بن يزيد العتبي، ابن
أخت قاطع
الطريق فاتك الأسدي... الذي ثار للتعريض بأخته في القصيدة
فقتله.
ويرى ممدوح
عدوان هنا، أن القصيدة المنسوبة للمتنبي في هجاء (ضبة) بعيدة كل البعد عن
جوهر شعر
المتنبي... الذي لم يحدث، حتى بين الأشعار التي اعتبرت من
سقطاته، أن وجدنا شبيهاً
أو مثيلاً لها... إذ لم يذكر أعضاء تناسلية ولا فعلا جنسياً مما تعج به
قصيدة هجاء
ضبة... وبالتالي فالقصيدة المنحولة عليه، هي أقرب في سويتها وبذاءتها إلى
الشعر
الذي هجاه به خصومه، الذين أرادوا أن ينقلوا المعركة معه إلى ميادين أخرى،
فاستعدوا
عليه قاطع طريق كي يقتله دون أن يحملوا وزر قتله... وهي فكرة يصوغها ممدوح
عدوان في
مشهد درامي بديع في المسلسل الذي كتبه عن المتنبي، يورد نصه في
الكتاب!
إن كتاب
ممدوح عدوان عن (المتنبي في ضوء الدراما)، ينقل لنا وجهة نظر جديدة، تحمل
قدراً من
التخيل الدرامي... ومن الرغبة بحماية البطل الدرامي مما يضعف
حضوره على رقعة
الدراما... لكنها تبقى في الوقت ذاته مشفوعة بمرجعيات تاريخية وأدبية موثقة...
وأعتقد أن الكتاب يقدم أفكاراً هامة وتستحق
التأمل عن المتنبي وشعره وحياته، بمقدار
ما يقدم لنا صورة عن الطريقة التي اشتغل بها ممدوح عدوان على
مشروع المسلسل،
والطموح الكبير الذي كان يحكم آفاق كتابته، والذي كان يرمي إلى إعادة تشكيل
صورة
شاعر العربية الأكبر الدرامية تشكيلا جديداً، يتحدى المرجعيات النمطية
السائدة
ويدعو المشاهد لإعادة النظر بها... ولئن لم يتحقق شيئاً من هذا
في الآلية التجارية
المستهترة التي نفذ بها العمل تلفزيونياً، فإن الكتاب يأتي كي يرصد تفاصيل
الحلم
المجهض على الورق الذي كان!
mansoursham@hotmail.com
القدس العربي في
03/05/2010 |