انطلق مهرجان هونولولو (المعروف أيضاً بمهرجان هاواي) السينمائي الدولي أمس
الأول ويستمر حتى الثاني والعشرين الجاري وذلك في دورة جديدة لا خلاف في
أنها لا تحمل جديداً بالنسبة لهذا المهرجان، باستثناء الأفلام المشاركة
بالطبع .
منذ أن أقيم للمرة الأولى قبل ثلاثين سنة، سعى هذا المهرجان الآسيوي لأن
يحتل مكانة متوسّطة بين المهرجانات الدولية تكفي لحث الهواة المحليين على
الإحاطة بأفضل ما أنتج من أفلام ولو عُرضت في مهرجانات أخرى سابقة . بتلك
القناعة، وباختياره موعداً ربيعياً ملائماً، نجح في الاستمرار من دون تحميل
نفسه عبء الطموحات الكبيرة والمنافسات الشديدة خصوصاً وأنه لا يستطيع أن
يبز بعض المهرجانات الآسيوية القريبة، مثل طوكيو الياباني وبوسان الكوري
والمهرجانات الأخرى في تايوان وسنغافورة والصين، حجماً وهي التي لديها
ميزانيات أكبر من ميزانيّته المحدودة .
على الرغم من ذلك، يفي المهرجان بالمطلوب منه وأكثر . الإقبال عليه ثابت
والأفلام المعروضة فيه ترسم بانوراما عريضة من الإنتاجات السينمائية حول
العالم . لا أحداث جساماً ولا سوق يركض في مناكبه الموزعون ولا تلك الهالة
التي تحيط بالمهرجانات الكبيرة قبله او بعده .
المتابع لمسيرة المهرجان، خصوصاً في السنوات الأخيرة، يلحظ أن النجاح كان
أيضاً حليف سياسة قائمة على الموازنة بين ما هو عالمي وبين ما ينتمي الى
الأسواق الآسيوية القريبة . هذا العام، على سبيل المثال يوجد خمسة عشر
فيلماً من دول المنطقة مع غالبية ملحوظة للسينما اليابانية، في حين توزّع
الباقي بين دول أوروبية (فرنسا، المانيا، السويد، ايطاليا) وأخرى من دول
شرق أوسطية لجانب أفلام من الهند وكندا والولايات المتحدة .
قبل الافتتاح بعشرة أيام انضم آخر فيلم الى لائحة الأفلام المشتركة في هذه
الدورة وهو لمخرج تايواني جديد اسمه أرفن تشن عنوانه “وداعاً تايبي” .
اختار تشن أن يسرد فيه حكاية شاب يسعى للحاق بصديقته التي يحب والتي انتقلت
الى باريس لتستلم عملاً هناك . على بطل الفيلم أن يشتغل ساعات إضافية في
مطعم والديه، وأن يمضي الليالي في المكتبة ليدرس اللغة الفرنسية . في إحدى
تلك الليالي، يتعرّف إلى فتاة أخرى هادئة ومسالمة وجميلة ما يوقعه في حيرة
من أمره: هل يستمر في مسعاه اللحاق بالفتاة الأولى، او يصرف النظر ويبقى مع
الفتاة الجديدة؟
رحلة الى الشاطئ
هناك فيلم إيراني للمخرج أشقر فرهادي وعنوانه “حول إيلي” وإيلي هي فتاة
ايرانية عاملة تشترك وثلاث عائلات في رحلة استجمام الى أحد الشواطئ حيث
تتعرّض لحادثة غرق بينما كانت تنقذ أحد الأطفال . الآن الوضع محرج للجميع
لأنهم لا يعرفون عنها شيئاً ما سيجلب عليهم مشاكل جمّة حين إبلاغ البوليس
بالحادثة .
أحد أفضل الأفلام المعروضة هو البوليسي السويدي “الفتاة ذات الوشم التنيني”
لنيلز أردن أوبييف المأخوذ عن رواية جيّدة للكاتب الراحل سنة 2004 ستيج
لارسن عن فتاة اختفت قبل أربعين سنة من دون أثر لكن قضيّتها لا تزال مفتوحة
في حساب المحقق ورفيقه الباحث وكلّما أمعنا فيها تقصّياً كلما اكتشفا بقعاً
سوداء في حياة الشخصيات التي أحاطت بها .
واليوم، الأحد، هو موعد عرض واحد من الأفلام اليابانية المنتمية الى نوع “الأنيمَ”،
وهو نوع مشتق من “الأنيماشن” تمارسه مخيّلات وإبداعات الفنانين اليابانيين
بأسلوب يختلف عن المتوّفر والمتداول في “هوليوود” وحول العالم . ومن بين
الأفلام اليابانية الأخرى “طبّاخ القطب الجنوبي” لشويشي أوكيتا الذي يجمع
بين المغامرة والفكرة الفريدة في بيئة باردة خلال رحلة يقوم بها ثمانية
أشخاص بينهم طبّاخ عليه يدرك أن بقاء الجميع على قيد الحياة هي مسؤوليّته
وحده .
ميتشوم ممثل بين “ثقوب” الشاشة
في واحدة من المقابلات الصحافية القليلة التي أجراها الممثل روبرت ميتشوم
في حياته المهنية التي انتهت بوفاته قبل ثلاث عشرة سنة، اعتقد الصحافي الذي
جلس إليه بأنه سيطرح ما قد يفتح المجال أمام حديث عميق حول تجربته التي
بدأت في مطلع أربعينات القرن الماضي فسأله: من كم نوع يتألف أسلوبك في
التمثيل؟ نظر اليه الممثل بعينيه الناعستين وأجاب: “هناك نوعان من التمثيل،
نوع مع حصان ونوع من دونه” .
لعل ميتشوم لم يكن سعيداً بالمقابلة فأراد اختصارها، او لعلّه لا يحب
الحديث في مواضيع تتطلّب مواقف ثقافية، المهم هو أنه وضع اصبعه على النوعين
الأكثر تكراراً في حياته المهنية ممثلاً والتي شهدت 110 أفلام او نحوها
نصفها تقريباً من نوع الوسترن ركب فيها الحصان عوض ركوب السيارة . لكن
ميتشوم في النوعين، بالحصان ومن دونه، حمل ثلاث مواصفات: شخصية ساخرة من
نفسها والعالم، صورة رجل يحمل على كاهله أكثر مما يجب، وقبّعة مسدلة ترتاح
على رأسه كما لو أنها وُلدت معه .
روبرت ميتشوم، الذي يستعد معهد الفيلم البريطاني لتقديم مجموعة من أفلامه
في تظاهرة مهمّة قبل نهاية هذا العام، ولد في السادس من أغسطس/ آب سنة 1917
وحياته الأولى شبيهة بسيناريو من أفلام “هوليوود” القديمة حول أولئك
الأولاد الذين يترعرون على هامش المدينة وينزلقون الى قعرها متعرّضين لكل
المشاكل الاجتماعية والبيئية ولمخاطر الجريمة قبل بلوغهم سن الشباب . ترك
بيت والديه والمدرسة حين كان لا يزال في الرابعة عشرة وألقي القبض عليه بعد
سنتين بتهمة التشرّد وذلك في طريقه من مكان ولادته (بلدة بردجبورت، ولاية
كونيكتيكَت) الى ولاية كاليفورنيا . حين وصوله الى هناك عمل في منجم للفحم
وحارساً في ملهى ليلي في مطلع الأربعينات . وفي 1943 بدأ الظهور في السينما
في أدوار صغيرة الى جانب النجم المحبوب هوبالانج كاسيدي . لم يقل لا لدور
وأنجز في ذلك العام 18 دوراً في أفلام من بينها فيلم من بطولة الكوميديين
لورل وهاري بعنوان “أسياد الرقص” .
الناظر الى تلك الأفلام الأولى، وتلك التي مثّلها حتى منتصف ذلك العقد، يجد
أمامه ممثلاً لا يطلب الكثير . يعكس حضوره طموحاً في معظم الحالات، لكنه لا
مجال لكي يفرض ذلك الطموح .
كان بالإمكان، كمئات سواه أن يبقى في عداد الممثلين الثانويين، او أن يقلع
عن التمثيل عموماً بعد ثلاثة أعوام من العمل في تلك الأدوار، لكن ميتشوم
وحده كان يعلم أنه يستطيع بلورة شخصيّته الخاصّة إذا ما استمر، واستمر
فعلاً . في 1944 شارك آل جونسون وروبرت ووكر في الفيلم الحربي “ثلاثون
ثانية فوق طوكيو” ومنه انتقل الى دور رئيسي كان الأول له في فيلم حربي آخر
بعنوان “قصّة جي . آي جو” . عن دوره هنا رشح للأوسكار، وهي المرة الوحيدة
التي رشح فيها لهذه الجائزة رغم أنه في سنة 1970 ظهر في أكثر من فيلم رئيسي
ومهم من بينها فيلم ديفيد لين “ابنة رايان” .
قبل ذلك تسلّق السلّم سريعاً حالما وضع قدميه على عتباته الصحيحة . ظهر في
عشرات من أفلام “الوسترن” وفي عشرات أخرى من الأفلام البوليسية، والثانية
كشفت عن تلك الشخصية المتمرّدة والمنتحرة ببطء . أحد أفضل أفلامه تلك “من
الماضي” أمام مايكل دوجلاس وجين جرير وروندا فلمنج ومن إخراج جاك تورنور .
فيه يقرر ميتشوم العودة الى ماض أخفاه عن الجميع حتى وإن عني ذلك موته
دفاعاً عما يراه صحيحاً .
هذه الصورة صحبته وعكست نضجاً متزايدا في ثلاثة من الأفلام البوليسية
الرائعة أقدم عليها بدءاً من 1972: “أصدقاء إيدي كويل” لبيتر ياتس
و”ياكوزا” لسيدني بولاك و”وداعاً يا حبّي” لرتشارد ريتشاردس .
في حديثه عنه، وصفه ديفيد لين بهذه الكلمات: “الممثلون الآخرون يمثّلون .
أما روبرت ميتشوم فهو الشيء المطلوب . بحضوره يجعل كل ممثل آخر تقريباً
يبدو كما لو كان ثقباً على الشاشة” .
علامات
المواطن كين
يختلف النقاد فيما بينهم على أشياء كثيرة، لكن معظم من كتب ويكتب النقد
وعلى اطلاع يمكّنه من الحكم يتّفق على أن فيلم أورسن وَلز “المواطن كين” من
بين أفضل خمسة أفلام في التاريخ .
حقق وَلز الفيلم أول أفلامه هذا سنة 1941 وأنجز بعده ثلاثين فيلماً قصيراً
وطويلاً، لكنه لم يستطع تكرار الخامة والبناء الفني الذي أنجزه في ذلك
الفيلم . ولم يتمكّن من إيجاد الموضوع الذي يستنبط له أسلوباً يجمع بين
عدّة أنواع سينمائية من دون تعارض او تناقض كما فعل في هذا الفيلم، هذا على
الرغم من أن وَلز دائماً ما حرص على تحرير نفسه من قيود السرد التقليدية،
لكن شيئاً مما حققه من أفلام لم يصل الى مستوى “المواطن كين” .
هنا تشارلز كَين (وَلز نفسه) يموت في مطلع الفيلم . تتدحرج كرة زجاجية من
بين أصابعه على درجات السلم في منزله الكبير
Rosebud
وينطق بكلمة واحدة هي “برعم الوردة” .
وحدها هذه الكلمة كانت سبباً في عشرات، إن لم يكن مئات، التفسيرات في
المقالات والمناقشات المفتوحة . ما الذي قصده المخرج من الكلمة؟ ولماذا هي
بالذات؟ وما دلالاتها بالمقارنة مع الحكاية؟ حين موت الناشر الذي يمثله ولز
يقوم منتج لوثائقيات اخبارية (قبل اختراع التلفزيون كانت تلك الوثائقيات
السبيل المصوّر الوحيد لمعرفة ما يدور حول العالم ولو بعد فترة على وقوعه)
بانتداب الصحافي تومسون (جوزف كوتون) للبحث في ظروف وفاته ودلالات الشخصية
. وهذا ما ينقل الفيلم في سلسلة من “الفلاش باك” الى حياة الشخصية المعنية
لنطّلع على حياة رجل لم يؤمن بالمستحيل . كوّن نفسه بنفسه وهدم نفسه بنفسه
أيضاً . بحث الصحافي ينقله مستمعاً لشهود عيان وكل منهم يروي جانباً
مختلفاً وجديداً من صور الشخصية التي يبحث في حياتها .
كان وَلز في الرابعة والعشرين من عمره فقط حين أخرج هذا الفيلم (ولعب شخصية
رجل في ضعف ذلك العمر) ونسبة لنجاحاته الإذاعية والمسرحية استحصل على حربة
كبيرة من قبل الشركة المموّلة “آر كي أو” لم يتمتّع بها آنذاك سواه .
وحسناً فعل . الى اليوم، لا يمكن لأحد أن يتدخّل في هذا الإنتاج الفني بهدف
إعادة تصويره او تحقيقه او تحويله الى أي كيان آخر (كتلوينه او معالجته
بالأبعاد الثلاثة مثلاً)، لكن بعد سقوط الفيلم تجارياً، خسر وَلز هذا
الغطاء ولم يستطع التمتّع بمثل هذه الحريّة فيما بعد
كل الحسنات التي يأملها فيلم ما موجودة هنا وفي مقدّمتها تصوير جرج تولاند
بالأبيض والأسود . اللقطات المتشابكة عضوياً مع المضمون والمركّبة بأبعاد
فنيّة لم تكن متداولة، ولم يتم تداولها على هذا النحو لاحقاً الا قليلاً،
صاغ أساساً فنيّاً ثابتاً لهذه التحفة السينمائية . أفلام وَلز اللاحقة
تمتّعت بمحاولات جسورة أخرى، لكن أياً منها لم يبلغ شأن ومستوى هذا الفيلم
.
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
21/01/2010 |