دور السينما ربما لا يزال واحداً حيال الأحداث وهو تناولها حين او بعد
وقوعها ثم
تداولها على نحو يعكس الرأي المستقل للمؤلّف. او الرأي العام
الغالب حيال ذلك
الحدث. هذا ما فعلته السينما تجاه كل الحروب التاريخية التي اندلعت بعد
اختراع
السينما من الحرب العالمية الأولى الى الثانية الى الحرب الكورية والحرب
الفيييتنامية وصولاً الى الحرب العراقية، وبين كل حرب من تلك
المذكورة وأخرى هناك
حروباً صغيرة تناولتها السينما ايضاً بحيث غطّت كل هذه الأحداث تبعاً للدور
المناط
بها. ولأن السينما تستطيع الإنتقال الى أي زمن حتى ولو كان قبل زمن
اختراعها فقد
صوّرت كذلك حروباً ومعارك تاريخية أبعد مثل حملة نابليون الروسية وحملته
المصرية
ومثل الحرب البريطانية- الأسبانية والحرب الأهلية الأميركية وسواها0
لكن السينما
العربية التي شاركت، بمقدار، في لعب ذلك الدور خلال السنوات العديدة
السابقة من
حياتها، لم تتحرّك ساكناً حيال الحروب التي تخوضها ضد العدو
الصهيوني في فلسطين او
في لبنان او في أي بقعة أخرى، كذلك لم تكترث لتقديم أفلام عن الحرب
الأميركية في
العراق. وبإستثناء أفلام لبنانية محدودة التوزيع والأثر ليس هناك أفلام
تتمحور حول
الإعتداءات الإسرائيلية على لبنان منذ الحرب الأهلية والى
اليوم0
ثلاثة أفلام من
صنع اسرائيلي حول الحرب اللبنانية التي خاضتها سنة 1982 لكن لا جهداً
عربياً لإنتاج
فيلم واحد عنها ولو من باب التأريخ لها ووضع المسائل في نصابها
الصحيح كون الطرف
الآخر اشتهر عنه كذبه حتى حين يتظاهر بأنه ايجابي او تقدمي النظرة. فيلم
"لبنان"
مثلاً (آخر تلك الأفلام الثلاثة من بعد "قلعة روشفورد" و"الرقص مع بشير")
قدّم نفسه
كفيلم معاد للحرب، لكنه في الواقع معاد للحرب التي يخوضها الآخرون ضدّه او
ضد بعضهم
البعض، فقط0
ثلاثة أسباب وراء هذا التغييب: الأول: التلفزيون الذي ينقل بصورة
دائمة ما يحدث وقتما يحدث فيميط اللثام عن المسببات التي من
أجلها سيقدم كثير من
الناس على مشاهدة فيلم عن تلك الحرب. الثاني، الإنحدار العام للإنتاج
السينمائي
وعدم وجود جهات تؤمن بأكثر من المواضيع الخفيفة الرخيصة السائدة. والثالث
هو الجو
الضبابي (في أفضل الأحوال) للسياسة العربية المنعكس على
اختيارات المثقّفين
والفنانين وحريّة التعبير المتاحة لهم0
ربما من المفيد إلقاء نظرة على وضع كانت
فيه السينما تحتل المقدّمة في سبيل لعب دور المرشد الإجتماعي والوطني في
مثل هذه
المسائل وما نتج عن هذا الدور من فوائد جمّة
فيلم غير شكل لبيتر جاكسون
في العام 2002 نشرت الروائية
الأميركية أليس سيبولد كتابها "العظام المحببة" حول روح فتاة في الرابعة
عشر من
عمرها، كانت تعرّضت الى جريمة مزدوجة إذ تم اغتصابها ثم قتلها وتقطيع
جثّتها. إنها
تتحدّث إلينا، في تلك الرواية، لتخبرنا كيف تشعر وكيف ترصد أثر
الحادثة على أفراد
العائلة، من دون أن يفوتها تتبّع الفاعل الذي كان بقي مجهولاً حتى اللحظة
إنها
قصّة عاطفية من ناحية ولغزية تشويقية من ناحية أخرى والجانبان صعب تفرقتهما
في تلك
الرواية. لكن ما أثار الإعجاب بين نقاد الأدب الأميركيين كون
الرواية ومفاداتها
تتحدّث عن ضم الجراح والتغلّب على الألام التي تسببها كارثة. ولم يحتج
قرّاء
الرواية آنذاك الى خارطة مرسومة من قبل أن تتبدّى الدلالات واضحة، فنيويورك
قريبة،
رغم المسافة الجغرافية، من بلدة نوريستاون الصغيرة في
بنسلفانيا (حيث تدور
الرواية) وهي تعرّضت لمأساة رهيبة في الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر 2001
كانت لا
زالت ماثلة كثيفاً وعميقاً في كل الأذهان. من هنا، رواية سيبولد جاءت
مترابطة مع
تلك الأجواء ولو على شكل ميكروسكوبي بالمقارنة. لكن اللافت فيها أنها، وبين
السطور،
تدعو الى التسامح عوض الرد علي الفعل الآثم بالمثل0
سبع سنوات بعد نشر الكتاب، والفيلم المقتبس عنها بات على الشاشة تحت إدارة
المخرج بيتر جاكسون المرتبط أسمه دائماً بسلسلة "سيد الخواتم"
رغم أنه حقق قبلها
وبعدها عدّة أفلام أخرى، وسيبقى أسمه مرتبط بتلك المجموعة الفانتازية من
الأفلام
بعد مشاهدة هذا الفيلم لأنها عبّرت عن رؤية محدّدة على شاشة عريضة مليئة
بروح
الخيال والمغامرة على عكس "العظام المحببة " (والمقصود
بالعنوان هو أفراد العائلة
التي يقودها على الشاشة مارك وولبرغ وسوزان ساراندون) الذي
يحمل طاقة جمالية، لكنه
يتعثّر درامياً بسبب خيارات غير محسومة واهتمامه بتحليل شخصية بطلته
(الأيرلندية
سواريز رونان) علي حساب الشخصيات العديدة الأخرى التي بين يديه0
حين أخرج النيوزيلاندي بيتر جاكسون (بالتي شيرت والشورت ومن دون حذاء)
الجزء
الأول من ثلاثية "سيد الخواتم" سنة 2001 كان أنجز من العام
1987 ستة أفلام روائية
معظمها من الرعب. بعد السلسلة التي انتهت فصولها سنة 2003 كان
انتقل الى حيث يجد كل
مخرج ينجز فيلماً ضخماً ناجحاً نفسه: ماذا بعد. أغار سنة 2005 على رواية "كينغ
كونغ" التي كانت صوّرت مرّتين من قبل (1933 و1976) ثم أنتج "المقاطعة 9"
الخيال
العلمي الذي أخرجه شاب مجهول من جنوب أفريقيا أسمه نيل بلومكامب، فإذا
بالفيلم يحقق
نجاحاً طيّباً بين الجمهور والنقاد على حد سواء0
سباق الجوائز وسباق الجمهور
حط فيلم هاريسون فورد
الجديد الى عروض ما زالت محسوبة على "أ?اتار" ونجاحه الفائق نتج عنه للآن،
وبعد
ثمانية أسابيع من تولّي القمّة 600 مليون دولار أميركي إذا ما أضيفت الى
مجموع ما
حققه الفيلم ذاته عالمياً، فإن الحصيلة وصلت الى بليوني دولار.نتج عنه
أيضاً سقوط
العديد من الأفلام التي هبطت العروض بينما هو على قمّة تلك الإيرادات0
فيلم
هاريسون فورد، وعنوانه "مقاييس غير اعتيادية" لم يُنتظر منه إنجاز ما حققه "أ?اتار"
وفي الواقع انزوى سريعاً مسجّلاً إيراداً لم يتجاوز العشرين مليون دولار.
ولذلك أسبابه الأخرى. بكلمات أخرى، يمكن
لوم "أ?اتار" علي كل شيء لكن الحقيقة أن
بعض الأفلام لا يمكن أن تنجح جماهيرياً حتى ولو عرضت لوحدها من
دون
منافسة0
أولاً الفيلم هو أول إنتاج سينمائي خالص للمحطة التلفزيونية
الأميركية المعروفة
CBS
هذا وحده لا يعمل مع او ضد الفيلم، لكن إذا ما ربط
الجمهور بين إسم المحطّة ومنتوجها السينمائي هذا فمن الممكن أن يستنتج أن
الفيلم
إنما دراما تلفزيونية صغيرة بكل أجوائها وقصصها، بالتالي قد لا تستحق
المشاهدة على
الشاشة الكبيرة0
هذا رغم أن المحطّة تريد من الجمهور أن يعتبر العمل الجديد
فيلماً قائماً بذاته كأي إنتاج لشركة إنتاج أخرى مثل كولمبيا او دريمووركس
مثلاً.
والفيلم هو فعلاً كذلك. ليس "بايلوت"
لسلسلة مقبلة ولا هو إنتاج صغير معظمه مصوّر
في ستديوهات المحطّة0
ثانياً، هناك مشكلة أسمها ممثل فوق الخمسين في دور شخصية
فوق الخمسين0
هاريسون فورد يحمل 67 سنة فوق كتفيه (بادت بوضوح خلال ظهوره تحت
عدسات الكاميرا في حفلة الغولدن غلوبس الأخيرة) ويمثّل شخصية
الطبيب الذي عليه
معالجة طفلين مصابين بمرض نادر. ومع أنه محاط ببراندون فرايزر وكيري راسل
في دور
والدي الطفلين، الا أن أسمه هو الأشهر على أي حال. لكنه أشهر إذا ما استعاد
الجمهور
أدواره الأولى في سلسلة "إنديانا جونز" مثلاً. أما إذا ما فحص
إداءات الممثل خارج
تلك السلسلة في السنوات الأخيرة فإنه سيجد أن الجمهور آثر
الإبتعاد عن تلك الأعمال
منK-19:
The Widowmaker
إلى
Hollywood Homicide ومنFirewall
الى
Crossing Over
كلها حققت أقل مما كان يؤمل لها0
ثالثاً، وهذا ربما كان يجب أن
يكون أوّلاً، هو فيلم محدود القيمة، يتراوح بين الرديء والعادي. رديء حين
تفكّر
بالعشر دولارات التي دفعتها لدخوله، وعادي إذا ما نمت فيه لنصف ساعة
فاختصرت بذلك
من فترة عرضه. أمزح طبعاً، إنه يحمل رسالة إنسانية حول مرض
نادر ... ما يجعله
فيلماً مملاً فقط. لا أكثر.
الجزيرة الوثائقية في
04/02/2010 |