المشاهد لفيلم "ولاد العم" للمخرج "شريف عرفة" وكاتب السيناريو "عمرو سمير
عاطف" يجد نفسه إزاء عمل سينمائي مختلف، باعث ذلك أننا أمام فيلم لا يعتمد
على قصة واقعية؛ بمعنى أن الحكاية البوليسية ليست من أرشيف المخابرات
المصرية في صراعها مع المخابرات الإسرائيلية، كما اعتادت السينما المصرية
أن تقدم عبر تاريخها الطويل، إنما نحن أمام قصة مفترضة أو عمل درامي يقوم
على الفانتازيا.
وبالتالي على المشاهد منذ اللحظة الأولى أن يتابع مجريات "ولاد العم" بنوع
من التجرد، متخليا عن عملية المطابقة بين الواقع وأحداث الفيلم ذاته، أو
بين الأحداث وإمكانية وقوعها، وهو الأمر الذي قد يصعب على البعض، عندها
تتعقد عملية التلقي، فيما يتطوع غير مخرج وناقد وحتى مشاهد فصيح متسائلين:
لماذا يتقبل المشاهد العربي الأكشن الذي تقدمه الأفلام الأمريكية ويتعامل
معها على أنها حقائق ووقائع.. ولا يتقبل الأكشن الذي قد تقدمه الأفلام
العربية وتحديدا إذا ارتبط الأمر بالعدو الإسرائيلي؟
إنه سؤال مبرر، لكن لنؤجل الإجابة عنه قليلا.
المهمة المستحيلة
يحكي الفيلم قصة الضابط مصطفى (كريم عبد العزيز) الذي يكلف بالذهاب إلى تل
أبيب لملاحقة الجاسوس وضابط المخابرات في الموساد عزت دانيال (شريف منير)
الذي هرب برفقة طفليه وزوجته سلوى (منى زكي) بعد أن عاش في مصر لسنوات سبع
في مهمة استخباراتية.
تبدو مهمة مصطفى شبه مستحيلة، فهو سيذهب إلى تل أبيب وحده لينجز المهمة
الوطنية المتمثلة في معرفة الدور الذي قام به "عزت دانيال" في مصر (يكتشف
لاحقا أنه عمل على تجنيد عملاء لتنفيذ اغتيالات في صفوف مسئولين وضباط
مصريين)، إضافة إلى إعادة سلوى وطفليها الذين اكتشفوا أنهم أصبحوا في
إسرائيل مختطفين بلا حول ولا قوة.
تفيق "سلوى" من مفعول المخدر لتجد نفسها في مدينة غير مدينتها (بورسعيد)
ومن العلم الأزرق الذي تشاهده في الخارج يرفرف على إحدى البنايات تدرك حجم
المأزق الذي تقع فيه، فهذا زوجها الذي تحبه يكشف لها شخصيته وأنه ضابط
إسرائيلي/ صهيوني مخلص لدولته.. لتعيش صراعا نفسيا وحزنا وحيرة وضياعا لم
يأخذا حقهما في الفيلم، صحيح أنها حاولت الهرب وفشلت، لكنها في محطات معينة
تقبلت واقعها الجديد أمام محاولات حبيبها/ زوجها/ ضابط الموساد إقناعها
بالبقاء معه حتى من خلال حجج دينية وشرعية (إنه منطق رجال المخابرات الذين
يقيسون كل الأمور بمنطق وعقلانية مفرطة)، ومن هذا الباب نجده يبذل المستحيل
في سبيل إقناعها بالبقاء معه والعيش في كنف دولة إسرائيل الديمقراطية/
النظيفة/ الحضارية... إلخ.
ذروة الأحداث
لكن الضابط مصطفى، الذي يكون قد رتبت له المخابرات المصرية طريقا للوصول
إلى تل أبيب انطلاقا من الضفة الغربية وذلك بالاعتماد على إتقانه للغة
العبرية، يعمل على ترتيب العكس، يعمل في صيدلية ستقصدها "سلوى" ذات مرة
لشراء دواء لطفلها عارضا عليها أمر عودتها لمصر شرط مساعدته في مهمته
الاستخباراتية.
أمام ذلك بقي أن يقع الضابط مصطفى في يد الأعداء/ الموساد كي تصل عقدة
الفيلم إلى ذروتها في محاولة هربه أو تهريبه.. سنرى قبل ذلك أنه بمجرد وصول
مصطفى لتل أبيب يتورط في حماية فدائية فلسطينية تكون قد جاءت للمدينة
لتنفيذ عملية استشهادية في ملهى ليلي، حيث تلتقط كاميرات الملهى صورا له،
فيبدأ الموساد بانتظاره واستدراجه، ويكون ذلك في مكتب دانيال في جهاز
الموساد، حيث يحصل مصطفى من "سلوى" على بطاقة دخول للمكتب في مقر الموساد
الذي يخترقه فعليا لتكون النتيجة المتوقعة إلقاء القبض عليه.
أثناء نقله من مكان لآخر تبدأ أحداث الأكشن التي جاءت على درجة عالية من
التطور، ونظنها حملت مستوى متقدما هذه المرة، وكلما تضاعفت مشاهد الدمار
والمطاردة والاشتباك ابتعد الفيلم أكثر عن منطقه وتوقعات المشاهدين، حيث
وصل ذروة المبالغة غير المبررة، وتحديدا في مدينة مثل تل أبيب يستحيل أن
تشهد أحداثا بمثل التي عرضها الفيلم، وحتى لو حصل ذلك جدلا لكان من
المستحيل خروج الضابط المصري من المكان حيا ومنتصرا، وذلك بمنطق معرفتنا
لمدينة مثل تل أبيب ذاتها.
تستمر المطاردة وسط "أكشن" مضاعف، فيهرب مصطفى الذي يذهب لمنزل سلوى
ليحضرها وطفليها استعدادا لرحلة العودة للوطن، لكن ليس قبل قتل الضابط
"دانيال".
هفوات وعثرات
حاول المخرج إيهام المشاهدين بأن تصوير الفيلم تم في "تل أبيب" فعلا، وهو
ما لم يصل للمشاهد تماما، حيث لجأ لحيلة اللجوء لمشاهد من فوق لمدينة تل
أبيب، ومن خلالها ينقل المشاهد إلى شارع داخلي أو بيت أو بناية، وهي حيلة
مقبولة فنيا في ظل عدم إمكانية التصوير الفعلي في مدينة تل أبيب لأكثر من
سبب، من بينها رفض إسرائيل ودرء تهم التطبيع.
وللحصول على الأجواء الفلسطينية لجأ المخرج إلى التصوير في مناطق سورية ذات
جغرافية مشابهة لمناطق في فلسطين، كما استعان بممثلين سوريين أو ممثلين
سوريين من أصل فلسطيني، غير أن اللهجة العامية لم تكن سليمة بما فيه
الكفاية، تماما كما حصل في حديث الممثلين بالعبرية.
غير أن الأخطاء التي يصعب غفرانها كانت كثيرة، وتحديدا مع وجود إمكانية لأن
يبدو الفيلم أكثر دقة واحترافية لو استعان المخرج ومن قبله كاتب السيناريو
بفلسطيني، على أن يكون قد عمل في تل أبيب، أو حتى بأحد فلسطينيي 48، لنقل
صورة أكثر دقة وواقعية عن مدينة تل أبيب أو عن الشخصية الإسرائيلية، ولمنح
المخرج تصورا ما للمدينة وطريقة الحياة فيها.
لو حصل ذلك لما شاهدنا مثلا: سيارات الثمانينيات في شوارع تل أبيب
المفترضة، ولما شاهدنا الموساد الإسرائيلي يحمل سلاح الكلاشينكوف، ولما
شاهدنا ضابط الموساد يأمر عبر الهاتف جنوده بقتل الأطفال الفلسطينيين، حيث
إن الموساد عمليا لا يتدخل بالعمليات العسكرية داخل الأراضي الفلسطينية،
وكذلك مشهد تهجير الفلسطينيين من إحدى قراهم الذي جاء قادما من مشاهد
الخمسينيات وليس مطلع القرن الواحد والعشرين، وكذا طرق هدم منازل
الفلسطينيين وطبيعة عمل الفلسطينيين في هذه المستعمرات، ولا ننسى مشهد
الجدار ذاته، وكذا في تقديم مبنى الموساد الإسرائيلي الذي يعتبر قلعة
حصينة، فقدم عبارة عن مبنى حديث يسهل اختراقه، وكذا في طبيعة العلاقات التي
تجمع ضباط الموساد ولقاءاتهم واحتفالاتهم غير المبررة أمنيا في دولة يحتل
الهاجس الأمني فيها أولوياتها ويصوغ طريقة حياة سكانها.
هذا الاستسهال انعكس على رسم صورة العدو ومدينته الكبيرة، فلم تظهر صورة
حقيقية، كما لم تقاربها أيضا، بل ظهرت على شكل صور لمدينة نتمناها نحن، وهو
ما أثر على جزء أصيل في بنى الفيلم الدرامي، حيث بدا لنا أن المطاردات في
مدينة تل أبيب تماما كما تحدث في مدينة شيكاغو الأمريكية، مع أن الفرق
شاسع، وينتصر فيها الضابط/ السوبر مان مصطفى، في ظل معرفتنا أن تل أبيب
مدينة أمنية من الطراز الأول.
انتقاد وشكر
مما يحسب للفيلم رسمه لملامح غير تقليدية للشخصية اليهودية، وذلك بالإسقاط
على واقع السياسة الإسرائيلية اليوم، نرى "دانيال" محاولا إقناع زوجته سلوى
بالبقاء معه من خلال تأكيده أن هذا هو الواقع وعليها تقبله وإلا ستعود من
دون أطفالها، وكذلك في أنه شخص لا يهمه إلا مصالحه، بينما الطرف الآخر لا
قيمة لرأيه وموقفه، إضافة إلى أنه انتهازي دون أن يخل ذلك بولائه وانتمائه
لدولته الأم.
وكذلك "أم دانيال" اليهودية من أصل مصري التي تقول لسلوى إن عليها أن تقبل
الواقع الذي تعيش فيه، مادامت لا تستطيع تغييره، وبالتالي فإن الحق مع من
يمتلك القوة ليس أكثر.
كما حاول الفيلم انتقاد واقع مصر من خلال بعض الجمل الحوارية مثل: "أن
المصريين بقوا كتار اليومين دول في إسرائيل"، في إشارة إلى هجرة بعض
المصريين للعمل في إسرائيل، كما قدم حوارا بين الضابط مصطفى ومجموعة من
العمال الفلسطينيين الذين يعلمون بالمستعمرات الإسرائيلية عكس فهما مغلوطا
لدى كل طرف.
لكن ومهما قيل عن الفيلم من انتقادات فإنه يستحق التقدير في ظل واقع سينما
مغرقة في إفساد ذوق الناس تارة، ومتناسية بالتصريح أو التلميح قضية فلسطين
بسخونتها التي يفترض بها أن تكون قضية العرب الأولى، وهو ما يحاول الفيلم
تأكيده ولو من باب قصة بوليسية ليس أكثر.
ومع تقديرنا السابق لا بد من الإشارة هنا إلى أن التجرد من المطابقة مع
الواقع، وهو أمر حسن، يجب ألا يكون مفتوحا على مصراعيه دون أن يكون هناك حد
لاعتبارات منطقية أو حتى لاعتبارات فنية أيضا، وبالتالي فإن المخرج مسئول
عن استهانته بعقول المشاهدين في ظل وجود عدو حقيقي على بعد أمتار منا وليس
عدوا افتراضيا لجأ إلى تصويره، موهما مشاهديه أنه صوره في بيته، فتضاعف
الوهم إلى افتراض المواجهة والانتصار أيضا.
هنا يمكننا العودة لسؤال البداية لنعيده: هل علينا تصديق الأكشن وافتراض
المواجهة والانتصار الذي جاء في الفيلم تماما كالذي تقدمه السينما
الأمريكية؟ بالضرورة لا، وعكس ذلك يعني مصادرة عقولنا كمشاهدين، وهو ما لا
نرجوه أبدا.
ناقد فني ومحرر في النطاق الثقافي والفني في شبكة إسلام اون لاين.
إسلام أنلاين في
15/12/2009 |