أسعدتني الظروف بمشاهدة ساعتين ونصف الساعة من فيلم الوقائع
المصرية المصورة رؤية وإخراج د. محمد كامل القليوبي، الذي يستغرق عرضه
كاملاً ست
ساعات وعشر دقائق، العمل الكبير يشكل كنزًا حقيقيا لمن يهمه
الحفاظ علي ذاكرة الوطن
لأنه يستعيد وقائع لحظات نادرة من جريدة مصر السينمائية المصورة خلال 50
عامًا
تقريبًا، ساعتان ونصف الساعة منحتنا فرصة مشاهدة لقطات لا تنسي كانت في
مخازن
الهيئة العامة للاستعلامات التي ذهب إليها الإشراف علي الجريدة
السينمائية، واعطتنا
أيضا فكرة عن منهج د. القليوبي ومونتيرة الفيلم رحمة منتصر في إعادة تصنيف
الوقائع
مع المحافظة علي الشكل الذي قدمت به وقت عرضها، وتدعيم العرض ببعض الوثائق
التي
تشرح وتفسر وتضع الحكايات في سياقها التاريخي، كنز حقيقي لا
يمثل كل ما قدمته
الجريدة السينمائية ولكنها عينة يجب أن يشاهدها أكبر جمهور من خلال
الفضائيات أو
الجامعات أو نوادي السينما.
الفيلم الطويل أنتج عام 2005 في ظروف طريفة
حقًا رواها د. القليوبي، فقد استدعاه صديقه د. طه عبدالعليم
رئيس هيئة الاستعلامات
وقتها للتعامل مع الأفلام المخزنة منذ سنوات، التي قال عنها الموظفون إنها
في حجرة
رائحتها خلّ، وبالفحص والدراسة تبين أن معظم أعداد الجريدة موجودة، واختار
د.
القليوبي، أن يقدم تجميعًا للأحداث المتقاربة تحت عنوان واحد، وكان ذلك
أمرًا جيدًا
أتاح لنا فرصة المقارنة، علي سبيل المثال: في جزء بعنوان وقائع البدايات
ستتوالي
طقوس تنصيب رؤساء مصر من محمد نجيب إلي الرئيس مبارك، ومن أندر
ما تشاهده في هذا
الجزء صوت جمال عبدالناصر سكرتير عام هيئة التحرير عام 1953، وهو يطلب من
الحشود أن
تردد خلفه قسم المبايعة للرئيس محمد نجيب كأول رئيس لمصر، وتهدر الأصوات
مرددة:
اللهم.. إنا نشهدك.. وأنت السميع العليم.. أننا قد بايعنا اللواء أركان
الحرب محمد
نجيب رئيسًا لجمهورية مصر، كما أننا نقسم أن نحمي الجمهورية بكل ما نملك من
قوة
وعزم. وبعدها مباشرة ستجد مشاهد لاختيار جمال عبدالناصر رئيسًا
عام 1956 بعد
استفتاء شعبي أعلن وزير الداخلية وقتها زكريا محيي الدين أن نتيجة الذين
قالوا نعم
وصلت إلي 99.9%، ونسمع صوت المذيع يردد بلهجة خطابية إن جمال هو أول رئيس
للجمهورية
الفتية! هذه المقارنات الذكية قالت أشياء كثيرة بدون تدخل أو
تعليق، كما قدمت لنا
مشاهد مهمة مثل حصار الجيش لقصور عابدين والمنتزه ورأس التين، ومشهد تهنئة
الأمير
فهد للرئيس عبدالناصر بانتخابه، ومشهد تسليم عبدالناصر قلادة النيل لزملائه
أعضاء
مجلس قيادة الثورة. ساهم الاحتفاظ بالتعليق والموسيقي الحماسية
في إعطاء الإحساس
بالطبيعة الدعائية للجريدة المصورة، حتي الخطب كانت تعتمد علي الكلمات
الرنانة سواء
من المسئول أو من المعلق، محمد نجيب مثلاً يخاطب الشعب قائلا: إننا لم نجد
مناصًا
من منازلة الفساد أينما وجد، ونسمع صوت الراحل جلال معوض المميز يردد: هذا
اليوم
المرموق من أيام الدهر.. ويضيف منفعلاً: تحيا الجمهورية.. ولا
ملكية بعد اليوم.
ولعل المخرج والممثل الراحل إبراهيم عمارة الذي شارك في التعليق علي بعض
أعداد
الجريدة يعطيك فكرة عن الخطابية التي كانت تتطلبها تلك الاعداد
بعد حركة الجيش،
ولكن الجزء المتقطع من الفيلم الطويل يسجل تحت عنوان وقائع فنية أحداث أخري
غير
سياسية منها علي سبيل المثال زيارة الرئيس نجيب بصحبة أمير الكويت لاستوديو
مصر عام 1953
وحضور عبدالناصر لمسرحية لو عرف الشباب التي قدمت علي مسرح الجامعة
الأمريكية
وافتتاح مسرح حديقة الأندلس عام 1953 بحفل رقصت فيه سامية جمال
وغني فيه فريد
الأطرش وتصوير فيلم أرض الفراعنة الذي أخرجه هواردهوكسن في مصر عام 1953
وزيارة
جوني ويسملر الذي قام بدور طرزان لمصر في أكتوبر 1953 حيث صرخ صرخته
الشهيرة أمام
الأهرامات وحيث زار الاستوديو الذي يصور فيه فيلم نشالة هانم
وتبادل المداعبات مع
إسماعيل ياسين الذي قلد له حركات شيتا وهناك الاستقبال الأسطوري لـسيسيل دي
ميل
الذي جاء إلي مصر عام 1954 لتصوير فيلم الوصايا العشر وقد استقبلة بإعجاب
رئيس
الوزراء جمال عبدالناصر ووزير الحربية عبدالحكيم عامر.
كل شيء تشاهده
يستدعي المقارنة والتعليق وأحيانا مصمصة الشفاه: افتتاح أول مدرسة لتعليم
الباليه
في مصر عام 1956 نجوم الفن والأدب من يوسف وهبي وفاتن حمامة ونجيب محفوظ
يحضرون
الاحتفال بإنشاء مدينة الفنون بالهرم عام 1959، نقل تمثال
رمسيس الثاني العملاق من
ميت رهينة إلي الميدان المسمي باسمه عام 1954 وذلك بالتعاون بين بلدية
القاهرة
وسلاح المهندسين، استرداد رفات القديس المصري اثنا سيوس من روما عام 1973
ليعود إلي
وطنه في صندوق منذ خروجه منها عام 373 ميلادية، افتتاح معبد كلابشة عام
1975 بعد
انقاذه من الغرق بمعاونة ألمانيا الغربية، اكتشاف ما يعتقد أنه
بقايا رفات يوحنا
المعمدان أو النبي يحيي في دير الأنبا مقار عام 1978
.
بانوراما شاملة
لأحداث نصف قرن السياسية والإنسانية والفنية تستكمل كثيرا من الجوانب
الناقصة في
فيلم د.مدكور ثابت سحر ما فات، ربما افتقدت في الجزء الذي شاهدته تقديم
التحية
لرواد الجريدة السينمائية المصورة بعرض لقطات من جريدة آمون
للرائد الراحل محمد
بيومي عام 1933 ولقطات من جريدة مصر السينمائية التي انتجها استوديو مصر
بعد
افتتاحه عام 1935 ولكن رؤية د.القليوبي أعادت إحياء لحظات كنا نظن أنها
مفقودة
وأثبتت أن صناع الجريدة السينمائية وروادها مثل حسن مراد و
غيرهم تعاملوا بحب مع
مهنتهم وحرصوا علي أن يكونوا شهوداً علي وقائع زمنهم، فرص أشياء لا تقدر
بثمن لأنها
تثبت أهمية الصور المتحركة وسحرها، بكم تشتري مثلا لقطات للمدمرة فاروق وهي
تودع
الملك السابق وبكم تشتري مشاهد للمزاد الذي أجري لبيع متعلقات الأسرة
المالكة من
سيوف وأطقم للشاي؟! كيف يمكن أن تبقي هذه الكنوز دون أن
يشاهدها أحد، اعرضوها في
المدارس والجامعات وفي النوادي استثمروا هذه الكنوز التي والله ستحقق عائدا
ماديا
مذهلاً لو أحسن تسويقها.
روز اليوسف اليومية في
29/11/2009 |