كانت المهرجانات السينمائية الأولى التي أقيمت في بلدان العالم
العربي، مثل مهرجان “الأيام السينمائية في قرطاج” و”مهرجان دمشق السينمائي
في حقبته الأولى، تهدف إلى التعريف بالأفلام السينمائية غير التجارية، خاصة
التي تنتمي إلى دول العالم الثالث، فمهرجان قرطاج، مثلا، كان يعنى بالسينما
العربية والسينما الإفريقية، ومهرجان دمشق السينمائي، كان يكمل المهمة
فيعنى بسينما أمريكا اللاتينية إضافة إلى السينما العربية. كانت المهرجانات
السينمائية الأولى في العالم العربي، إضافة إلى المنطلقات الثقافية
السينمائية، تنطلق من خلفيات سياسية أيديولوجية تتناغم مع الوضع العام
عربياً ودولياً، والذي شهد تناميا لحركات التحرر الوطني. لهذا شهدت تلك
المهرجانات نشاطات فكرية وتنظيمية موازية تمثلت في إقامة الندوات وحلقات
البحث، المتخصصة في قضايا السينما العربية خاصة، و جهود لتأسيس جماعات
واتحادات تضم السينمائيين العرب، مخرجين كانوا أم نقادا، كان مأمولا منها
أن تقود ثورة لتصحيح مسار السينما العربية وتثقيف الجمهور العربي سينمائيا
لكي يكون قادرا على دعم السينما المختلفة المناقضة لسينما الترفيه
التجارية.
لكن، على الرغم من النوايا الصادقة والجهود الحثيثة وعلى الرغم من أن
تلك المهرجانات كانت مدعومة من مؤسسات قطاع عام سينمائية، لم تنجح تلك
المهرجانات في تحقيق ما كانت تصبو إليه، لا من حيث تصحيح مسار السينما
العربية ولا من حيث بناء جمهور سينمائي ذي وعي وذوق مختلفين متطورين.
بموازة المهرجانات السينمائية العريقة في العالم العربي التي لا يزال
بعضها يجاهد للحفاظ على استمراريته، برزت في السنوات الأخيرة مهرجانات
حديثة مشبعة بروح وتطلعات وأهداف جديدة، عنوانها البارز تشجيع الاستثمار في
مجال صناعة الأفلام عربيا، وتقديم الحوافز المادية لتمويل مشاريع نصوص
الأفلام ودعم الأفلام المتحققة فعليا عن طريق الجوائز المادية السخية التي
تمنح للأفلام الفائزة في مسابقات المهرجانات، أي أن هذه المهرجانات الجديدة
وضعت هدف تعميم الثقافة السينمائية كما كان يطمح لها سابقا أن تكون في
خلفية المشهد، وأبرزت الصناعة وإنتاج الأفلام في المقدمة.
في حين صار واضحا أن المهرجانات القديمة لم تحقق أهدافها، فإن تجربة
المهرجانات السينمائية الجديدة لا تزال في أولها، ولهذا من المبكر الحكم
على مدى نجاحها أو إخفاقها في تحقيق أهدافها على المدى البعيد، لكن ما تحقق
منها حتى الآن يقتصر على الدعم المادي الممنوح لنصوص مشاريع أفلام وجوائز
المسابقات، وهو دعم قيمته المالية هزيلة جدا مقارنة بالمبالغ الضخمة التي
يحتاجها إنتاج الفيلم، وهذا الدعم بالتالي لا يؤتي ثمره إلا بالعلاقة مع
مصادر إضافية لتمويل إنتاج الأفلام، مصادر تنتمي في واقع الحال، إلى صناعة
السينما في أوروبا وأمريكا، أي تنتمي إلى التمويل الأجنبي، وهو الذي يمنح،
في نهاية المطاف، الفيلم جنسيته، من الناحية القانونية، حيث أن جنسية
الفيلم صارت ترتبط بقوانين حقوق الملكية. ينتمي ما تحقق حتى الآن من دعم
لإنتاج الأفلام إلى حقل تشجيع الاستثمار، وهذا التشجيع يتعلق بحالات فردية
يظل محكوما بمشاريع أفلام مفردة قد تنجح أو قد تفشل، وهو لا يعطي في واقع
الحال مؤشرات حقيقية واضحة وملموسة على قيام صناعة سينمائية ذات أسس راسخة
ومستدامة.
كانت المهرجانات السينمائية العربية الأولى تدار من قبل سينمائيين عرب
وتشرف عليها إدارات عربية، أما المهرجانات الحديثة فتستفيد من الخبراء
الأجانب في إدارة وتنظيم فعالياتها المختلفة سواء منها المتعلقة ببرامج
عروض الأفلام أم بتنظيم مسابقات الدعم و ورشات التدريب والتأهيل.
كانت المهرجانات السينمائية العربية الأولى تعتبر نفسها مهرجانات
وطنية (بالمعنى الجغرافي على الأقل)، أما المهرجانات الحديدة فتسعى للخروج
من الجغرافيا نحو الاعتراف العالمي الرسمي بها كمهرجانات دولية ذات هوية
عالمية، ومن المفارقات أن هذا الطموح نحو العالمية والاعتراف بصفة المهرجان
الدولية أصاب بعدواه حتى بعض المهرجانات القديمة التي تأسست ضمن مشروع
وطني، والتي باتت تخضع لمنافسة غير عادلة وغير متكافئة من ناحية القوة
المالية التمويلية من قبل المهرجانات الحديثة.
كانت المهرجانات السينمائية العربية الأولى تبحث عن حلول جماعية عربية
شاملة لمختلف مشاكل السينما العربية: الإنتاج، التوزيع، حاجز اللهجات،
العلاقة مع جمهور السينما العربي، في حين تقتصر المهرجانات الحديثة على
تأمين الحلول الفردية لمشاريع مفردة يحمل رايتها أفراد يفتقرون للهم
الجماعي، ولا يشكل تأسيس صناعة سينمائية محلية هاجساً فعلياً لهم، ولا تشكل
العلاقة مع الجمهور المحلي هدفا لهم حيث باتت أمامهم بدائل مضمونة أكثر
تتمثل بالمهرجانات السينمائية والسواق الخارجية خاصة من خلال المحطات
التلفزيونية.
الخليج الإماراتية في
28/11/2009 |