منذ أحداث سبتمبر الأمريكية الدامية..
أصبح موضوع الإرهاب
والإرهابيين موضوعاً
مستحباً لدي الكثير من الشركات، والكثير من الكتّاب
والمخرجين.
وهكذا خرجت علينا أفكار مختلفة..
تقدم هذا الموضوع من زوايا
مختلفة..
زوايا ديماجوجية أحياناً،
وزوايا بوليسية تشويقية أحياناً، وزوايا
اجتماعية سياسية في ثالثة.
كل هذه الأفلام، والتي أتتنا من جنسيات مختلفة..
شحذت الأذهان.. وأعطت للمتفرجين صوراً
مختلفة..
عن نشاط دموي.. يعتبره
البعض إرهاباً وإجراماً.. ويعتبره البعض الآخر نوع من الاعتراض الدموي علي
سياسة غاشمة،
ونوع أخير يعتبره نوع من البطولة والدفاع عن الحق، ولو كان ذلك
عن طريق العنف وسفك الدماء.
وقد جاء فيلم ستيفن سبيلبرج »ميونيخ«
واضحاً
تماماً في توجهه ومحاولته إقناعنا بأنه يقدم نظرة حيادية..
حول حادثة الاعتداء
الكبري الذي تم في ميونيخ ضد أعضاء فريق كرة القدم الإسرائيلي، وقد ناقش
سبيلبرج
بفيلمه هذا (زوايا) ما أسماه الإرهاب بشيء كثير من العقلانية..
الأول من حاول
يعطي أسباباً منطقية لتصرفات المقاومة الفلسطينية وأن يركز علي
حجم رد الفعل
والانتقام الإسرائيلي الذي لا يقل بشاعة ووحشية عن العمل (الإرهابي)
نفسه.
وهكذا توالت الأفلام.. يحمل كل منها خلفية سياسية معينة يدافع عنها،
وهذا أمر إجباري في مثل هذه الحالة، ولكن نادراً
ما يأتينا فيلم (إنساني)
حقيقي يبحث في قضية الإرهاب من زاوية أخري لا تمت للسياسة بشكل مباشر، ولكن
تتوقف عند تأثيرها القاتل علي أناس لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وهذا ما فعله
بالضبط رشيد بوشاري وهو مخرج يعمل في السينما الفرنسية منذ بداياته شأن
الكثيرين من
المخرجين الذين قدموا من تونس والمغرب والجزائر.
(بوشاري) لفت أنظار السينما
العالمية بفيلمه قبل الأخير (Les Imdigemes)
الذي يصف دور الجنود الجزائريين في
تحقيق النصر لفرنسا والموت لأجلها أثناء الحرب العالمية الثانية.
وقد نال
الفيلم جائزة التمثيل الجماعية في مهرجان كان السينمائي قبل الأخير.. وهاهو
بوشاري يعود مرة أخري ليقدم تحفة سينمائية جديدة تضاف بقوة إلي رصيده
السينمائي.
إنه فيلمه الأخير (نهر
لندن).
(نهر لندن)
عن قصة رجل وامرأة..
امرأة
تبحث عن ابنتها الشابة التي تقيم في لندن بعيداً عنها وعن المزرعة الصغيرة التي
تعني بها.. ولا يربط بين الأم وابنتها إلا هاتف خلوي..
تسأل فيه الأم القلقة عن
أحوال ابنتها.. ولكن هذا التليفون يصبح فجأة أصم لا يرد، ورغم كل الرسائل
والتوسلات التي ترسلها الأم لابنتها..
يبقي الخلوي أخرس لا يجيب..
مما يجبر
الأم القلقة علي أن تترك مزرعتها وتتجه إلي لندن تبحث عن العنوان الذي تقطن
فيه
ابنتها.
وعلي الصعيد الآخر، هناك هذا الأب الافريقي الذي يعيش في باريس..
بعيداً عن غابته الافريقية..
والذي تركه ابنه وهو لازال في السادسة من
عمره.. يبحث عن حياته في انجلترا التي كانت مفتوحة الأبواب آنذاك لجميع
الغرباء.
ولم تعد هناك أية وسيلة اتصال بين الأب وابنه سوي رسائل متباعدة..
باردة وخالية من العواطف،
ولكن الأب الذي أحس باقتراب الشيخوخة، أحس في الوقت
نفسه بالحاجة إلي رؤية هذا
(الابن الضال) وإعادته إلي جذوره وأسرته وأمه
الملهوفة عليه، وهكذا يحزم أمره ويسافر إلي لندن بحثاً
عن الابن
المتمرد.
وهناك في هذه المدينة الغارقة في الزحام والعبث واللامبالاة والغرباء
يلتقي الأب الحائر بالأم الملتاعة أمام المنزل الذي كانت تعيش
فيه الابنة، وتكتشف
الأم أن ابنتها لم تكن تحيا وحدها، وإنما برفقة هذا الشاب الافريقي الذي أتي أباه
للبحث عنه، وتكتشف الأم مذهولة أيضاً أن ابنتها كانت تتعلم العربية وأنها تقرأ
القرآن، وأنها ربما
غيّرت دينها أيضاًلترضي إنسان المسلم الأسود الذي
أحبته.
يبدأ فضول الأم يتفاقم، وحيرتها تزداد..
بعد أن علمت بخبر انفجار
مروع في إحدي محطات المترو قامت به جماعة إرهابية وتسبب في
مقتل العشرات.
هل
كانت ابنتها ضمن هذه الضحايا؟!
ويأخذ البحث عن الابنة مساراً
جديداً
يترافق
فيه كل من الأب العجوز والأم القلقة التي تظهر منذ البداية نوعاً من (العنصرية)
الكامنة ضد هذا الرجل الأسود وابنه ومعتقداته الدينية وتسلله إلي
حياة ابنتها.
إنها تعامل بخشونة.. ولكنها تجد نفسها مجبرة علي مرافقته خلال
البحث عن الأولاد الضائعين،
وهكذا تنمو علاقة فيها الكثير من الفضول وفيها
الكثير
من الحاجة إلي الآخر، وفيها بعد هذا كله..
الرغبة في الوصول إلي
اليقين.
في كل هذه المشاهد الأولي.
يرسم المخرج وجوه وشخصياته وكأنه ينسج
ستاراً من الدانتيلا،
بشاعرية ورقة وعذوبة مدهشة.
رغم جو المأساة المخيم علي
الأحداث، ورغم الخشية من اقتراب الموت إلي هذا العالم
الهادئ الساكن الذي كان
يعيش فيه كل من الأب والأم..
كل علي طريقته.
وتزداد الألفة بين الباحثين..
ويجمعهما قلق واحد..
هو أن يكون الأبناء قد ساهموا في هذه العملية الإرهابية،
وأمل واحد.. هو أن يلتقيا بأبنائهما أحياء مهما كانت الظروف والدوافع.
وبعد
مسيرة لولبية بين المستشفيات ومراكز البوليس..
يعثر الأب والأم علي شارة أمل..
يقدمها لهما مكتب للسياحة..
لقد حجز العاشقان تذكرة سفر إلي باريس،
وسافرا في
اليوم نفسه الذي وقع فيه الانفجار الدموي.
وتعود البسمة إلي الشفاه.. وتزداد
الصلة بين رجل الشرق وامرأة الغرب..
اللذان وجدا أنفسهما يقفان علي بر الحياة..
بعد أن قضيا فترة من الزحف علي شاطئ الموت.
ولكن هذا الأمل سرعان ما يتبدد في
لحظة واحدة عندما يتأكد البوليس عند فحص جينات الجثث، أن جثة الشابين
بينهما،
وأنهما قد ركبا الأتوبيس المشئوم في آخر لحظة،
وهما في طريقهما إلي
المطار.
تنهار الأم، ويتماسك الأب، والجرح دامي في صدره..
وكان عليهما
أن يفترقا.
أن يعود هو إلي
غابته، وأن تعود هي إلي مزرعتها، ولكن هذا
اللقاء اللامجدي وهذا البحث البائس قد جمع بينهما دون أن يدريا، وجعلهما
يريا
الدنيا من خلال منظار آخر مختلف..
وغيّر الكثير من مفاهيمهما..
هي أصبحت أقل
عنصرية، وهو أكثر إنسانية.
ولكن في هذه الظروف المؤلمة..
القاسية، هل
يمكن لهما أن يحققا الحلم الذي وقف الموت حائلاً دون تحقيقه لدي
أولادهما.
فيلم رشيد بوشاري الذي مثله بإبداع..
زوج مدهش من الممثلين هما
برندا بليشين التي أعطت لدور الأم وجهها البديع المليء
بالتعبيرات المدهشة التي
تكشف عن أدق خلجات نفسها، والممثل الافريقي سوتيجي كوباتي الذي أعطي ظلالاً
من
الغموض المدهشه للشخصية التي تحاول عبثاً
إمساك خيوط الماضي وإعادتها إلي نسيج
الحاضر.. بمحاولة مستحيلة انتهت علي ذلك ببصيص صغير من الأمل.
رشيد بوشاري
اشتغل علي فيلمه.. كما يشتغل فنان إيراني علي سجادة ثمينة يمسك بخيوطها
خيطاً
خيطاً ويربطها بمهارة وحذق مدهشين.
إنه يقدم كل مشهد في الفيلم وكأنه لوحة
مستقلة.. تقول لوحدها كل ما يريد قوله.
لقد أحس بنبض مدينة لندن بأحيائها
الشرقية التي يسكنها الغرباء..
بضجيجها..
وبرودها..
ولا مبالاة سكانها،
وبهذه الروح التراجيدية الخفية التي تسري في شوارعها وطرقها وكأنها تبشر
بحدث أو
تنبه لكارثه.
لقد نجح بوشاري في تقديم سيمفونية عن مدينة..
وحدث..
ويتخللها عزف منفرد علي أوتار قلب أم مفجوعة،
وأب حزين.
لقد تفجر الفيلم
كالقنبلة في مهرجان فينسيا وملك قلب النقاد والمتفرجين جميعاً، كما استطاع
بهدوء
ولين وعذوبة أن يحتل قلب المتفرج المصري الذي لم ير فيه فقط فيلماً عن
نتائج
الإرهاب المروعة.. وإنما معزوفة نشوانة عن القلب البشري..
باندفاعه وخفقانه
والحياة التي يبعثها في عروق
الجسد الحي.
أخبار النجوم المصرية في
26/11/2009 |