المخرج الروسي ألكسندر سوخوروف من بين عدد كبير من المخرجين المهمّين الذين
ما زالوا محتجبين في بلادنا العربية. لا عروض تجارية ولا مهرجانات تهتم به
وأفلامه ليست متوفّرة حتى في محلات الأسطوانات والفيديو. هذا لا يغيّر
الواقع: إنه من بين فناني السينما الكبار حالياً ومن أكثرهم مدعاة للتأمّل
كون أعماله مصنوعة لهذه الغاية، تماماً كما كانت أفلام سالفه أندريه
تاركوفسكي مصنوعة للهدف ذاته. عبر إنجاز هذا الهدف أمَل كلاهما التواصل مع
الداخل الإنساني ونجح في غايته تلك أيّما نجاح.
فيلم “الشمس” ليس آخر أعماله الروائية (بعده أنجز “ألكسندرا” السنة
الماضية) لكنه يصل متأخراً إلى العروض التجارية في أكثر من مكان حول
العالم. إنه الجزء الثالث من ثلاثية بدأت بفيلم “مولوش” عن جزء من حياة
هتلر، ثم توسّطت بفيلم “توروس” عن جزء من حياة لينين وتنتقل. و”الشمس” يدور
حول حياة الإمبراطور الياباني هيروهيتو. الجامع بين الثلاثة ليس السيرة
الحياتية، لأن لا فيلم من بينها يدّعي أنه إحاطة بحياة أي من شخصياته، بل
مجرد رؤية خاصّة لهذه الشخصيات تُحيط، في الوقت نفسه، بسنوات الحرب
العالمية الثانية كون الثلاثة ساهموا في أتونها أيّما مساهمة.
المشترك أيضاً بين الأفلام الثلاثة اختيارات المخرج لتلك الفترات النهائية
من سُلطة كل واحد وكيف كان يتصرّف خلالها. أي وضع نفسي أو صحي أو سياسي كان
يعايشه كل منهم. هتلر في “مولوش” كان يواري نفسه بعيداً عن الواقع قابعاً
في عالم “آمن” ابتدعه في قصره ومحيطه (مشهد خارجي واحد بعد تقديم هتلر).
لينين في “توروس” نراه شارف على الخرف وبدأت غيوم الذاكرة تلبّد أفكاره.
هيروهيتو كان حريصاً على ممارسة نصل بارد من التصرّفات ولو كان يعلم تماماً
أين هو متّجه بنفسه وبالحرب التي خاضها وكاد أن ينتصر فيها.
عامل مشترك ثانٍ بين هذه الأفلام يعود الى رؤية المخرج البصرية. كل واحد من
هذه العوالم الثلاثة، وفتراتها وبيئاتها، معبّر عنه بألوان بنية فاتحة تشبه
ألوان المباني القديمة التي تقع الأحداث فيها. الشمس لا تشرق، وإذا فعلت
فإن شروقها ليس ساطعاً. الطبيعة، حين ترضى الكاميرا الخروج إليها، ليست
ساحرة. إنها تبدو كما لو كانت تكملة للأماكن الداكنة التي تقع فيها معظم
الأحداث.
في “الشمس” نطالع هيروهيتو (إيساي أوغاتا) في مبنى يُستخدم كمختبر علمي.
قبل بدء الفيلم كانت الطائرات الأمريكية دكّت قصره وآل الإمبراطور إلى هنا.
ويعرض لنا الفيلم يوماً قريباً من آخر أيامه إمبراطوراً ومن آخر أيام
اليابان قبل الهزيمة الكاملة.
الطائرات الأمريكية كانت أغارت على طوكيو حيث سقط عشرات ألوف القتلى (حسب
تقدير مائة ألف) وتستعد لاختبار قدراتها النووية بإسقاط قنبلتين واحدة على
هيروشيما والثانية على ناغازاكي. لكن هيروهيتو شخصية غير متأثّرة، ظاهرياً،
بما يحدث حولها.
في ذلك اليوم نراه يلتقي وحاجبه الخاص (شيرو سانو) لمراجعة جدول أعماله.
ونتابع ذلك الجدول حيث يلتقي بجنرالاته صباحاً ويدخل المختبر لمتابعة أعمال
علمية مائية ظهراً ويخلد الى التفكير العميق بعد الظهر. في بال الإمبراطور
أن اليابان ستقع لا محالة على الرغم من أن حاجبه وبعض عسكرييه يستبعدون
الاحتمال مؤكدين أن الجيش الياباني سيقاتل حتى النهاية. لكن هيروهيتو يدرك
أن هذه هي النهاية. يعلم أن عليه الاستسلام، وهو في الثقافة اليابانية أقل
درجة من التضيحة بقتل النفس. على ذلك، لا تراه حاداً ولا حزيناً ولا
متوتراً. إنه في حالة متلائمة وسلام مع نفسه ومستعد للاحتلال الأمريكي الذي
يقع في اليوم التالي بوصول الجنرال مكارثر (روبرت دوسون) ولقائه
بالإمبراطور الياباني لبحث الوضع معه. الإمبراطور يستجيب مدركاً الوضع
تماماً، لكن الجنرال لا يصر على معاملته تبعاً لمكانته. حين يرسل جنوده
ليأتوا به يعاملونه بخشونة وحين يصل إلى القصر لا يفتح له أحد الباب. ثم ها
هو الجنرال نفسه يجلس إليه بأقل قدر من الكياسة والاحترام ويملي عليه
شروطه. في كل ذلك، هيروهيتو، مدرك وفي ذات الوقت قابل. يبدو كما لو أنه -في
بعض المشاهد الأخيرة حين يقف مثلاً أمام المصوّرين- سعيد بأنه لا زال حيّاً
طليقاً ولو أن كل السلطات خرجت من بين يديه.
أفلام السيَر، أو أي أفلام شبه بيوغرافية، تختلف بالطبع من فيلم لآخر، او
من بين مجموعة من الأفلام الى أخرى وذلك تبعاً للمرغوب منها. أفضلها بالطبع
هي تلك الأفلام التي، كحال “الشمس”، تحمل وجهة نظر بعيدة عن الحكم مع او
على. وسوكوروف يقدّم الشخصية من دون ذلك الحكم المسبق ما يجعل المشاهد
يراها من زاوية جديدة غير مطروقة إلا فيما ندر.
“الطريق”
نهاية استثنائية
للعالم
فيلم “الطريق”، الذي ينطلق للعروض العالمية هذا الأسبوع، عمل آخر حول نهاية
الحياة على الأرض كما نعرفها. لكنه بقدر ما ينتمي الى هذا الإطار الشامل
لأفلام كثيرة في السنوات التي تلت مأساة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، بقدر
ما يختلف عنها في الوقت ذاته.
أفلام الكوارث المتوالية، وآخرها “2012” لرولاند إيميرش، تقوم في معظمها
على الاستفادة من تقنيات المؤثرات الخاصة والكمبيوتر غرافيكس لأجل خلق حالة
صدام بين المُشاهد وبين ضروب الدمار والكوارث، المستخدمة بغاية إبهاره
وايصال رسالة الى العين، ولو بغياب رسالة أهم الى العقل البشري.
لكن “الطريق” للمخرج جون هيلكوت، هو من تلك الأعمال النادرة التي تلعب على
الأوتار مقلوبة. بنجاح يتحاشى المؤثرات (إلا ما هو ضروري) ويتعامل مع وضع
يجبر فيه المشاهد على استخدام وعيه ومداركه الذهنية عوض السيطرة عليها
بغاية إلغائها.
في الأساس ينطلق الفيلم من ميزة غير متوفّرة لمعظم الأفلام المشابهة. إنه
من كتابة الروائي كورماك مكارثي الذي حصد أكثر من جائزة أدبية (والتي صدرت
بالعربية ضمن سلسلة “إبداعات عالمية” عن المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب في الكويت) ما يمنحها مرجعية أدبية محسوبة. هذه الحقيقة مهمة كون
كورماك لم يرغب أصلاً في عمل تشويقي تقليدي، فاختزل الأسباب التي أدّت الى
دمار الحياة وحجمه وغاص مباشرة في رحلة شخصين (أب وابنه الطفل) في براري
الولايات المتحدة هاربين وباحثين في الحين عينه.
كل ما يصل الى مدارك القاريء هو أن هناك حالة دمار سبقت بداية القصّة ما
يتيح لها أن تتعامل مع شؤون إنسانية وعائلية تحمل الصِلة الخاصّة بين هذين
الشخصين في وضع غير عادي، من دون ضغوط التفسير والإتيان بالنتائج وتحميل
الرحلة نواحي رأي الكاتب أنها تقليدية وقرر أنه في غنى عنها.
الفيلم يتبع ذات الخطى. يقرر صانعوه ذلك ويحصدون في المقابل عالماً واقعياً
ضمن هذا المنهج الخيالي في الأصل. ومع أن العمل السينمائي يغري بمحاولات
توفير مؤثرات مختلفة لضمان جمهور أكبر حجماً، إلا أن صانعي الفيلم التزموا
بروح الكتاب والتغييرات التي تمّت كانت محدودة وخالية من التوابل التي كان
من الممكن لو استخدمت أن تودي بالعمل الى اتجاه آخر.
هناك، في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال، مسألة الريبة في الأشخاص الذين
يلتقي الأب وابنه بهم من حين لآخر. العالم توحّش ومن تبقّى من البشر قصد
سبلاً مختلفة للبقاء على قيد الحياة بما في ذلك، وبالنسبة للبعض، أكل لحوم
البشر. بسهولة كان يمكن لمخرج آخر أن يستغل هذه الفرصة فيقدِم على مشاهد
تثير الخوف والعنف شبيهة بتلك المتوفّرة في أفلام رعب جيدة ورديئة حول آكلي
لحوم البشر وصراع الأصحّاء المتواصل ضدّهم (آخر هذه الأفلام “زومبيلاند”
المعروض حالياً في الإمارات ومعظم صالات المنطقة). عوض ذلك، يبتعد الفيلم
عن مثل هذه الفرصة السهلة ويترك المسألة رهينة مخاوف مشتركة بيننا وبين
بطليه.
الفيلم كان بحاجة إلى عمق توفّره القصّة ولا يوفّره المخرج، لكن الفيلم
يستند في واقعه الى قصّة صغيرة ومحدودة الأحداث وغير متنوّعة. كدراما، هي
حكاية شخصين وطريق طويل وقدر كبير من المشاهد غير المتنوّعة (سير، اختباء،
ذكريات، حوارات قليلة، غابات محروقة الخ...). والمخرج في التزامه بالنص وجد
نفسه في وضع مفاده أن إثارة المُشاهِد طيلة الوقت عبر مَشاهد متوالية لا
تحمل الكثير من الاختلاف هو أمر صعب الإنجاز. على ذلك، وبسبب انصهار
الممثلين الرئيسيين وهما فيغو مورتنسن في دور الأب وكودي سميت-ماكفي، في
دور الصبي، استطاع تكوين عمل ينحاز لسينما الفن معظم الوقت.
علامات
غياب الحقيقة
الأخوان لوميير أخذا الزبدة، لكن السينما بدأت قبل ذلك، أو على الأقل شرطها
الأول: الفيلم السينمائي، ففي 1878 قام المصور البريطاني إدوارد مايبردج
بنصب 24 كاميرا متوالية ليلتقط صورة حصان راكض وذلك للبرهنة على أن قوائم
الحصان لا ترتفع كلها عن الأرض في وقت واحد، بل تتناوب. طريقته في ذلك رصف
الكاميرات بفارق نحو خمسين سنتمتراً بين الكاميرا والأخرى.
بعض المؤرخين استندوا إلى هذه التجربة على أساس أنها ولادة للفيلم، لكن
الكاميرات التي استخدمها كانت فوتوغرافية وليست سينماتوغرافية ما يعني أن
البداية الحقيقة جاءت لاحقاً. خلال تلك الفترة التي عاشها مايبردج كانت
هناك عشرات المحاولات الأخرى من عشرات المخترعين، وكلّها كانت من نوع النبش
في التراب لتأسيس ما ورد لاحقاً. الأسس الأولى للكاميرا، الأسس الأولى
للفيلم السينمائي، الأسس الأولى للعرض مروراً بمفهوم شامل مفاده اللعب
بالظلال وانعكاسات المرايا واستخدام الصفيح حيناً والبلاستيك حينا في
محاولة تسجيل الصورة (ولاحقاً الحركة المصوّرة) على فيلم.
العام ،1888 أي قبل سبع سنوات من العرض الجماهيري الذي أقدم عليه الأخوان
لوميير، قام الفرنسي القاطن بلدة ليدز البريطانية لويس لو برينس بتصوير أول
فيلم على “سيليلويد”. مدّته الأصلية لم تتجاوز الاثنتي عشرة ثانية لكن ما
بقى منه الآن ثانيتان.
الفيلم بعنوان “مشهد حدائق راوندهاي” وفيه مجموعة شخصيات تتمشّى، فرادى أو
جماعات، في حديقة عامّة. بيت إلى يسار الصورة ورجل ينزل درجاته القليلة.
انتهى الفيلم.
لو برينس اختفى في 16 سبتمبر/أيلول سنة 1890 في حادثة مازالت لغزاً: ركب
قطار الساعة 2:42 بعد ظهر ذلك اليوم من محطّة بلدة ديجون قاصداً باريس. وصل
القطار (الذي كان من نوع “الإكسبرس” ما يعني أنه توقّف عند محطات قليلة ولم
يكن عليه لو برينس. حين لم يظهر في أي مكان تنادى أهل الفقيد ورجال
“سكوتلاند يارد” والبوليس الفرنسي ومشّطوا المسافة بين ديجون وباريس ولم
يجدوا أي أثر للمخترع. آخر من شاهده شقيقه الذي ودّعه على المحطّة.
النظريات تقول أشياء مختلفة. ربما سقط من القطار ولم يعثر عليه. ربما انتحر
(يُقال إنه كان على حافة الإفلاس) أو ربما قتله منافسون له. حينها كان هناك
منافسان رئيسيان: أديسون في الولايات المتحدة والأخوان لوميير في فرنسا.
لكن لا إثباتات مطلقاً تجعل هذه النظرية قابلة للتداول أو الأخذ.
أغرب من ذلك أن ولده مات بعد عامين خلال زيارة للولايات المتحدة وفي ظروف
غامضة أيضاً.
م.ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
22/11/2009 |