الخطوة مفيدة. العودة
إلى زمن مضى لاستعادة تجربة، أمرٌ مرغوبٌ فيه إذا شاء المرء التنبّه إلى
جذور
الآنيّ، أو بعض أسبابه، أو إلى الاطّلاع عليه. نبشُ فصول من
الذاكرة مسألةٌ حيوية،
إذا تحرّر النبش من النصّ البكائي، بسعيه إلى معاينة حالة وتبدّلات. الخطوة
مفيدة.
إنها دافعٌ إلى إجراء مقارنة نقدية بين
نتاج قديم وأعمال حديثة. تحريضٌ على قراءة
المسار التاريخي، بأبعاده المتفرّقة، وعلى مشاهدة آلية العمل،
سابقاً وراهناً. ما
فعلته «وزارة الثقافة اللبنانية» عاديّ. لكنه مثير لنشوة الاقتراب من الحدّ
الفاصل (هل أقول القاطع) بين جماعتين مقيمتين في
أرض واحدة، بل بين أسلوبين في التعامل مع
موضوع واحد. تنظيم الوزارة أسبوعاً سينمائياً بعنوان «فلسطين
والقضية الفلسطينية في
السينما اللبنانية»، دعوةٌ مبطّنة (هل أقول لاواعية؟) إلى منح هذه العلاقة
نَفَساً
جديداً من النقاش السليم. عنوان الأسبوع نفسه لافتٌ للانتباه: لا وجود
للفرد
ومشاغله. القضية أهمّ. الجماعة أولوية مطلقة. حسناً. لكن، أين
هي السينما
اللبنانية؟ أليست المبادرة الفردية اللبنانية ركيزة دائمة للإنتاج الفيلمي؟
هذا
تناقض: الفرد اللبناني صنع أفلاماً، لكن فلسطين حاضرة جماعياً، أرضاً وقضية
وتاريخاً وذاكرة.
الخطوة مفيدة. لكن المأزق كامنٌ في غياب المتلقّي. هذا نوع من
الاحتفالات السينمائية لا جمهور له. هؤلاء منفضّون عن السينما.
عن عناوين أساسية في
الحياة اليومية. عن شؤون العيش وكيفية تحصينه وسط الانهيارات الكثيرة. لم
تعد
فلسطين مغرية، إلاّ لماماً. أو فقط بالنسبة إلى سياسيين يستخدمونها لمزيد
من الشتم
والعنصرية. هناك مؤمنون بها وبناسها، ومناضلون حقيقيون من أجلها ومن أجل
شعبها. غير
أن النار التهمت المحيط كلّه. الجمهور اللبناني يطلب أموراً
أخرى، أو ربما لا يطلب
شيئا. صالة سينما «أريسكو بالاس» فارغة. هناك عددٌ قليل من المشاهدين.
لعلّه
الموضوع. لعلّها الأفلام وكيفية صنعها. لعلّها الصالة وموقعها الجغرافي، إذ
بدت
بعيدة عن الحساسية الجماهيرية. ما سبق جميلٌ. لكن القراءة
مقتصرة على أفراد قلائل
مهتمّين بالفن والسينما والقضايا الثقافية. معظمهم مُدركٌ سلفاً معنى
التحوّلات
ومساراتها. مُدركٌ شيئاً كبيراً من الذاكرة والتفاصيل. هناك مأزق آخر:
أفلام قديمة
مختارة للأسبوع هذا معروضةٌ بنسخ سيئة. لم تعد النسخ «النظيفة»
موجودة. هذا يطرح
سؤال البحث عن القديم وترميمه. الوزارة مطالبة بعمل جدّي في هذا المجال،
بالتعاون
مع مؤسّسات لا تدّعي حرصاً على التراث، ولا «تُرمِّم» القديم على نسخ.. «دي
في دي».
تنويعات
بعد غد السبت، ينتهي الأسبوع المذكور بعرض أربعة أفلام (بدءاً من
السابعة والنصف مساء، وهو موعد بدء الحفلات اليومية كلّها):
«براميل صبرا» لشيرين
أبو شقرا و«أرض النساء» لجان شمعون» و«رسالة إلى صديق فلسطيني» لرنا عيد
و«أحلام
المنفى» لمي المصري. المخضرمان شمعون والمصري حاضران في التاريخ السينمائي
اللبناني/ الفلسطيني. أبو شقرا وعيد مقبلتان حديثاً على صناعة
الصورة في لبنان. رنا
عيد اختارت العمل في مجال الصوت. باتت بارعةٌ فيه. اختصاص نادر في بلد مليء
بالمشاريع السينمائية والبصرية المتفرّقة. الهمّ الفلسطيني جامعٌ بينهم
جميعهم. لكن
العمل الإبداعي مختلف. غداً الجمعة، يُمكن للمهتمّ مشاهدة أربعة أفلام
أيضاً: «سفر»
للميا جريج و«كل واحد وفلسطينو» لنادين نعوس و«يا سلام» لفؤاد عليوان و«ما
هتفت
لغيرها» لمحمد سويد. آخر هؤلاء منتم إلى جيل التسعينيات الفائتة. بدأ
الباقون تقديم
أعمالهم إما في نهاية القرن الماضي، وإما في الأعوام الأولى من
القرن الجديد. الأمر
نفسه في عروض اليوم الخميس: فيلمان لهادي زكّاك هما «ألف ليلة ويا ليالي»
و«لاجئون
مدى الحياة»، وثالت لنبيهة لطفي بعنوان «لأن الجذور لا تموت».
هذه صورة عامّة
للتحوّل الفكري والثقافي والإبداعي في التعاطي مع المسائل العامّة. إن
مشاهدة
الأفلام تلك قادرة على منح المهتمّ، الذي لم يُشاهدها، قدرة
البحث النقدي في المآل
التي بلغها تحقيق الأفلام اللبنانية، الروائية والوثائقية على حدّ سواء.
نبيهة لطفي
مثلاً منتمية إلى جيل لبناني مشبع بالغليان الفكري والثقافي الذي عرفته
بيروت قبل
اندلاع حربها الأهلية، وفي بداياتها. جيل اعتبر «السينما» أداة
نضال ومواجهة. جعل
الأفلام منابر خطابية من أجل القضية والأفكار الكبيرة. كانت لحظة تاريخية
أولت
اهتماماً كبيراً للمضمون، من دون اكتراث فعلي بالشكل. الآخرون مختلفون.
جاءوا
السينما في زمن الصورة. لم يبرعوا جميعهم في صناعتها إبداعياً.
لكنهم بدوا أقرب إلى
الفن منه إلى الخطاب. شغلتهم فلسطين، شعباً وأرضاً وقضية؟ هذا صحيح. حثّتهم
قضايا
إنسانية عامّة على إنجاز أعمال بصرية؟ هذا صحيح أيضاً. لكن قلّة منهم
تمرّدت على
التقليد، ووازنت بين طرفي المعادلة الإبداعية المطلوبة
(المضمون والشكل)، وأدخلت
التجديد الغربي في صناعة الأفلام الوثائقية على نتاجاتها. محمد سويد أحد
أبرز
المخرجين الوثائقيين اللبنانيين والعرب في هذا المجال. تماماً كنبيهة لطفي،
لكن في
النمط الآخر. أي النمط الكلاسيكي التقليدي. المخضرمان شمعون والمصري قريبان
إلى
أسلوب الاشتغال الخاصّ بلطفي، مع أنهما مستمران في تحقيق أفلام
وثائقية لغاية
اليوم. ميزة أفلامهما: اهتمامها بالفرد. شخصيات مستلّة من الواقعين
اللبناني
والفلسطيني. لكن المعالجة تقليدية. زكّاك ابن التسعينيات. بارعٌ في إنجاز
أكاديمي
متقن للأفلام الوثائقية. «ألف ليلة ويا ليالي» روائي مبتكر. استند إلى
المناخ العام
لـ «ألف ليلة وليلة»، مسقطاً المضمون على فلسطين. «لاجئون مدى
الحياة» وثائقي يشبه
الطريقة المعتمدة في صناعة أفلامه. لا ادّعاء ولا فذلكة. مواضيع إنسانية
مشغولة
بتقنيات عادية. لكن أفلامه انعكاس واضح لغليان إنساني من نوع آخر. إنه
الغليان
المشوب بالبؤس والشقاء.
أفلام
لم يبلغ الفيلم الوثائقي «فلسطين والقضية
الفلسطينية في السينما اللبنانية» مرتبة سوية، تليق بالموضوع. أنتجته
«وزارة
الثقافة اللبنانية» بإمكانيات متواضعة. نفّذه «نادي لكل الناس». كان يُمكن
الاستفادة من الأرشيف الغني أكثر من ذلك. اعتُمد في تحقيقه على
الأفلام المختارة
للأسبوع المذكور، وبعض العناوين الأخرى. العنوان نفسه. عرضُه في افتتاح
الأسبوع
مساء الاثنين الفائت مدخلٌ جميلٌ لمن لا يعرف شيئاً عن الذاكرة السينمائية
اللبنانية والمسألة الفلسطينية والعلاقة بينهما. مشكلته:
اختياره النمط التقليدي
العادي جداً في تقديم فصول من التاريخ السينمائي المشترك بين لبنان
وفلسطين. إدخاله
الشخصيّ (موقف كريستيان غازي مثلاً من غاري غارابتيان أثناء تصويرهما في
وقت واحد
فيلميهما «فدائيون» للأول و«كلنا فدائيون» للثاني؛ صُوَر
عائلية للثنائي شمعون
والمصري وردت في السياق بشكل متصنّع... إلخ) في السرد التاريخي للنتاج
السينمائي.
مع هذا، لا بأس. الوثائقي نفسه مرآة بسيطة
لواقع ملتبس ومرتبك ومُنتِج ومفتوح على
الأسئلة كلّها. وزارة الثقافة لا تملك إمكانيات مالية كبيرة.
لا تشارك في إنتاج
الأفلام اللبنانية. لكنها أقدمت على هذه الخطوة احتفاء بـ «القدس عاصمة
للثقافة
العربية للعام 2009». «نادي لكل الناس» نشيط سينمائياً في هذه المرحلة.
أصدر
مؤخّراً اسطوانة مدمّجة خاصّة بفيلمي «مئة وجه ليوم واحد»
(عُرض أمس الأربعاء)
و«نعش الذاكرة» لغازي. أنجز فيلماً عن المخرج نفسه أيضاً. له نشاطات سابقة
متعلّقة
بشمعون والمصري وبرهان علوية. اختير «كفر قاسم» لعلوية في افتتاح الأسبوع
اللبناني
الفلسطيني أيضاً. هذا مخرج ساهم بفعالية في تأسيس ما عُرف بـ
«السينما اللبنانية
البديلة»، تلك التي تحدّت السيطرة الإنتاجية المسطّحة، المتأثّرة بالنمط
المصري،
دافعةً سينمائيين عديدين إلى جعل الكاميرا مرآة الواقع والناس وقضاياهم.
«كفر قاسم»
مزج الوثائقي بالمتخيّل. كان أشبه بإعلان مبكر عمّا بات سائداً اليوم في
الإنتاج
السينمائي العام: «الوثائقي الإبداعي». اختار المجزرة التي ارتكبها جنود
إسرائيليون
عمداً بحق فلسطينيي القرية المعروفة هذه (كفر قاسم) مادة لفيلم/ شهادة.
تعامل مع
الفلسطينيين كبشر. نزع عنهم الأرقام في لائحة الضحايا. أعاد
إليهم الصورة الحقيقية
للإنسان. تعامل معهم كشهداء.
في الإطار العام، هناك مشهد مزعج: غياب شبه كامل
لجمهور مفقود. مع أن الاحتفاء اللبناني بفلسطين ممتد على سنين عدّة،
ومنسحبٌ على
سينمائيين منتمين إلى أجيال متفرّقة. مع أن فلسطين حاضرة بقوّة في الوجدان
اللبناني، سلباً وإيجاباً.
السفير اللبنانية في
12/11/2009 |