منذ البدء، ارتبط اسم
بيروت بالحرية. لكن التخبّطات السياسية والحروب التي استباحتها أعواماً
عدّة، أعادت
طرح سؤال هذه الحريات، خصوصاً في مطلع القرن الحادي والعشرين، الذي شهد
تحوّلات
جمّة في شؤون العيش
والعلاقات الإنسانية والانهيارات المختلفة في العالم كلّه.
ولعلّ التزام «الحركة الثقافية ـ أنطلياس»،
منذ نشأتها في العام 1978، «الدفاع عن
قيم كبرى، في مقدّمتها الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان»،
دفع هذه المؤسّسة
الثقافية اللبنانية، المتميّزة بحضورها وسجالاتها المتفرّقة وانفتاحها على
الحراك
النقدي والفكري، إلى تنظيم مؤتمر «بيروت رائدة الحريات في الشرق»، الذي
افتُتح بعد
ظهر أمس في مقرّها في «دير مار الياس» في أنطلياس، والذي أرادته أشبه
بإعادة قراءة
نقدية للنسق الديموقراطي المتكامل في التاريخ العربي، ومحاولة
ثقافية وفكرية جديدة
لفهم المكوّنات الأساسية لهذه الحريات والديموقراطية.
والمؤتمر، الذي ينتهي بعد
ظهر غد السبت، لا يروّج «لفكرة حريات مطلقة ناجزة ملازمة دوماً
لبيروت الحديثة»،
كما قال أمين عام الحركة أنطوان سيف في كلمته الافتتاحية، لأن
«الحريات أنماط حياة
جمعية من مواقف وسلوك، متلازمة مع قيم العدالة وحقوق الإنسان، فرداً
وجماعة،
والانفتاح الكامل والإنساني». علماً أن الأسئلة المطروحة في الأيام الثلاثة
للمؤتمر، تُشكّل آفاقاً واسعة لنقاش لا يُمكن لمدّة زمنية
قصيرة أن تفيه حقّه
السجالي، لأن النقاش مطالبٌ ليس فقط بتقديم أوراق وقراءة شهادات (وهذا ما
حصل في
اليوم الأول على الأقلّ)، بل بإثارة جدل حقيقي حول كل ما يمتّ بصلة إلى
المدينة
وثقافتها وحراكها السياسي والاقتصادي. ولا يكفي أن «نرى بيروت من زوايا
متعدّدة في
التاريخ والتيمات» وأن «نراها بعيون بيروتية لبنانية وحبّها لها، وربما
عتبها
عليها»؛ كما قال سيف، لأن الراهن اللبناني والعربي محتاجٌ إلى
تحليل يطال التفاصيل
كلّها، بعيداً عن فذلكة الأدب في صوغ الشهادة، وقريباً من العلم وقدراته
على رؤية
أوضح ومقاربة أعمق ومناقشة سليمة.
إذ حملت الجلستان الأولى والثانية بعد ظهر
أمس عنوانين مرتبطين بالزمن والتاريخ («صعود بيروت في القرن
التاسع عشر» و«بيروت
رائدة النهضة العربية الحديثة»)، فإن العناوين الأخرى يُفترض بها أن تناقش
بيروت
كمنارة للحريات في المشرق المعاصر، وعلاقتها بالحريات الدينية والتعليمية
وحقوق
الإنسان والطباعة والنشر والصحافة والآداب والفنون والترجمة،
وصولاً إلى موقعها في
الوجدانين العربي والأوروبي وإلى «بيروت، الوجه الآخر»، في حين أن الجلسة
الختامية
تحمل عنواناً/ سؤالاً: «أي مستقبل لبيروت الحرية والمعرفة في الأزمنة
الجديدة؟».
هذه كلّها مشتملة على الموقع التاريخي والمكانة الثقافية والحيّز الجغرافي
الذي
اكتسبته بيروت، وعلى النبض الحيوي الذي عرفته المدينة تاريخياً، وعلى اللغة
التي
صنعت إبداعاً وذاكرة.
إلى جانب الندوات، افتُتح معرض «الطباعة في لبنان: عمّال
وحروف»، وقد بدا منسجماً والدور الريادي للمدينة في المجالين العمّالي
والطباعي،
لأنه اشتمل على الأدوات القديمة جداً في طباعة الكتب والصحف،
وعلى ملصقات قدّمت
نسخاً من صفحات مطبوعة بالطرائق القديمة تضمّنت نصوصاً دينية وأدبية
وبيانات أساسية
لنقابة عمّال المطابع، وصُوَراً لعمّال وقادة نقابيين وحركات عمّالية
مطالبة بحقوق
الكادحين. أما الجلسة الأولى فأدارها الزميل طلال سلمان،
القائل إن «المدينة التي
فيها يُصنع الأبطال وتتصدر المقاومة إذا جاءها العدو غازياً فتحترق ولا
ترفع
الأعلام البيضاء (...) تنهل من الثقافة بقدر ما تعطيها، وتنفتح على العالم
لكنها لا
تغيّر قلبها أو وجهها، حتى لو أبدع كتابها بلغات غير لغتهم
الأم»، وقد انسحبت على
الماضي العريق لبيروت، من خلال مداخلات نبيل بيهم، الذي اختزل قراءته
بالبحث في
الغليان الثقافي والفني، والأب كرم رزق (تغيّب بسبب وجوده في الخارج، وناب
عنه
مروان أبو فاضل) الذي استعاد دور جبل لبنان في تحوّل بيروت
وانطلاقها في القرن
التاسع عشر، وأنطوان الدويهي، الذي قال إن لبنان متّسم «بخصوصية ثقافية
فريدة»،
وإنه «مكان الحرية الأوحد في المشرق» وإنه «يملك ثقافة الحرية ونمط عيشها».
وألكسندر نجّار، الذي قدّم شهادة عن بيروت
والحرية. في حين أن مداخلات الجلسة
الثانية، التي أدارها باسكال مونان، كشفت التمازج الثقافي العربي اللبناني،
من خلال
مشاركة شربل داغر (بيروت والصندوق والندوة) وفاطمة ناعوت (دور وادي النيل
بموازاة
بيروت في حركة النهضة العربية) وهيام ملاّط (دور اللبنانيين في
الحركة الدستورية
والفكر القانوني في السلطنة العثمانية)، بالإضافة إلى شهادة إيميلي نصرالله
بعنوان «بيروت أمي بالتبنّي».
السفير اللبنانية في
06/11/2009 |