ايطاليا...
درسٌ جديد في فنّ الوثائقي يأتينا به المخرج الاميركي المعلّم
فريديريك وايزمان (قريباً 80 عاماً)، في فيلمه "الرقصة"، واضعاً كاميراته
هذه المرة
في داخل مؤسسة فرنسية هي أوبرا باريس. مَن يعرف جيداً سجلّ صاحب "تيتيكات
فوليز"،
يعرف إلمامه وشغفه بتأريخ قصة بلاد (هي أميركا) من خلال
مؤسساتها. اليوم، وللمرة
الثانية في تاريخه المهني، ينتقل الى العاصمة الفرنسية (كان قد صوّر فيها
فيلماً عن
الأكاديمية الفرنسية)، ليكتشف ونكتشف معه آلية عمل مدرسة رقص عريقة. يقدم
وايزمان
على التقاط يوميات الراقصات والراقصين، تمارينهم المتكررة
وشؤونهم الصغيرة
والكبيرة، من دون أن يكون له همّ الشرح والفضح والتأكيد. وجهة نظره الأثيرة
تنتج
شعراً، لغته الاجساد والحركة. من الطبقية الى الأمور النقابية، مروراً
بالاجتماعات
مع وفد أميركي (ذروة الفيلم)، يبقى وايزمان مخلصاً حتى اللقطة الأخيرة
لمبادئه
السينمائية: لا مقابلات، لا موسيقى اضافية، لا تعليق صوتياً.
الأهم، ذهابه من دون
أفكار مسبقة الى موقع التصوير. اذاً، يتجسد الفيلم أمام أعيننا. ولهذا
الجسد
المتجسد كرمز للجمال الانساني، مكانة بارزة في الفيلم، لكن وايزمان لا
يتغاضى عن
مسائل أخرى يتشكل منها عمله المتقن، مثل انتقال الارث من جيل
الى آخر، العذاب
الجسدي أو الصمود أمام شيخوخة الجسد. يلتقط وايزمان الجسد في شتى تجلياته،
واضعاً
وجهاً لوجه الحركة الدائمة والمتكررة للتمارين، بلقطات بانورامية لجسد
المكان. في
ايلول الفائت، كان العرض العالمي الأول لـ"الرقصة" في مهرجان البندقية،
وكانت
الفرصة المناسبة للقاء آخر عباقرة السينما الوثائقية، علماً اننا كنا قد
حاورناه
سابقاً عن مجمل اعماله في الجزيرة الايطالية عندما كان عضواً
في لجنة تحكيم أحد
الاقسام.
·
كون الفيلم عن الرقص، والباليه
تحديداً، نرى فيه اذاً الكثير من الاجساد. هناك
مواجهة ايضاً بين جسدين، واحد عجوز والثاني فتيّ.
-
من الأشياء التي تثير
اهتمامي - فضلاً عن المشهدية البديعة للوحات الراقصة - واقع ان
الرقص فنّ عابر. في
لحظة يكون ثم يختفي. من اجل ان يتحول المرء راقصاً هناك طريق مملوءة
بالمشقات
والعذابات. في البدء هناك ما يسمى التمارين. تبدأ الراقصة حياتها المهنية
في عمر
السابعة وتعمل بتكثيف حتى نهاية مسارها وتقاعدها. لا راقصة
تستطيع العمل ما بعد
الاربعين. وهذا اجمل ما في الموضوع: ان يتعرض اجمل ما فيك للزوال.
·
جرياً على
عادتك، هل اكتشفت كواليس الباليه اثناء التصوير، الا تزال تذهب
الى التقاط المشاهد
بأقل قدر من الاطلاع على المادة التي تريد كتابتها بكاميراتك؟
- (باستهجان) نعم،
هذه عادة لا أغيّرها. قبل البدء بالتصوير، اتفرغ يوماً لأراقب. وفي معظم
الأحيان
أكون مشاهداً في الكواليس. سبق ان قلت لك: بالنسبة اليَّ، التصوير هو عملية
تقصي
المعلومات. خلال الاسابيع التي يستغرقها التصوير، أجمع عدداً من الحوادث
المهمة ولا
يكون عندي ادنى فكرة كيف سأعيد ترتيبها ووفق اي سيرورة. الاكتشاف الاكبر
للفيلم
يكون اثناء التوليف. هذه هي طريقتي في العمل ولن اغيّرها.
·
ما الذي يدفعك
للذهاب الى مكان وأنت تجهل كل شيء عنه؟
-
انا رجل صاحب فضول. وكان عندي فضول
حيال ما هو عليه الرقص والكوريغرافيا. انا فضولي في كثير من
مظاهر العيش الانساني.
ارى الحياة غريبة واريد ان اعرف اسرار غموضها بقدر المستطاع.
·
الفضول هو طريقك
الى المعرفة والاطلاع.
-
نعم، نعم، نعم...
·
ا ... علما ان هذا المكان
(كواليس
تمارين الباليه) سبق لك ان كنت فيه عندما انجزت فيلماً عن المسرح الأميركي
للباليه!
-
نعم، لكن كان ذلك شيئاً مختلفاً تماماً. حسناً، لم يكن على قدر
كبير
من الاختلاف، لأن ثمة ايضاً راقصات كبيرات فيه، لكن البنية كانت مختلفة.
اوبرا
باريس عمرها قرون. فضلاً عن أن الأسلوب في الرقص بين المكانين هو حتماً
مختلف،
فأوبرا باريس تتلقى دعماً مالياً من الدولة، خلافاً للأوبرا في
اميركا حيث لا
مساعدة رسمية وحيث الارتكاز هو على العائدات من بيع البطاقات. ثم ان المسرح
الاميركي للباليه لا يملك مدرسته الخاصة بل تتعلم راقصاته الرقص في انكلترا.
الاوبرا الباريسية تحظى بموازنة جديرة بمدينة صغيرة في فرنسا، ومستقبلها
مضمون على
الاقل للموسمين المقبلين. أما في الولايات المتحدة، فعلى المدير أن يتدبر
أمره
لإيجاد المال، وانطلاقاً من هذا الواقع من الطبيعي أن تتغير العلاقة بين
الادارة
والراقصين.
·
كيف تتوصل الى تصوير أفلام
الواحد مختلف عن الآخر، مستخدماً دائماً
اسلوب العمل نفسه؟
-
لأن المواضيع مختلفة والأنماط مختلفة والمونتاج مختلف.
مثلاً في "مشرّع الولاية"، صوّرت جنرالاً،
فكان التركيز على الكلمات، ولم يكن هناك
الكثير من الحركة في الكادر. الباليه هو عكس ذلك. الكلمات في
فيلمي الجديد لا تعني
الكثير، لأنها ممثلة عبر الاجساد. اما في أحد أفلامي السابقة، مثل "حديقة
الحيوانات"، فالمونتاج سريع الإيقاع لأن الحيوانات لا تتكلم الانكليزية.
وفي حالة
مماثلة، تفقد الكلمات قيمتها. الاسلوب عندي يتبع الوضع.
·
كم استغرق
التصوير؟
- 12
اسبوعاً. اما المونتاج فتطلب عاماً كاملاً من العمل.
·
وكم
"عشت" مع الفكرة قبل تجسيدها على الشاشة؟
-
بدأت الفكرة تنمو في رأسي في ربيع
2007، وعندما اعطت اوبرا باريس الضوء الأخضر للانطلاق،
في الخريف التالي، كنت قد
بدأت بالتصوير.
·
كم يلزمك من الوقت عادة للإنتقال
من الفكرة الى تنفيذها، وهل
أنت في حاجة الى فترة تأمل طويلة؟
-
هذا يتوقف على طبيعة المشروع. عادةً يستغرق
الامر بضعة أشهر كي أجد التمويل. التأمل عندي يجري خلال التوليف. لا أجد
متسعاً من
الوقت كي أفكر في التصوير. المسألة بسيطة: لا أستطيع أن أفكر
في حوادث أجهلها، اذ
لا أعرف مسبقاً ماذا يحصل. طبعاً في ما يتعلق بـ"الرقصة"، لم أكن أجهل أنني
سأصوّر
تمارين رقصة الباليه، لكن هذا لا شيء (هذه ليست معلومة ذات أهمية) لأن
المهم هو
ماذا يحصل خلال هذه التمارين، وليس الإطار العام.
·
في أي لحظة من صناعة الفيلم
تدرك التيمات الاساسية التي تركز عليها الفيلم في المحصلة؟
-
أكرر، يكون ذلك
أثناء المونتاج. عندي أن المونتاج ليس أكثر من إمكان درس الـ"راشز" (المادة
المصوّرة). والـ"راشز" عندي ليس سوى ملاحظات يأخذها مَن يعمل في مكتبة
ويريد أن
يؤلف كتاباً انطلاقاً من أبحاثه. الفرق الوحيد بيني وبينه، أنني لا أملك
أطروحة
استند اليها. أنا أجد فيلمي في الـ"راشز". أرقّم المشاهد من
نجمة الى ثلاث نجوم،
كما في دليل "ميشلان" للمطاعم، وبذلك ألغي من الحساب نحواً من 70 في المئة
من
المادة المصورة. المونتاج الاولي يستغرق عندي ستة أشهر تقريباً.
لا أذهب الى
التصوير بأفكار مسبقة مكوّنة من خلال ما قرأته هنا وهناك. أذهب مجرداً
وأعزل. هناك
تبدأ المغامرة. نظريتي بسيطة: لا أعرف شيئاً عن مكان لم أكن فيه. البعض
يعرف نهاية
قصته قبل أن يبدأ بها. لا أعمل بهذه الطريقة. كل فيلم عندي هو
نتيجة لدراسة المادة
المصوّرة. أكره الأفكار الجاهزة كرهاً شديداً. ثم أنني أغوص في تفاصيل ما
اصوّره
مستخدماً عينيّ واذنيّ الكبيرتين. تتوقف النتيجة النهائية على ما تعلمته
وعشته
أثناء التصوير. الشيء الثاني الذي أكرهه هو الشرح. الجمال لا
يحتاج الى تفسير؛ يكفي
أن تبيّنه. في فيلم كهذا يتعامل مع جماليات، تجنبت ايضاً ان اقارب موضوعات
عدة،
خشية أن أقع في السطحية. فكلما زادت اهتمامات الفيلم زاد معه احتمال وقوعه
في
التسطيح.
·
مرةً أخرى أنت تعرّي مؤسسة...
-
أعتقد أنني أفعل ذلك، لكن ليس
بالمعنى السلبي، لأنني أكنّ الكثير من الإحترام لهذه المؤسسة.
في الأخير، كل مؤسسة
هي صورة مصغرة عن الدولة التي تعيش فيها. كما تعلم، سبق أن صوّرتُ فيلماً
عن المسرح
الاميركي للباليه. الآن اصوّر الباليه في فرنسا. الاختلاف في البلدين بدا
عبر
المؤسستين. كيف؟ في الولايات المتحدة مثلاً، عندما احتجت الى
اذن للتصوير في
المسرح، جمعنا كل الراقصين وقمنا بتصويت جماعي. أما من أجل الحصول على اذن
للدخول
الى الاوبرا، فكان علينا أن نأخذ في الاعتبار أولاً أصوات الجسد الذي يتألف
منه
راقصو الباليه، ثانياً الراقصون المبتدئون، وأخيراً ما يطلق
عليهم تسمية "نجوم
الباليه". هذا من شأنه أن يرينا مكانة الطبقية في المؤسسات الفرنسية.
لم أكن
أنوي من خلال هذا الفيلم ان أُري التمارين الشاقة فحسب، انما ايضاً كيف على
مؤسسة
كهذه ان تنظم نفسها لتقدم مثل هذه الروائع التي تقدمها على
خشبتها. عندما انجزت
فيلمي عن المسرح الاميركي للباليه، ادركت معاناة الراقصات. هذا شيء رأيته
بأمّ
عينيّ. مرة اخرى هنا صُعقت بمدى تشبث الراقصات بإعطاء افضل ما يملكن. هؤلاء
الفتيات
يحضرن الصف صباحاً، ويتمرنّ بعد الظهر، وغالباً ما تراهن يعتلين الخشبة
مساء لتقديم
لوحة راقصة. لا اذكر الرقم تحديداً، لكن اعتقد ان الاوبرا تقدم نحو 225
عرضاً في
السنة. تحتضن المؤسسة 150 راقصة. ادهشني دوماً انخراطهن في هذا
الهمّ، همّ الرقص،
وسعيهن لمنح افضل ما يملكنه، وأخذهن للأمور على محمل الجد، علماً ان
التمارين هي
شيء في منتهى الصعوبة، ولا اتكلم عن الصعوبة الجسمانية فقط انما الصعوبة
المعنوية
المتأتية من فعل التركيز، الذي ينبغي تعلمه في سن مبكرة. انه
نوع من تربية. أدهشني
الانضباط الذي هنّ عليه. هذه التربية التي يتلقاها
الراقصون الكلاسيكيون هي أشبه
بالتربية المتبعة في مدارس القرن التاسع عشر. وعندما يكون
الاساس متيناً، فهذا يمنح
إمكان أن نحاول الشيء الى أبد الابدين. اتساءل اذا كان من الممكن تطبيق هذا
النظام
على الطلاب، على كل طالب (...).
·
اللافت ان ما نتلقاه نحن كفنّ
ليس بالنسبة
اليهم الا عملاً روتينياً متكرراً.
-
نعم، لكنهم يدخلون في هذا الروتين في سنّ
مبكرة.
·
كم ساعة من الـ"راشز" كان لديك
قبل دخولك غرفة المونتاج؟
- 140
ساعة.
·
هذا كثير!
-
نعم، تخطينا قليلاً المعدل. عادةً، اصوّر 100 ساعة.
السبب هو أنني كنت اصوّر تمارين. كل تمرين
يستغرق بين الساعة والساعة ونصف الساعة،
وينبغي تصويرها كلها. وحتى اذا لم نستعمل في النهاية الا 3
دقائق.
·
كعادتك، لا
تتبع سياقاً كرونولوجياً؟
-
نعم، لكن ليس الى درجة اظهار العرض قبل اظهار
التمارين (ضحك). حتى هم لا يتبعون ترتيباً كرونولوجياً. في رأيي، هناك قيمة
اخرى
مهمة جداً في الفيلم وهي انني افكر جداً في بنية العمل؛ سواء
شملت ترتيب المشاهد او
ايقاعها. كل اللقطات التي تراها في الفيلم هي اطول في الحقيقة.
·
لكن، على رغم
إيجازك، فإننا نلمس الزمن السينمائي. أنت تدعنا نلمس الزمن. في
سينماك نلمس دائماً
الزمن.
-
في فنّ الرقص الزمن شيء في منتهى الأهمية. في المواضيع الاخرى
يمكننا
ان نقطع كيفما شئنا، أو تقريباً، اما هنا فالمسألة حساسة جداً.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
أمس كان تكريمه واليوم عرض فيلمه الوحيد الناجي من
الحرق
كريستيان غازي مهنتُه سينمائي مضطهَد
القلق كان ولا يزال هو الشيء الذي يهجس به كريستيان غازي
ويحضّ عليه محرّكاً وحافزاً. لا أعرف ما اذا كان لفنان أو لسينمائي أن يصمد
هذا
الصمود كله، لو تعرّض لربع ما تعرّض له غازي خلال سنوات حياته
المأسوية، إن على
المستوى الشخصي أو المهني. باستثناء فيلم واحد هو "مئة وجه ليوم واحد"1969،
فأفلامه
لاقت مصيراً استثنائياً غير مسبوق: الحرق. لم يحصل الحرق بقذيفة طائشة بل
كان
مقصوداً ومخطَّطاً له على يد السلطة والميليشيات التي كانت تضع في مرصادها
كل من
يملك رأياً مخالفاً لرأيها ومعتقداتها. غازي يقول انه صنع طوال
مساره ما يقارب
الـ45 فيلماً، ولا يملك اجازة لعرض أيٍّ من هذه الأفلام.
احد فصول الصدام
الاول كان عندما ألقى غازي نظرة مختلفة على الواقع اللبناني، بعيداً من
النظام
الترويجي البدائي الذي كانت الدولة تسعى خلفه من خلال "تلفزيون لبنان
والمشرق" لجذب
السياح الى بلاد الأرز. وتلقى العقاب لكونه طرح نظرته المستهجنة عن واقع
فقراء
المزارعين في لبنان مجابهاً اياهم بأثرياء يرتادون الكازينو
لتبذير أموالهم. وزارة
السياحة لم تتقبل فكرة ان يضع المخرج صوت الابقار مع صورة مرتادي الكازينو
والعكس.
النتيجة: اثنا عشر فيلماً وثائقياً عن
السياحة في لبنان كان نصيبها ان تتحول رماداً
بأمر من "المكتب الثاني".
اما الفصل الثاني من مأساته، فكان اقتحام احدى
الميليشيات (لن نسميها لكنها معروفة، وهي اليوم في ما يسمّى
"المعارضة")، مكان
اقامته وتدمير كل اعماله، بما فيها مقتنياته الشخصية. "كانوا يبحثون عن
تدفئة.
فاحتلوا منزلي وحرقوا نيغاتيف أفلامي
وتدفأوا بها". وعندما رفع غازي دعوى ضد اعضاء
التنظيم الميليشيوي، رد عليه المسؤول القضائي، قائلاً "هل تريد
الشكوى ضد هذين
الشخصين؟"، قبل ان يسارع الى تمزيق طلب الدعوى.
ما نجا من تلك المأساة ("مئة
وجه ليوم واحد") تحوّل بياناً تأسيسياً للسينما البديلة
اللبنانية، في أواخر
الستينات من القرن الماضي. الهدف الاساسي منه كان توجيه السهام الى الكوادر
البورجوازية الصغيرة في المنظمات الحزبية. "في هذا الفيلم أهاجم طبقة
المفكرين
البورجوازيين وخطر هذه الطبقة لأنها تتخذ قرارات ومبادرات تذهب
بحياة الكثيرين
بينما هم في بيوتهم مرتاحون. يقررون حياة الآخرين بحسب مزاجهم. وُجِّهت
إليّ
الانتقادات بعد عرض الفيلم بأني لا أصنع الوثائقي المتعارف عليه، وهذا أمر
يحزنني.
اعمالي تشبهني وليس لها ان تشبه الآخرين.
لكن الحوار في لبنان ليس موجوداً على كل
المستويات وفي كل الميادين. الناس هنا في مونولوغات دائمة ثم
يصمتون ولا يسمعون
البتة الطرف الآخر. لم يتعلم اللبنانيون بعد ماهية الحوار. الحوار في "مئة
وجه ليوم
واحد" هو مع المشاهد. حاولت ان أكون في تفاعل دائم مع المشاهد من خلال
الموسيقى
والشريط الصوتي كي لا يرتاح وكي يبقى يقظاً.
ما كان يهمني هو الشكل الذي يخدم
المضمون وينسجم معه، إن في لغة الصوت او في لغة الصورة. اردت
قول شيء، وخصوصاً حول
علاقة الصوت بالصورة. تعمدت ان يكون الشريط الصوتي مزعجاً والعنف الذي
يحويه الفيلم
موجوداً في الحوارات".
حمل غازي شهادة دكتوراه في الموسيقى. لكن الكتاب والشعر
المكتوب بالفرنسية كان مدخله الى السينما التي لم يدرسها أكاديمياً. اعتنق
هذا الفن
حينما ادرك انه في حاجة الى لغة تعبير اكثر كمالاً. حتى المسرح
لم يره كافياً
لمخزونه الفكري والثقافي. كانت ظروف صنع الفيلم اللبناني انذاك لا تختلف في
شيء عن
ظروف صناعته اليوم. على رغم تأثيرات شتى من هنا وهناك، بدا غازي فاقداً
للمرجعية
السينمائية، علماً انه كان يقدّر عدداً من المخرجين المعروفين
آنذاك، في مقدمهم
كريس ماركر الذي ربطته به صداقة ونظرة متقاربة الى السينما.
كان غازي سينمائياً
طليعياً وسابقاً لزمنه، لكن مع تراكم الخيبات، انسحب هذا المضطهَد من
الحياة
المهنية، فظلّت مقاهي شارع الحمراء هامش تحركه الضيق وملاذه ("لا أدعها
تعتب عليّ،
الفّ الحمراء بأكملها يومياً عشرات المرات الى أن أتعب"). انسحب "ناسك
الحمراء"
اذاً الى الصمت والتأمل، وكان من يحادثه يلمس عنده قرفاً واحتجاجاً واضحين
حيال
الجهل والتصنع والسطحية التي آل اليها عصره. هو المنخرط في
الستينات والأفكار
النضالية التي سعت الى تغيير العالم، أجبر على "معاشرة" زمن الأفكار
الاستهلاكية
والرأسمالية وكل ما حارب ضده في أفلامه التي لم يبق منها شيء. انه من جيل
كانت
الأفكار محركه. ولم يكن رواد تلك المرحلة تهمّهم حركة
الترافيلينغ ونسيج الصورة
بقدر ما كانوا يعتنون بالخطاب الضمني الذي ينوون إمراره في اعمالهم
والملتصق دائماً
بالقضايا الكبرى، وغالباً ما كانت متمحورة على حلم استرجاع فلسطين.
ظلّ غازي
يشعر بالغربة في بلده وبين ناسه. وعلى رغم انه كان مصنفاً، الا ان سينماه
هي أبعد
ما تكون من لعبة التصنيفات. يكفي مشاهدة "مئة وجه ليوم واحد" لإدراك تأثير
"الموجة
الجديدة" في وجدانه السينمائي، وأوجه الشبه بين أفلام تلك المرحلة وهذه
الجوهرة
السينمائية التي لم تُفهم انذاك، ولا تزال الى اليوم تتضمن
قدراً من الغموض. أما
تأثير "الموجة" فملحوظ بدءاً من استخدام هذا الوسيط الفني كلغة تخاطب بين
ذات
المخرج وذات الفيلم، وصولاً الى التقنية المستحدثة في استخدام الصوت بمعزل
عن
الصورة أو بالتفاوت بينهما. للأسف، شأنه شأن معظم السينمائيين
اللبنانيين (بغدادي،
الشهال، علوية...)، ظلت تجربته غير مكتملة. مع هذا كله، ظل يؤمن بأن
الاحساس أهم
عنصر للقيام بأي شيء.
()
يعرض فيلم "مئة وجه ليوم واحد" اليوم الساعة الثامنة مساءً في
مسرح بيروت (عين المريسة).
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
05/11/2009 |