لا
يمتلك السينمائي الموهوب بندقية أو مدفعاً،
ولكنه يمتلك
ما هو أقوي وأكثر تأثيراً.
لديه خيال بلا حدود،
وممثلون كبار يجسدون أدوارهم،
وإمكانيات صورة مذهلة، وشريط صوت مؤثر، وقبل كل ذلك رؤية تحدد موقفه
كوينتين
تارانتينو في فيلمه المهم Inglorious Bostards أن يدين
هتلر والنازية
بطريقة مختلفة ومبتكرة، فقدم في الفيلم الذي عرض في الصالات المصرية تحت
اسم
المحاربون الشرسون
رؤية خيالية لعملية اغتيال لهتلر وقواده في نهاية الحرب
العالمية الثانية.
هتلر
كما نعرف مات منتحراً
في مخبئه في
برلين، ولكنه في فيلم تارانتينو الممتع يموت بالرصاص أثناء مشاهدته لفيلم
دعائي روائي يمجد بطولات أحد جنوده، ثم تنفجر صالة العرض نفسها بالديناميت،
ويشعل عامل العرض النار في شرائط الأفلام القابلة للاشتعال.
النهاية لا تنسي
ومدهشة ولم تحدث بالطبع في الواقع ولكنها السينما تنتقم يا عزيزي
مجازاً ومن
خلال الحكاية الخيالية من زعيم النازية وقواده.
ولكننا لو اختزلنا الفيلم
في مجرد كلمات عن حكاية
تشويقية لمحاولة بعض الأفراد من جنسيات مختلفة لكان
عملاً عادياً
وبسيطاً، ولكن المحاربون الشرسون وهي بالمناسبة ترجمة غير
جيدة لعنوان الفيلم عمل مركب ثم نسخ أحداثه وكتابة لوحاته أو
فصوله المتتالية
ببراعة، السرد هنا ليس تقليدياً بالمرة ولكنه يعتمد علي المشاهد الطويلة التي
تمتاز بالحوار البارع، وبالبناء القوي لكل مشهد بما يجعله أقرب إلي فيلم
قصير
يمكن تدريسه لطلاب معهد السينما،
وكل مشهد طويل يبني مساحة في حائط الفيلم
وصولاً إلي اغتيال
هتلر، وكل مشهد أو فصل له عنوان علي طريقة عناوين السينما
الصامتة، بل إن لأول لوحة تقول علي طريقة الحواديث
كان يا ما كان..
ففرنسا
عندما كانت تحت الاحتلال النازي عام 1941
الذين اعتادوا الطريقة التقليدية في
السرد، والإيقاع السريع للأفلام الأمريكية يحتاجون إلي أن يصبروا ليستمتعوا
ولن
يندموا علي الإطلاق.
هناك أربع شخصيات أساسية ستدير الأحداث،
وسيتم
تقديمها في مشاهد طويلة تمثل أعمدة السيناريو الذي كتبه تارانتينو
الذي عرفناه
كمخرج مختلف في أفلام مثل كلاب المستودع وقصص رخيصة
وأقتل بيل في كل هذه
الأعمال ستجد تجسيداً للعنف، كما ستجد تأثراً بأفلام سابقة، وتحية خاصة
يقدمها لأعمال سينمائية تحبها،
ويمكن أن تعتبر المحاربون الشرسون تحية عامة
للسينما التي تستطيع
بالخيال أن تقهر أعداء الإنسانية، أما
الشخصيات الأربع
فهي ضابط النخبة الألمانية (فرق العاصفة) الكولونيل هانز لاندا وهو رجل
شديد
الذكاء اختاره هتلر ليأتي من النمسا إلي فرنسا لاصطياد اليهود، والشخصية
الثانية هو الضابط الأمريكي الشرس
ألدورين الذي يكون فريقاً من ثمانية من
الجنود اليهود الأمريكيين الذين يتسللون إلي فرنسا للتنكيل بالنازيين، إنهم
يتبعون أسلوب الهنود الحمر الأباشي في القتل ثم نزع
فروة الرأس، وهؤلاء
يزعجون هتلر شخصياً في مقره الرسمي، والشخصية الثالثة هي الفتاة اليهودية
شوشانة التي نجت من مجزرة ارتكبها الكولونيل
هانزلاندا وجنوده ضد اسرتها
المختبئتين عند أحد مربي الأبقار.
شوشانة تمتلك داراً
للعرض بعد أربع سنوات من المجزرة وتلتقي
صدفة مع ضابط ألماني شاب،
هو فردريك
اعتبروه بطلاً لقتله عشرات
الأعداء، وجعلوه بطلاً سينمائياً يجسد ما فعله في فيلم عنوانه مفخرة الوطن
وعندما يحضر هتلر وكبار النازيين العرض، تكون الفرصة متاحة
لشوشانة التي اطلقت
علي نفسها اسم إيمانويل لكي تدمر قاعة العرض،
وتشعل النيران في 350
فيلماً تمتلكها، وتبقي الشخصية الرابعة وهي الممثلة الألمانية بريجيت فون
هامرزمارك التي تساعد في العملية فتدفع
حياتها ثمناً
لذلك.
البناء
يتم علي مهل، ولا تكتمل الصورة لدي المتفرج إلا في اللقطات الأخيرة، ولا
تجتمع
هذه الشخصيات إلا في الفصل الأخير، وكل فصل يبدأ هادئاً ثم يتصاعد إلي ذروة
تجعلك في حالة استنفار،
وكأن تارانتينو عاشق الأفلام قد صنع ستة أو سبعة أفلام
تشويقية قصيرة، في الفصل الأول مثلاً تبدأ الأحداث بمربي الأبقار الفرنسي
لاباديت مع بناته الثلاث، ويدخل إليه الكولونيل لاندا،
وبعد حوار طويل
بالفرنسية والإنجليزية نعرف أنه يبحث عن أسرة درايفوس
اليهودية، وفجأة تهبط
الكاميرا إلي أسفل لنجد أفراد الأسرة أسفل الأخشاب التي يجلس فوقها
لاندا
ولاباديت ويبكي رب الأسرة الفرنسي وهو
يعترف بسهولة للكولونيل الذكي الذي
يستدعي جنوده فيقتلون المختبئين في حين تفر شاوشانة من المكان.
كل فصل
يبدأ هادئًا ويتصاعد في كريشندو محسوب،
وكل فصل يرتبط عضويًا بالفصول
اللاحقة، وهناك لحظات تشويق مستمرة في كل فصل، في أحد المشاهد مثلاً
نبدأ
بالممثلة الألمانية بريجيت التي تعمل مع الحلفاء وهي تلعب في قبو مع بعض
الجنود
الألمان، وتحتفل معهم بقدوم طفل لأحد زملائهم،
ويتطور المشهد بدخول ثلاثة من
جنود الحلفاء مرتدين الزي العسكري الألماني، تنضم الممثلة إليهم،
وفجأة يظهر
أحد رجال الجستابو الذي يشك في اللكنة التي يتكلم بها أحدهم اللغة الألمانية،
ويتطور المشهد إلي معركةبالرصاص
يُقتل فيها جنود الحلفاء، وتصاب فيها الممثلة
في ساقها، ويصل ألدورين لإنقاذها،
وقتل الجندي الألماني الذي كان
يحتفل
بمولد طفله الأول.
التفاصيل والحوارات الذكية ليست الشيء الوحيد الذي
سيجعلك تصبر علي المشاهدة، هناك أيضًا المعالجة الذكية التي تمزج ببراعة بين
شخصيات حقيقية مثل هتلر وجوبلز وجورنج واميل ياننجز، وبين شخصيات
الفيلم الخيالية، هناك كذلك تطوير عملية الانتقام من مجموعة من الجنود
الأمريكيين
اليهود الذين ينتقمون بشراسة مما فعله
هتلر والنازيون في أهلهم وذويهم، إلي
عملية مشتركة يشترك فيها فرنسيون مثل شوشانة
وعامل العرض الأسود
مارسيل،
وإنجليز مثل الناقد السينمائي هيوهوكس الذي
يلقي مصرعه في القبو، ووجوده
تحية واضحة للسينما حيث لم يكتف هذا الناقد بتأليف الكتب عن سينما العشرينيات
الألمانية، وعن المخرج الألماني بابست
ولكنه أصبح جنديًا
يشترك في محاولة
لاغتيال هتلر بل إن دائرة الانتقام تتسع لتشترك فيها الممثلة الألمانية
بريجيت، وتدفع حياتها ثمنًا لذلك،
وفي كثير من المشاهد تلمس إعجاب
تارانتينو بالسينما وبمبدعيها، بل إنه
يقدم تحية لصناع الأفلام الألمان مثل
الراحلة ليني ريڤينشتال المخرجة والممثلة الشهيرة،
واختيار قاعة عرض سينمائي
لاغتيال هتلر يحمل معني واضحًا وتحته مقصورة للفن السابع خاصة أن احتراق
الأفلام
سيتحول إلي عمل مفيد بتخليص العالم من الديكتاتور الذي أشعل كل
هذه الحروب.
ولكن هذا النبأ لا يخلو من ثغرة واضحة هي موقف الكولونيل
لاندا
المفاجئ بالتعاون مع فريق الانتقام، ومحاولته لقتل الفوهرر في مقابل أن
يسلِّم
نفسه للأمريكيين، ويحصل علي مساحات من الأرض في إحدي الجزر، لأبناء الشخصية
والطريقة المدهشة التي كان
يكتشف بها المؤامرات يمكن أن تنتهي بالكولونيل إلي
هذا التراجع المفاجئ،
وقبل هذا المشهد الأخير كنا أمام ضابط شديد الذكاء والإيمان
بما يفعله،
ولذلك كله بدا هذا التحول غير مقنع بالمرة، ولكن اكتمال عملية
الاغتيال، وتدمير قاعة العرض علي رءوس النازيين استرد
للفيلم قوته وتأثيره.
تارانتينو كمخرج نجح في إدارة ممثليه المبدعين خاصة
براد بيت
وكريستوف والتر ، ونجح في إعادة خلق أجواء سنوات الأربعينيات العاصفة، كما
أعطي لنفسه حرية واسعة في السرد وفي التعليق علي بعض الأمور مثل قابلية
الأفلام
للاشتعال بسبب استخدام النترات،
شريط الصوت أيضًا كان حافلاً
بالموسيقي
والأغنيات المناسبة فجاء العمل مختلفًا،
ووصل المعني الجميل:
العين بالعين
والسن بالسن، والجرائم ضد الإنسان لا تسقط،
مات هتلر ولكن عاشت السينما،
وعاش الخيال والفن!
روز اليوسف اليومية في
03/11/2009 |