يبدو من طريقة بعض الأفلام القصيرة في طريقة «تسللها» إلى بعض المهرجانات
الخاصة
بها، وكأن ثمة جناية فنية ترتكب هنا، وهي في الوقت نفسه
إشكالية معقدة تتعلق بالنوع
نفسه، وبهوية صانعيه. فقد تبين مع الخبرة والتجربة، أن فيلماً من خمس عشرة
دقيقة
يمكن أن يؤمّن لصاحبه «سياحة وسفراً» لأكثر من خمسة مهرجانات في العام، فإن
كان
يجيد عملية المراسلات الالكترونية مع انفجار الشبكة العنكبوتية،
فإن صاحب الفيلم
القصير، ومهما ضؤل شأنه فنياً وتقنياً يمكن أن يؤمّن لنفسه زيارة عشرة
مهرجانات على
الأقل بفيلم قد لا تتعدى كلفة انتاجه حفنة قليلة من المال وبكاميرا رقمية
خفيفة
للغاية، وقد يكون الفيلم بأكمله مؤلفاً من كادر واحد رديء مغطى
بحوار مختلق عن واقع
غير موجود.
هذه الأفلام تشكل قصب السبق لأصحابها، وهذا ناشئ في بعض الأحيان عن سهولة
انتاجها والتصدي لأعبائها المالية، وسهولة تنقيلها، إذا ما
قورنت بالأفلام الطويلة
التي تشكل مغامرة لصانعيها لا يمكن الإقدام عليها إلا بعد استعدادات مضنية
وتحضيرات
مكثفة لا يتقنها عادة أهل الفيلم القصير وصناعه.
فيلم «رياح التغيير» لمخرجه الأردني حازم بيطار يروي حكاية فتاة ريفية
ساذجة
تعيش في إحدى قرى الريف الأردني، وتعمل في قطف البندورة، وبعض
الزراعات الخفيفة،
وتقوم بتحضيرها في السلال بغية نقلها من أجل تسويقها. ما يفاجئ في الفيلم
القصير (14
دقيقة) بالطبع ليس عادية القصة، بل الصوت الذي تم تسجيله في شكل سيئ
للغاية، ما
دفع المخرج بيطار إلى اعتماده (مؤثراً) وكحل تقني للمشكلة التي
كانت بحاجة إلى حلول
أخرى غير مضيّعة للوقت في محاولة فهم السبب الذي حدا بالمخرج بيطار
لاختياره هذا
الحل وتقديمه على أنه صيغة سمعية مؤثرة تكاد تطغى على الحوارات التي تدور
بين
الفتاة وأبيها المشلول، والذي يفهم منه أنه بحاجة ماسة الى
بقاء ابنته إلى جانبه
تدليلاً على أنانيته (ربما) وخضوعها الكامل له.
الحكاية لا تتطور بأي اتجاه، وما إقدام أحد شبان القرية على محاولة خطبة
الفتاة
إلا للخروج من مأزق السرد العقيم الذي انتهجه بيطار، وهو يؤكد
هنا استسهال خياراته
الفنية، إذ سرعان ما يقوم الأب المشلول بابتزاز ابنته عبر اثارة عواطفها
الطفولية
لترفض العريس، وليبقي عليها في البيت تسهر على خدمته، وتقضي وقتها الطويل
في قطف
البندورة والتراشق أحياناً بها مع أشقائها الصغار، والإصغاء
المضني لصوت الريح من
دون أن يكون لهذا الصوت أيما تأثير، خصوصاً إذا عرفنا، أو كان في وسعنا أن
نستنتج (أيضاً ربما) أن عنوان الفيلم لم يكن كذلك،
فـ «رياح التغيير» مستمدة من تأثير
الصوت السيئ الذي سجل أثناء التصوير نتيجة استخدام معدّات تقنية سيئة. وكان
على
المخرج المتعجل أن يهرب من هذه النتيجة إلى عنوان يشي بأن ثمة تغييرات تهب
هنا على
الفيلم. ولكن ما شاهدناه لا يتعدى وجود فتاة بكامل سذاجتها،
تقبع على حدود ربيعها
السادس عشر آمنة مطمئنة، وهي بالكاد يمكنها فهم نظرات الشاب الأسمر الذي
يقع في
غرامها، وهو في مثل سنّها تقريباً أو أكبر قليلاً. ولكن الابتزاز العاطفي
الذي
يمارسه الأب المقعد، وخضوع الفتاة له ليس عن قناعة برفض تزويج
الأحداث مثلاً، يقضي
على أي أمل بالتغيير الدرامي. اذ تظل الرياح تضرب بخشونة وضراوة في
مايكروفونات
الكاميرا الخفيفة، فتنتج من ذلك حشرجة صوتية لا تفيد الفتاة في شيء ولا
تعبر عن
عالمها الداخلي الهش والفقير، على الأقل كما بدا في الفيلم، إذ
سرعان ما تخضع للأب
من دون تفسير مقنع لحالتها النفسية والعاطفية، وتقرر أن تكون رهينته، فيما
هو يقبع
بدوره رهينة شلله ومرضه.
لا نعرف ما إذا كانت الصورة التي شاهدناها في الفيلم تعكس شيئاً من واقع
المجتمع
الأردني، خصوصاً أن لعبة المصالح هنا لا تبدو متبادلة، فخنوع
الفتاة واستسلامها
لرغبة أبيها غير مقنعين، وغير حاسمين، وترددها لا يوحي بأي تغيير إذا أخذنا
في
الاعتبار مصلحة الأب في الإبقاء على ابنته أسيرة نظرته التقليدية إلى
الأنثى أولاً
وشلله وقعوده النهائي ثانياً. فعن أي رياح تغيير يتحدث الفيلم،
وليس ثمة ما ينبئ
بقرب حدوث هبوب عاصف لها على المشهد الفقير!
تُظلم الأفلام القصيرة أحياناً كنموذج عندما يُتعرض لبعضها بهذه الطريقة،
خصوصاً
أن أفلاماً أخرى تعرض إلى جانبها في المهرجانات نفسها، يمكنها
أن تدّعي بشيء من
التواضع أن أصحابها يحملون فعلاً هموم الفيلم القصير وتحدياته التي لا
تنتهي.
الحياة اللندنية في
02/10/2009
مور وانحطاط الامبراطورية الأميركية
مونتريال - «الحياة»
تشهد صالات السينما الاميركية والكندية عرضاً اول لفيلم المخرج الاميركي
مايكل
مور الجديد «الرأسمالية قصة حب». ويسلط مور الضوء هنا على
الأوساط المالية في وول
ستريت (قلب الرأسمالية الاميركية) وعلى دورها «الشرير» في تفجير الأزمة
الاقتصادية
العالمية من خلال ممارساتها «المشبوهة» على ارض الواقع. وعلى رغم ان مور
يصوّب
كاميرته هذه المرة نحو الاقتصاد الاميركي فإنه لا يبتعد كثيراً
عن فيلمه السابق
«سايكو»
الذي يتحدث في بعض جوانيه عن تدني اجور المواطنين الاميركيين ومعاناتهم في
الحصول على رعاية صحية مضمونة، بمعنى ان العملين وان تباعدا زمنياً (نحو
ثلاث
سنوات) يسيران في اتجاه واحد ويبدوان متممين لبعضهما بعضاً و
وجهين لأزمة داخلية
اجتماعية - اقتصادية حادة اورثتها ادارة بوش السابقة للرئيس الحالي باراك
اوباما.
يستوحي الفيلم في بداية عرضه وضع الامبراطورية الرومانية إبان احتضارها
بعدما
شاخت وترهلت مفاصلها الحيوية. وقبل ان يطوف مور على امراض
اميركا الاجتماعية
والاقتصادية، يتوجه الى السياسيين الفاسدين القابعين في «كازينو وول ستريت
البعيد
عن المراقبة» والذين يستغلون الازمة المالية ليغتنوا على حساب الفقراء
والبائسين.
ثم يجول في احياء العاصمة واشنطن مسلطاً الضوء على بعض المشاهد المأسوية
كحال عائلة
تطرد من منزلها الذي بنته وعاشت فيه منذ 40 عاماً وصرخة المالك الذي يردد
بحسرة.
دور رجال الدين
«ليست
هناك عدالة بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئاً وخسروا كل شيء»، او
ذلك السمسار العقاري الطفيلي الذي يتباهى بوقاحة عن تعاظم ثروته على حساب
تعاسة
الآخرين، او قيام الشركات الاحتكارية بأعمال غش واسعة جنت منها
مبالغ مالية خيالية
من طريق بوليصات التأمين على الايدي العاملة فيها او على نحيب الاطفال
واستغاثة
المحرومين والمعوزين هنا وهناك. ويضفي مور على هذه المشاهد طابعاً دينياً
وإنسانياً
وأيديولوجياً حين يفتح عدسته على حشد من القساوسة والاساقفة
الاميركيين الذين لا
يتوانى بعضهم عن نعت الرأسمالية بـ «المتوحشة والخطيئة» وبعضهم الاخر بـ
«اللأخلاقية
والنظام الغاشم والنموذج الاقتصادي الذي يتنافى مع عدالة السماء وديانة
المسيح». ويستذكر مور في هذه اللحظات حال الرأسمالية في عهد الرئيس رونالد
ريغان
«متعهد
البيت الابيض» للاحتكارات الاميركية مشيراً الى عبارة «ابنه الروحي» بوش
الابن «لا شيء افضل من الرأسمالية». وعلى رغم رصانة وجدية ومأسوية تلك
المسائل،
يبدو مور مخرجاً محترفاً مجدداً وناجحاً في ايصال نقمته
ورسالته الى اوسع الجماهير.
فهو خلافاً للإعلامي الذي يتهم بتوازن المعلومات، يستخدم كماً كبيراً من
صور
الارشيف الوثائقي والتحقيقات والمقابلات ويقرأها من كل ابعادها الانسانية
والاجتماعية والاقتصادية حتى تكتمل لديه جوانب المادة التي
يصوغها بأسلوب فريد
ومؤثر ويحررها بطريقة تتضمن الشيء وضده مازجاً الكآبة بالفرح والهزل بالجد
والتراجيديا بالكوميديا.
في نهاية الفيلم يطلق مور عدة رسائل بعضها موجه الى الشعب الاميركي الذي
يخاطبه
بالقول: «ارفض ان اعيش في بلد كهذا الا انني لا اود الخروج
منه»، داعياً مواطنيه
الى الانضمام اليه في تمسكهم بوطنهم واصرارهم على اصلاحه. وبعضها الآخر
يذكر
بمآثرالرئيس الاسبق فرانكلين روزفلت الذي مات قبل أن يحقق «الشرعة الثانية
للحقوق» Second Bill of Rights
التي تضمن حقوق الاميركيين في العمل والأجر العادل والتعليم
والنظام الصحي المجاني، وبوعد الرئيس اوباما الذي اطلقه ابان
حملته الانتخابية «نستطيع
التغيير - We Can Change».
اما لسان حال العديد من النقاد السينمائيين فقد اجمع على ان فيلم
«الرأسمالية
قصة حب» هو «عمل متكامل اشبه بمانيفست عالمي تقدمي ويساري
وإنساني».
الحياة اللندنية في
02/10/2009 |