|
فيلم
Inglurious Basterds (الأوغاد المغمورون) الذي يعرض حاليا في سينما
السيف ليس بسيطا في مشاهده. فكرة الشريط ثلاثية الأبعاد وتتطلب متابعة
مهنية لالتقاط تلك الإشارات التي يريد كاتب السيناريو والمنتج والمخرج
إرسالها من خلال «الفن السابع».
الفكرة الأولى عادية وتشكل الجانب الظاهر من المشهد. والفكرة تقوم على
إعادة قراءة للتاريخ وتحديدا في المرحلة النازية (الرايخ الثالث) في
ألمانيا في عهد ادولف هتلر والحرب العالمية الثانية. المخرج هنا أخذ فترة
محددة وهي التي امتدت على عامين 1941-1942. ففي هذه الفترة بدأت القوات
الألمانية تتلقى الهزائم المتتالية وتتراجع على الجبهات بعد موجة الهجوم
الكاسحة التي بدأت في 1939 وأخذت ترتد إلى الوراء بدءا من العام 1942.
آنذاك كانت ألمانيا تحتل أوروبا الشرقية وفرنسا وكانت تشارك حليفها
الإيطالي في احتلال ليبيا وتونس والكثير من المستعمرات ومناطق النفوذ
الإيطالية. كذلك كان الفكر النازي العنصري المعادي للشعوب غير الآرية بدأ
يرتد على ألمانيا بعد أن تضامنت مختلف القوى لمواجهة منظومة عرقية لا توفر
أحدا. فالعنصرية عنصرية وهي حين تخرج من الصندوق تأخذ بالضرب يمنة ويسرة من
دون تمييز وصولا إلى أدق التفصيلات التي تفرق بين البشر.
هناك إذا وحدة مصلحة تجمع ثقافيا الشعوب حتى لو اختلفت في الألوان والأعراق
والأديان واللغات. والمصلحة تقتضي الوحدة وتجاوز الفرقة وخصوصا حين يكون
العدو يمتلك القدرة ويبرر جرائمه الإنسانية بشعارات أيديولوجية تزيف الواقع
وتتحايل على التاريخ.
بناء على هذه الرؤية العامة يختلق كاتب السيناريو (المخرج) فكرة تاريخية
افتراضية تعتمد على وقائع محددة من دون أن تكون المسألة حصلت فعلا.
فالسينما مخيلة في النهاية وتقوم على فن الخدعة. ومن تلك الفنون اختلاق
الروايات والقصص وأيضا اختراع حوادث تاريخية افتراضية.
الفكرة الأولى عادية وهي تأسست على تصورات تمنى كاتب السيناريو حصولها في
تلك الفترة الزمنية. ففي العام 1941 بدأ هتلر يطارد علنا اليهود في ألمانيا
وفرنسا وأخذ يلاحقهم في كل الأمكنة بذريعة أنهم يشكلون خطرا على العالم.
الفكرة صحيحة تاريخيا وهي امتدت جغرافيا من ألمانيا إلى فرنسا بعد
احتلالها.
في فرنسا بدأت الأجهزة تبحث عن عائلات يهودية فارة من المجزرة (المحرقة)
إلى القرى البعيدة والأرياف المنعزلة. ومن الريف الفرنسي تبدأ المشاهد
الأولى للفيلم (الفصل الأول) حين تقتحم دورية ألمانية منزل فلاح فرنسي في
قرية منعزلة بتهمة إيواء عائلة يهودية. ويسفر الاقتحام عن قتل الأسرة وفرار
ابنة صغيرة إلى المجهول.
«الفصل الثاني» من الفيلم يبدأ في ميدان تدريب مجموعة من القتلة المعادين
للنازية والمتضررين من الاحتلال الألماني. الفرقة مكلفة القيام بأعمال سرية
(إرهابية) من قبل الجيش الأميركي (الحلفاء) لزرع الخوف في صفوف الاحتلال.
ولأن المجموعة خاصة وسرية ومحترفة ومكلفة القيام بالأعمال القذرة التي لا
تراعي المواثيق الدولية ومعاهدة جنيف للأسرى فإنها تصبح غير رسمية وليس
هناك من طرف مسئول عنها أو يتبنى أفعالها.
مجموعة «الأوغاد» هي على نمط النازية ولكن من موقع مغاير ويختلف في أهدافه
الإنسانية عن الهتلرية. والمجموعة القاتلة مكلفة بمهمات مفتوحة وهي تستطيع
اتباع الأسلوب الذي تراه مناسبا من دون وازع أو حساب. كذلك ضمت المجموعة
عناصر متخالفة في أصولها وتكويناتها وثقافاتها فهي تجمع اليهودي الألماني
إلى النمسوي إلى الإيطالي والفرنسي والبريطاني والأميركي.
الأميركي قائد المجموعة واختاره المخرج ليكون من عائلة مركبة نصفها أوروبي
المنشأ والنصف الآخر من قبيلة اباتشي التي اشتهرت بالعنف خلال مقاومتها
للغزو الأوروبي لأميركا.
شكلت المجموعة قوة ضاربة في فرنسا خلال الاحتلال ما أثار غضب هتلر وأثار
قيادته بسبب المخاوف التي انتابت القوات الألمانية. فالمجموعة كانت تقتل
وتشوّه الجثث وتقطع الأعضاء وتسلخ جلدة الرأس (على طريقة اباتشي) وتفعل كل
ما يخالف القانون والأنظمة. وبسبب هذا العبث المجنون اشتهرت الفرقة وتحولت
إلى هاجس يؤرق الاحتلال.
«الفصل الثالث» من الفيلم يتشكل من مجموعة عناصر تربط بين الأول والثاني.
الفتاة اليهودية التي نجحت من الفرار من مجزرة أسرتها في المنزل الفرنسي
الريفي تظهر صبية تدير صالة سينما في حي باريسي. فالسينما ورثتها عن خالها
وخالتها ويساعدها في عرض الأشرطة شاب فرنسي من أصول إفريقية. وهذا الأمر
بحد ذاته يعتبر تهمة في المنظور النازي. وجاءت المصادفة اتثير مشكلة حين
جاء ضابط ألماني مشهور (قناص محترف) إلى الحي وطلب أن يستأجر الصالة لعرض
فيلم يتحدث عن بطولاته في الحرب. والمصادفة أيضا أدت بصاحبة الصالة إلى
الالتقاء بذاك الضابط العنصري الذي أمر بقتل أسرتها في المنزل الريفي في
فرنسا. والمصادفة أيضا دفعت مجموعة الأوغاد إلى التحرك للقيام بعمل كبير في
الصالة بعد أن تناهت الأخبار عن احتمال حضور هتلر وقادة الرايخ الثالث
العرض الأول للفيلم النازي عن البطل الألماني. والمصادفة كذلك جمعت مهمات
مجموعات استخباراتية إلى فنانة ألمانية منشقة عن بلادها أن تعمل من دون
تخطيط أو تنسيق مسبق مع صاحبة الصالة والعامل الفرنسي - الإفريقي.
هناك مصلحة غير مباشرة جمعت كل هذه الروافد على فكرة الانتقام المشترك
والمجنون والعبثي من النازية وقيادة الرايخ الثالث. فالكل متضرر من
الاضطهاد والعنصرية والتفرقة والاحتلال. والجميع يرتبطون بذاك الخيط السري
الذي يحرك المشاعر باتجاه هدف واحد: قتل هتلر وزمرته في الصالة.
«الفصل الرابع» هو الأعنف. ومسرح الاشتباك كانت تلك الصالة السينمائية في
حي باريسي في أربعينات القرن الماضي. المشهد متداخل في خططه وخيوطه وينتهي
أخيرا بتفجير الصالة وقتل قادة الرايخ وهتلر و350 ضابطا دفعة واحدة.
الفكرة طبعا مجنونة وغير صحيحة تاريخيا. إنها مجرد أمنية سينمائية متخيلة
اختلقت واقعة لم تحصل فعليا ولكنها لو حصلت لكان العالم ارتاح مبكرا من تلك
الكوارث الإنسانية التي ارتكبتها النازية بحق البشرية. فالفكرة تتحدث عن
ضرورة الخلاص من كل رؤية تقوم على سياسة التفرقة والتمييز لأن التهاون معها
سيؤدي إلى نموها وانتشارها وتهديد كل الناس بغض النظر عن دينهم ولونهم
ولغتهم وأصولهم العرقية.
الصورة الخفية من المشهد
هنا نصل إلى جوهر الفيلم المجنون ومقاصده من هذه الرواية المفبركة. فالفكرة
الأولى بوليسية (مخابراتية) عادية وهي في إطارها المبرمج تشكل الجانب
الظاهر من السيناريو. أهمية الشرط تبدأ في أبعاده الثلاثية التي تعطي قراءة
مجنونة عن السينما وتاريخها وذاك النقد المبطن لتلك الأفلام التي صدرت
تباعا في أربعينات وخمسينات وسيتنات القرن الماضي.
الفكرة الثانية (البعد الثاني) يتناول تقنيات السينما الكلاسيكية في
أربعينات القرن الماضي. فالمخرج اعتمد منهج تلك السنوات الغابرة في تقديم
الأبطال سواء من خلال عرض الأسماء بأحجام كبيرة في بداية الشريط، واستخدام
الموسيقى التصويرية العالية لشدّ انتباه المشاهد إلى الحوار، واللجوء إلى
المقاطع التصويرية الطويلة والمملة، واتباع لقطات الكادر الذي يتحاور خلاله
الممثلون لفترة طويلة.
الفكرة الثانية مجنونة تقنيا ورائعة لأنها أعادت المشاهد إلى سينما
الأربعينات في التمثيل والموسيقى والحوار والسيناريو والحركات المسرحية
المفتعلة، أي إلى زمن باريس في لحظة الاحتلال. فالفيلم أربعيني في أسلوب
تعامله مع الفن السابع ما أعطى القصة الوهمية والمختلقة تاريخيا رؤية
واقعية قابلة للتصديق. فالسينما كما يريد المخرج أن يقول خدعة وهي تعتمد
تقنيات كاذبة لإقناع المشاهد بصحتها وهي في مجموعها لا تختلف عن تلك
الأمنية التاريخية التي لم تقع إطلاقا. السينما مخيلة وهي تشبه الحلم في
تمنياته وتصوراته. والتاريخ إذا كان مجموعة مشاهد متقطعة ومتقاطعة في
مصالحها ومصادفاتها كذلك السينما فهي ليست بعيدة في أحلامها وأمنياتها.
عودة المخرج إلى الأربعينات جاءت لتذكير المشاهد بتاريخ السينما وتطورها
التقني منذ تلك الفترة وصولا إلى القرن الجاري. وبما أن السينما تاريخ فهي
أيضا ليست بعيدة عن السياسة ودورها المشبوه في تشويه ثقافات وحضارات وتزوير
وقائع واضطهاد أقليات دينية وقومية ولونية من خلال تنميط شخصية الأسود
(الإفريقي) واليهودي والأوروبي (الإيرلندي أو السكوتلندي أو البولندي) أو
المسلم.
الفكرة الثالثة تشكل البعد الثالث لهذا الشريط السينمائي المجنون الذي يرجح
أن ينال الكثير من جوائز التقدير. البعد الثالث هو الأهم لأنه يقدم صورة
مشهدية عن تاريخ هوليوود السينمائي والظلم الذي ألحقته تلك الأفلام (مشهد
حرق وإتلاف 350 شريطا من أرشيف ومستودعات هوليوود) التي أنتجت في أربعينات
وخمسينات وستينات القرن الماضي وأساءت للهنود الحمر (الأباتشي) والسود
(الأفارقة) وأقليات أوروبية وشخصية المسلم.
هذا النقد للسينما الهوليودية وتاريخها في تشويه صورة الثقافات يعتبر ضربة
معلم مجنونة لأن المخرج اختار المكان المناسب (حي باريسي) والزمان المناسب
(الاحتلال النازي) ليكشف عن تشابهات وتقاطعات جرت في تلك الفترة الزمنية من
التاريخ.
حتى تكون الفكرة قريبة في بعدها الثالث للمشاهد اختار المخرج المجموعة
القاتلة المحترفة من جنسيات وألوان وأصول عرقية وثقافية مختلفة ومتنوعة.
فهناك الأميركي (نصف أباتشي) وهناك اليهودي، وهناك الألمانية (فنانة
منشقة)، وهناك الإيطالي، وهناك الإنجليزي، وهناك الإفريقي (الفرنسي)، وهناك
«عمر» وهو الشاب المسلم. كل هذه المجموعات تعرضت للظلم والتشويه والتنميط
في تاريخ السينما الهوليودية.
السيناريو رائع والمخرج مجنون والفكرة مختلقة لأن السينما في النهاية حلم
يعتمد على الخدعة. والسينما في تاريخها تشبه الزمن في تطوره وتدرجه.
وهوليوود الآن ليست كما كانت عليه تقنيا واسنيا في تلك الفترة المظلمة في
تاريخها.
القراءة الأخرى للشريط (الأوغاد المغمورون) تكشف عن سيناريو ثلاثي الأبعاد
قام المخرج بإعادة تركيبه بتقنية مبتكرة ساهمت بتذكير المشاهد بفترة
الأربعينات من القرن الماضي. فالفيلم وجّه رسائل متعددة الاتجاهات: من
ناحية تطرق إلى فترة النازية واحتلال فرنسا ومطاردة اليهود (وهذه هي الصورة
البسيطة والظاهرة من المشهد)، ومن ناحية ثانية أعاد الذاكرة إلى تقنيات
السينما في فترة الأربعينات، ومن ناحية ثالثة انتقد تاريخ هوليوود العنصري
والعرقي ووجّه تحية اعتذار مبطنة وذكية لكل الأقليات التي أصابها الظلم
والتمييز والاضطهاد والتشويه وتنميط الشخصية والثقافة خلال تلك الفترة من
الزمن.
الوسط البحرينية في
01/10/2009 |
