ضمن قسم "أيام فينيسيا" في مهرجان
فينيسيا السينمائي السادس والستين، عرض فيلم "حراقة" للمخرج
الجزائري مرزاق علواش
وهو من الإنتاج المشترك مع فرنسا.
ولا شك أن مرزاق علواش نجح طوال أكثر من
ثلاثين عاما في وضع إسمه بقوة على خريطة السينما الجزائرية،
وحتى عندما كان يخرج
الأفلام المثيرة للجدل من الإنتاج الفرنسي، فإنه يظل مهموما بواقعه
الجزائري
والتحولات التي شهدها منذ ما بعد الاستقلال حتى اليوم.
علواش صاحب التحفتين
الكبيرتين في السينما العربية "عمر قتلاتو" و"مغامرات بطل"، مد تجربته على
استقامتها في "سلام يابن الخالة" و"حي باب الواد" و"العالم الآخر" وغيرها،
لكنه
يعود اليوم بفيلمه "حراقة" (أي أولئك الشباب الذين يحرقون أوراق هوياتهم
قبل رحلات
التسلل إلى أوروبا عن طريق الزوارق حتى يفشل حراس السواحل على الجانب الآخر
في
تحديد هوياتهم) لكي يطرح موضوعا لا يبتعد كثيرا عن اهتماماته
الأثيرة برصد ملامح
فشل المشروع الوطني البديل للتنمية.
ولاشك أن من بين آثار فشل الأنظمة الوطنية في
العالم الثالث عموما، وفي الجزائر خصوصا، ظاهرة الهجرة غير
الشرعية من بلدان جنوب
المتوسط إلى شماله، من افريقيا عموما، إلى اسبانيا وفرنسا وايطالي خصوصا،
ومنها إلى
بلدان أخرى في القارة الأوروبية.
ولعل أول ما يسترعي الانتباه في هذا الفيلم أن
أكثر ما كان يصلح له هو أسلوب الفيلم التسجيلي والوثائقي. غير
أنه بسبب استحالة
تصوير رحلة يقوم بها عدد من المغامرين اليائسين في زروق وما قد تؤدي إليه
من غرق
الزورق اعتقال المتسللين، ولذا فقد آثر علواش أن يجعل فيلمه روائيا، أي
تمثيليا،
دون أن يحتوي على مادة درامية كافية، تثري الموضوع وتجعله يتجاوز المواد
والتقارير
الإخبارية المصورة.
إننا هنا أمام مجموعة من الشباب، من العاطلين، الريفيين،
وسكان المدن، بينهم فتاة هي "إيمان" انتحر شقيقها "عمر" بعد أن يأس من
العثور على
فرصة للنجاة من الواقع الأليم. وعمر هذا صديق لناصر ورشيد، والاثنان يصران
على
استكمال المغامرة لأن "البقاء يؤدي إلى الموت والرحيل يؤدي
أيضا إلى الموت" كما
يقول رشيد، فلماذا الانتظار. وبين المجموعة شاب "أصولي" صامت يبدو مختلفا
بفكره عن
الآخرين، والجميع يريدون التسلل بمساعدة "حسن" وهو رجل متخصص في تهريب
الرجال
واستغلال حاجتهم للعبور من الجنوب إلى الشمال، تحت وهم الحصول على فرصة
للعيش
الكريم.
يتعين على مجموعة الرجال الباحثين عن منفذ إلى الشاطيء الإسباني
الانتظار في كهف على الساحل، بعد أن دفعوا كل ما استطاعوا تدبيره من مال
إلى "حسن"،
الذي يقدم لهم من الطعام ما يكفل فقط بقائهم على قيد الحياة.
وذات يوم يحل عليهم
شاب يبدو شديد التوتر والقلق، يلوح بمسدسه في وجه الجميع، يقتاد حسن ثم
يقتله،
ويسيطر بالتخويف والإرهاب على المجموعة، ثم يبدأ في اختيار الذين سيرحلون
معه
والذين سيبقون في الجزائر. وبينما يتجنب الجميع مواجهته تتصدى
له "إيمان" وتعلن
إصرارها على الذهاب مع المجموعة، وتتشبث بخطيبها.
الرجل الأصلع المسلح الذي نعرف أنه هرب لتوه من
السجن ولا يريد العودة إليه مهما كلفه الأمر، يأمر الشابين
اللذين لديهما خبرة في
قيادة الزورق بالإبحار، ويظل طوال الطريق يهدد ويتوعد، لكنه يغرق خلال
مشاجرة مع
الشاب الملتحي الأصولي، ويصل القارب قرب الشاطئ الاسباني ولكن يتعين على
الباقين
السباحة لعة كيلومترات للوصول إلى الشاطيء وهو ما لا يستطيع
القيام أربعة من
الريفيين لأنهم يجهلون السباحة فيبقون في الزورق في انتظار من ينقذهم،
بينما تسبح
الفتاة وخطيبها وصديق لهما ويصلون بالفعل إلى الجانب الآخر غير أنهما سرعان
ما
يقعون في أيدي الشرطة الاسبانية التي تقوم بترحيلهم.
هذا هو الخيط الروائي
للفيلم الذي يبلغ زمن عرضه 103 دقيقة في حين أن مادته البصرية والدرامية لا
تصنع
أكثر من فيلم لا يتجاوز 30 دقيقة.
ولهذا يمتليء الفيلم بالاستطرادات واللقطات
المكررة. ويفتقد الموضوع إلى حبكة درامية قوية، كما ينقصه
تحليل اجتماعي قوي
للشخصيات التي تجتمع على متن الزورق، وتغلب عليه الخطابة والتشنج
والمشاجرات
المتكررة التي لا تصنع أي تطور في الشخصيات، ولا تسير بها إلى الأمام حتى
تصل إلى
ذروة محسوبة جيدا.
إن كل ما يحدث في هذا الفيلم يمكن للمتفرج التكهن به مسبقا بل
وتوقع حدوثه، كما أن أبطاله لا يتميزون عن بعضهم البعض في شيء، وكان من
الممكن
بالتالي انقاص عددهم أو زيادته دون أن يتأثر الفيلم أو يختل
بناؤه.
هناك مثلا،
الفتاة "إيمان" التي لا نعرف لماذا تصر كثيرا على الذهاب مع المجموعة رغم
ما في ذلك
من مخاطر، وقد رأيناها في بداية الفيلم وهي محجبة، تهدد خطيبها بالالتحاق
بالجماعات
المتطرفة والقيام بعملية انتحارية اذا لم يسمح لها بالذهاب
معه. ما هو الدافع
العنيف لديها الذي لا تقوى على ردعه في داخلها، وما هي الخلفية الاجتماعية
التي
جاءت منها، وما هي التهديدات التي تعرضت لها في الوطن لكي يصبح العبور إلى
الجانب
الآخر بالنسبة لها نوعا من الإنقاذ؟
لا يقدم الفيلم تفسيرا دراميا لهذه الجوانب،
كما لا يسعى علواش من خلال السيناريو الذي كتبه بنفسه كعادته،
العودة إلى الماضي في
مشاهد تتقاطع مع ما يدور في الزمن المضارع، لإثراء الشخصيات واكسباها
أبعادا درامية
مقنعة للمتفرج.
وللتغلب على "الفراغ" الذي يعاني منه فيلمه يلجأ علواش حينا إلى
التركيز على مشاعر الخوف والقلق التي تعتري الرجال في القارب، وهم يتطلعون
إلى مياه
ممتدة تبدو بلا نهاية، ويلجأ حينا آخر، للتوقف والتركيز على مناظر الطبيعة
الممتدة
بعرض الأفق، التي تصاحبها الموسيقى في لحظات تنفس نادرة في
الفيلم تجعل الطبيعة هي
العنصر الأقوى في الصورة وكأن الإنسان قد أصبح رهينة بيد يديها.
وعلى خلاف ما
يتوقعه المشاهد يجعل علواش الشاب الأصولي الملتحي الذي يظل صامتا معظم
الوقت، هو
أكثر الجميع شجاعة، فهو الذي يواجه الشاب المسلح ويحاول انتزاع المسدس منه،
ثم يقفز
معه إلى الماء حيث يغرق الاثنان. وهو موقف "فكري" يتناقض تماما
مع موقف علواش في
أفلامه السابقة من الأصوليين.
وبشكل عام يعاني الفيلم من الترهل والاستطرادات
والتكرار والثغرات الكبيرة في بناء الشخصيات، وعدم
الاستفادة مما يمكن أن يوجد
بينها من تباين في الخلفيات والظروف الاجتماعية، كما يهمل تصوير البيئة
الخاصة التي
يأتي منها كل منهم في بداية الفيلم أي قبل أن يتركز الحدث على فعل واحد فقط
هو
الرحيل عن طريق المهرب "حسن"، وهو الحدث الذي يستولي على
اهتمام الفيلم إلى جانب
الرحلة التي يدرك المشاهد بوعيه، ما ستنتهي إليه.. من ضياع الجهد والمال
والوقت..
بل والأمل في إشارة على أن الدائرة مغلقة.
ومن أجل منح فيلمه قوة أكبر مما توحي
به مناظره ولقطاته، ومع ضعف الاداء التمثيلي عموما، ينهي علواش
فيلمه بكتابة بعض
المعلومات الصادمة حول أرقام الضحايا الذين يغرقون سنويا خلال تلك الرحلات
الخطرة،
وأعداد الذين يقبض عليهم ويتم ترحيلهم مجددا إلى بلادهم، وغير ذلك.
لكن الفيلم
ينتهي ويظل السؤال قائما: هل كان من الأفضل أن يعثر علواش على طريقة لصنع
فيلم
تسجيلي عن هذه الظاهرة؟
الجزيرة الوثائقية في
01/10/2009 |