الفيلم مقتبس من رواية للكاتب و الفيلسوف و مؤرخ الديانات الروماني
ميرجا إلياده الذي كان يتحدث ويكتب بطلاقة بثماني لغات "الرومانية،
الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الإنكليزية، العبرية، الفارسية
والسنسكريتية". أنجز الفيلم المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا و هو فيلم
تجري أحداثه إبان الحرب العالمية الثانية و يحكي قصة أستاذ روماني في
السبعين من عمره اسمه دومينيك ماتَي "تيم روث" كان هدفه الأكاديمي و
الحياتي الوحيد هو التوصل إلى أصل "منبع" اللغات إلا أن تقدمه في السن جعله
يفقد الأمل في إنجاز هذا الهدف فيقرر الانتحار.
يسافر من بلدته إلى بوخاريست حيث ينوي وضع حد لحياته و أثناء خروجه من محطة
القطار يصعقه البرق ويصيبه بحروق بليغة لكنه يتمكن من الشفاء ويكتشف أن
جسمه استعاد شبابه وأصبحت تنمو لديه أسنان وأضراس جديدة. هنا يبدأ حياة
أخرى ويتعرض لسلسلة من المطاردات: مطاردة النازيين، مطاردة الظل و مطاردة
فيرونيكا.
إن الفيلم غامض بمعنى عازم على استطلاع جوانب خفية توحي إليها الشخصية
المتفردة لدومينيك ماطي. جوانب لا تتعلق أساسا بوقائع مرحلة حساسة من تاريخ
أوروبا ولا بالصراع بين الخير والشر، بل بالسيرة الذاتية لفرانسيس فورد
كوبولا وهذه نقطة في غاية الأهمية لم ينتبه إليها النقاد ما خلق نوعًا من
التشويش أدى بالبعض إلى نعت الفيلم بالفوضى والقول إن المخرج نسي مهنته
علما أنه قبل أن يوقع هذا الفيلم كان قد توقف عن صناعة الأفلام لفترة عشر
سنوات وانصرف إلى مزرعته ليتعاطى فلاحة الكروم وصناعة النبيذ بعد أن حكم
على السينما الأميركية بالتكرار والاجترار و غياب الإبداع.
أقدم في ما يلي قراءة لهذا الفيلم عبر مرحلتين أساسيتين لتبيين أن المخرج
قام بعمل جبار يستحق عليه، حسب تقديري، التنويه.
مرحلة دومينيك الشاب بشبابه الحقيقي، الطبيعي، وهي فترة قصيرة جدا من عمر
الفيلم خبرنا فيها أن هدف دومينيك في الحياة هو الوصول إلى منبع اللغة
ونقطة بزوغ الوعي و إدراك مفهوم الزمن. انصرافه الكلي إلى إنجاز هذا الهدف
ألقى بظلاله على علاقته بحبيبته لورا. تقول له هذه الأخيرة: ليس عملك ما
يضايقني وإنما حبس نفسك في عالم مغلق ليس له منفذ، الأجدر بنا أن نفترق.
يأمل أن تبقى لكن تذهب وتتركه. هنا إيحاء إلى بداية التباعد بين عالمين:
عالم العلم الهادف إلى كمال الإنسان من جهة وعالم التواصل الهادف إلى
التكامل الإنساني من جهة أخرى. عالم الحلم و الخيال و عالم اليقظة والواقع.
الحلم عندما يكون طموحا جدا أو جامحا يعزل صاحبه عن الواقع ويسرق منه سنوات
عمره بسرعة، هذا ما وقع لصاحبنا دومينيك ماتَي. انعزل في مشروعه الكبير حتى
استفاق فوجد نفسه شيخا هرما من دون نتيجة تحسب له فقرر الانتحار في بوخارست
في أثناء أعياد الميلاد إلا أن قدرا آخر كان له بالمرصاد؛ تصيبه الصاعقة
فترديه شابا. وهنا تبدأ المرحلة الثانية.
في هذه المرحلة، الأطول من عمر الفيلم، نلتقي دومينيك الشاب بدون شبابه
الحقيقي. أي دومينيك الشاب بشباب مقدر عليه بالصاعقة التي ألمت به، وهو
شباب كان يمكن أن يحلم بالعودة إليه بعد أن أصبح مسنا. من منا لا يريد أن
يعود إلى شبابه، أن يعود سنه القهقري. لكن عوض هذا الحلم قرر أن ينتحر، أن
يواجه قدره. في هذه الأثناء تواجه رومانيا الغزو النازي. ونعلم أن النازية
وما اقترفته في حق الإنسانية هي النتائج الملموسة للأحلام المجنونة لهتلر
ومن معه وأن الحلم النازي الأكثر جنونا هو تحقيق السوبرمان "الإنسان الكامل
أو الخارق" وإبادة الإنسان المتخلف. إذن، بالنسبة إلى هتلر، هي جيدة كل
الوسائل الممكن استعمالها لتحقيق هذا الغرض. من بين تلك الوسائل هناك،
إضافة إلى حرب الإبادة، تطوير تجربة مجنونة للغاية وتتعلق بالصعق بشحنة
كهربائية تفوق الألف فولت تؤدي إلى إحداث طفرة في التركيب الجيني للإنسان
ترقى به إلى مرتبة السوبر مان. يبلغ إلى علم النازيين ما وقع لدومينيك، كيف
أنه عاد شابا بعد إصابته بالصاعقة وأصبح يتمتع بقوى ذهنية خارقة فيحاولون
استدراجه عبر جواسيس.
من جهة هناك الصاعقة التي أحرقت دومينيك ومن جهة ثانية هناك المشروع
النازي الذي أحرق أوروبا. هذه هي المعادلة التي وضعها فرانسيس كوبولا وحاول
حلها بالفن. إذا أعادت الصاعقة الشباب إلى دومينيك العجوز فإن الحرب أعادت
الشباب لأوروبا العجوز. أنظر كيف كانت أوروبا قبل الحرب وما آلت إليه الآن.
قصة دومينيك هي إذن العبارة الفنية التمثيلية لفكرة الصعق الكهربائي
الهادفة إلى بناء السوبرمان. ذهب المخرج حتى الحد و استبدل
الصعق الكهربائي كفعل بشري بالصاعقة الرعدية كفعل طبيعي. خرج من حيز
الإرادة البشرية ودخل في حيز سنن الكون كمسوغ لتقبل وإنجاز هذه الفكرة
المجنونة أي فكرة إمكانية الحصول على إنسان خارق انطلاقا من إنساني عادي
تعرض لصعق قوي جدا. وهذا كله خيال بطبيعة الحال لهذا لا ينبغي أن ننتظر أو
نتوقع أثناء مشاهدة الفيلم أن يلقي هتلر القبض على دومينيك.
إذا كان دومينيك خيالا فإن ظله "أيضا دور الظل لعبه تيم روث" الذي رافقه
طول هذه المرحلة سيكون في آخر المطاف الطريق للعودة إلى الواقع. لم
يفتأ الظل يجيب على أسئلة دومينيك ويحرضه على اتخاذ خطوات ملموسة. نصحه
بعدما تعافى من حروقه البليغة وعاد شابا أن يخبر البروفيسور ستانشيوليسكو
"برونو غانز"، وهو الطبيب المشرف عليه، بحقيقة أمره و يطلب منه أن يؤمن له
هوية جديدة تمكنه من الفرار إلى سويسرا المحايدة حيث الأمان المناسب
لاستئناف بحثه عن منبع اللغات. هناك عندما كان يتجول في أحد الوديان
الجبلية السويسرية صادف سائحتين إحداهما شابة متقدة حماسا اسمها فيرونيكا
"أليكساندرا ماريا لارا" أخبره ظله أنها حبيبته لورا. تطلب فيرونيكا من
دومينيك أن يدلها على أقرب طريق إلى قمة الجبل فيخبرها أن هناك عاصفة رعدية
على وشك الحدوث لكنها لا تكترث وتقول:" مظلتي ستحميني" وتواصل طريقها مع
صديقتها بإصرار. يذهب دومينيك ليخبر الشرطة ثم يعود إلى الجبل فيجد
فيرونيكا مصابة وملقاة في حفرة تتحدث بكلام غير مفهوم، بينما صديقتها قد
ماتت. يعلم فيما بعد أن ذلك الكلام هو كلام باللغة السنسكريتية وهي لغة
هندية قديمة.
تبدأ رحلة فيرونيكا عبر الزمن تحت إشراف دومينيك وتوجيهات الظل. تغيب
فيرونيكا مرارًا عن نفسها في ما يشبه اتصالا روحيا و تغوص في الزمان وتتحدث
في كل مرة لغة أقدم من اللغة التي تحدثتها في المرة السابقة. وبين هذه
المرات ترجع إلى حالتها الطبيعية وتسقط بالمناسبة في أحبال عشق دومينيك
دون أن تعرف حقيقة ما يحدث لها. كل ما تعرفه أنها تحس بإرهاق ناتج من جهد
جهيد يحدث في ذهنها ولا تدري أنها أداة يستعملها دومينيك بإيعاز من الظل
للوصول إلى اللغة الأم أو الأصل الأصيل للغة. تتكرر العملية وتبدأ المعاناة
والشيخوخة تنخر جسدها وجمالها فيرق قلب دومينيك لحالها ويقرر أن يفارقها
متحديا رغبة الظل الذي نصحه بالاستمرار لأنه بذلك الإستمرار سيصل إلى اللغة
الأصل، إلى هدف عمله المهم والوحيد الذي سيقدمه للإنسانية.
إلا أن فيرونيكا ترفض الفراق قائلة بتضرع: ...لا تتركني ...لن أقدر على
الاستمرار بدونك...
يرد دومينيك: ...حياتك ستكون في خطر إن بقيت معك... ستشيخين وستموتين مع
مطلع الخريف... سيعود إليك شبابك وجمالك فقط عندما أخرج من حياتك... مكتوب
أن يضيع مني كل شيء، لكن أفضل أن تضيعي مني شابة جميلة على أن تموتي بين
ذراعي...
بهذا يرفض دومينيك أوامر الظل ويرحل بالفعل عن فيرونيكا تماما كما رحلت عنه
عشيقته لورا في أثناء المرحلة الأولى. يصل هذا الرفض ذروته عندما يحاول
الظل إقناعه بأمر شديد الغرابة وهو أن حدوث حرب نووية سيكون في صالح
البشرية جمعاء.
يأخذ دومينيك بيديه أوراقا ويقرأ بصوت مسموع: ...الخير والشر يفقدان كل
معنى ...على المستوى المطلق ينتهي الفرق بين الوجود و العدم...
يقاطعه ظله قائلا: ...لكن ما لا يجرؤ أحد على قوله هو أنه في نهاية المطاف
يجب القبول بالحرب النووية إن تعذر تبريرها...
يقول دومينيك:.. أرفض هذه الفكرة... هناك شعوب و حضارات ستفنى...
يرد الظل: هذا هو الثمن الذي يجب على الإنسان دفعه...
يسأل دومينيك: كيف تجرؤ على قول هذا؟
يرد الظل: ...الكارثة النووية ستحدث طفرة في النوع البشري... الموجة
الكهرومغناطسية التي سيحررها الانفجار الذري ستفتح آفاقا باهرة
للإنسانية... ستأتي بإنسان المستقبل...
يسأل دومينيك: لكن ماذا لو أدى ذلك إلى تراجع النوع...؟
يجيب الظل: ما يهم هو العلم و الوصول إلى الإنسان الكامل...
يقول دومينيك: ... إذا صدقنا ما تقول فسنخلص إلى أن الغاية تبرر الوسيلة...
يجيب الظل: لا يوجد خيار...
يقول دومينيك: وفيرونيكا، أهي أيضا ليس لها خيار؟ أكان لابد لها أن تشيخ،
أن تعاني و في النهاية تموت؟
يجيب الظل: لم يكن هناك خيار...
يستشيط دومينيك غضبًا عندما أضاف الظل بنبرة حادة: ...لهذا السبب لم تكمل
أبدا كتابك، ستبقى دائما فاشلا...
يرفع كرسيا ويضرب به صورة الظل المنعكسة في المرآة. تتكسر المرآة ويصرخ
الظل مستغيثا: دومينيك ماذا فعلت. أنقدني يا دومينيك. يستغيث ويستغيث إلى
أن يستحيل كلامه لغة غير مفهومة ثم يختفي.
إن رحيل دومينيك عن فيرونيكا وما صاحبه من تعبير لا يعدو أن يكون في
الحقيقة قراءة للسبب الذي أدى بالمخرج إلى الرحيل عن الإبداع السينمائي
لمدة عشر سنوات. اعتقد فرانسيس كوبولا أن إمعانه في استعمال السينما كأداة
لإيصال أفكاره وهمومه تسبب في استنزاف لغتها التعبيرية و جماليتها فقرر
الرحيل عنها تماما كما فعل دومينيك مع فيرونيكا، متمنيا أن تستعيد عافيتها
بعيدا عنه. في حين أن إقدام دومينيك على إبعاد الظل وما صاحبه من حوار لا
يعدو أن يكون أيضا قراءة لسبب عودة المخرج للسينما إذ إقتنع أن ما سيعيد
للسينما رونقها ليس الرحيل عنها بل التخلي عن فكرة الرحيل تماما كما تخلى
دومينيك عن الظل.
كانت هذه محنة فرانسيس كوبولا مع السينما، من جهة يعتبرها حبيبته يخاف إن
لازمها طويلا أن تموت بين ذراعيه ومن جهة أخرى يخشى أن يكون الابتعاد عنها
تصرفا مجنونا فاشتاق إلى العودة وعاد بسرعة الريح موقعًا هذا الفيلم الذي
يحمل لمسات كثيرة من الإبداع السينمائي لكوبولا عندما كان شابا. قد يقال
كان ضحية عودته وأقول كان وفيًا بعودته إذ حوّلت إحساسه بالإخفاق إلى نصر.
إيلاف في
28/09/2009 |