|
يسعى الناقد السينمائي اللبناني ابراهيم العريس في كتابه الصادر عن
مؤسسة السينما السورية (الشاشة... المرآة) إلى صوغ أفكاره في عشرة موضوعات
يطرحها تباعاً من دون أن يقرر أنه يقدم قراءة للعلاقة بين السينما والمجتمع
في العالم العربي، ولا إلى التأريخ للسينما العربية من وجهة نظر ناقد
سينمائي متمرس يعرف معنى صياغة جمله النقدية من دون «تأويلات» نظرية معقدة
لمن سبقه من النقاد والمخرجين، وبخاصة أولئك الذين اشتغلوا على الجانب
النظري أيضاً بالتساوق مع أعمالهم السينمائية وكانت لهم أفكارهم الخاصة
بهم، التي ما فتئ البعض يعود إليها للتدليل على فكرة أو للبرهنة على
صوابها. وهو بذلك (العريس) لا يضمن للقارئ الذكي الذي ينشده في نهاية
المطاف نقداً تحليلياً لبعض أفلام (السينمات) العربية التي لا يمكن قراءتها
باعتبارها سينما واحدة، لأنها ليست كذلك بالطبع. فهي مجموع (سينمات)
إشكالية لأنها تنبع من الطبيعة المركبة للسينما أولاً بوصفها فناً وصناعة،
وفناً ومجتمعاً، وصناعة وايديولوجيا محلية وعالمية. وذلك بالرغم من أن
دراسة تاريخية متعمقة للحضور السينمائي في المدن العربية الرئيسة سوف تقول
بشيء من البداهة المركبة أيضاً إن هذه المدن عرفت السينما أيضاً في الأعوام
الأخيرة من القرن التاسع عشر، أي بعد أعوام قليلة فقط من اختراع الأخوين
لوميير لمشروع العرض السينمائي. فإذا كانت هذه المدن قد عرفت هذا الفن
الملهم في وقت مبكر بعد روما وباريس وكاليفورنيا، فإن ما يبحث عنه العريس
في كتابه هو العلاقة بين (السينمات) العربية والزمن والمجتمع اللذين نتحرك
فيهما، ودائماً بالانطلاق من نظرة نقدية متفحصة ومتمترسة خلف بساطة في
الطرح والقدرة على التكثيف والاختزال، ويمكنها بالتعويل على ذلك أن ترصد
تلك العلاقة الإشكالية في ضوء اللحظة التاريخية التي تجلّت فيها، من خلال
جوهر ما تتناوله نصوص الكتاب، سواء أكانت نظرية، تاريخية تحليلية. مثله
كمثل الذي يطرح إشكالات كتابة تاريخ (السينما العربية) أو جماليات إعادة
انتاج السينما الشعبية التي ساهمت بتشكيل الوعي السينمائي العربي، أو حتى
إن كانت أكثر تطبيقية وميدانية، كنص يفسر ـ أو كما يقول العريس ـ أو يحاول
فهم العلاقة بين تطور الموضوع السينمائي، أو تطور المجتمع اللبناني كمثال
صارخ بكافة تعقيداته، أو من خلال نص يرصد ولادة السينما الفلسطينية، أو
ثالث مؤطر لقيام وازدهار ما سمي بـ«الواقعية الجديدة« في السينما المصرية،
أو رابع يتناول تبدلات السينما العربية في علاقاتها بقضايا المجتمع ومفهوم
الأب والفرد والأقلية. ففي فصل «السينما والمجتمع في لبنان« يرى العريس أن
هناك استحالة في الوصول إلى وضع فيلموغرافيا للأفلام التي حققت في لبنان،
لأن المشكلة الأساسية التي تعترض هذا المشروع تكمن في صعوبة الإجابة على
سؤال أساسي يدور حول ماهية الفيلم اللبناني، والتنويعات التي تنتج عن مثل
هذا التساؤل والتي قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، وتستمد مشروعية من نوع ما،
مشروعية لا بد لها أنها تقود إلى تعقيدات نصية يمكنها أن تجبر الباحث في
لحظة من اللحظات على المقارنة بين السينما المرتبطة بلبنان، بشكل أو بآخر،
وبين المجتمع اللبناني نفسه. وربما أدى ذلك إلى اكتشاف أن السينما المصنعة
في لبنان، والتي أصرت من جهتها أن تحمل هوية محددة، ربما كانت هي الانتاج
الأكثر قدرة على تصوير تناقضات المجتمع اللبناني نفسه بانقساماته الأفقية
(الطبقية)، والعمودية (الطائفية)، وسيكتشف أن السينمائيين اللبنانيين، أو
أولئك الذين اشتغلوا في لبنان، أو انطلاقاً منه، إنما عبّروا، وغالباً من
دون أن يعوا ذلك، عن انتماءاتهم، وعن اختياراتهم. وأن كل واحد منهم يحمل
فوق كتفيه، ليس الكاميرا وحسب، بل وتاريخه، ويعبر عنه في نفس الوقت الذي
كان يعتقد فيه أن ما يقدم فناً بريئاً.
بمقاربة أخرى مختلفة للسينما الفلسطينية (الجارة)، يمكن الإطلال على
فيلموغرافيا سهلة من دون تعقيدات. إذ يرى العريس أن فيلم «عرس الجليل«
لميشيل خليفي شكّل الولادة الحقيقية الأولى لهذه السينما التي لطالما
تواجدت على الدوام من خلال عيون سينمائيين عرب وأجانب وقفوا إلى جانب
القضية الفلسطينية. وإذا كان فيلم «يد إلهية« لايليا سليمان، هو من انتصر
للغة السينمائية الخالصة في مسيرة هذه السينما، التي كانت تسعى إلى تجديد
هويتها ووضعها في مصاف السينما العالمية، فإنه لا يغيب عن العريس أن يشدد
هنا على فيلمين كبيرين هما «المخدوعون« للمصري توفيق صالح، و«كفر قاسم«
للبناني برهان علوية، باعتبارهما من أفضل الأفلام العربية التي صنعت عن
القضية الفلسطينية في تاريخها كله. بالطبع ثمة في هذا الخط البياني المتعرج
فسحة لاقتفاء أسماء فلسطينية أخرى مثل هاني أبو أسعد وتوفيق أبو وائل ورشيد
مشهراوي الذي أخفق في تجاوز فيلمه الروائي الطويل الأول «حتى إشعار آخر«،
بالرغم من أنه صنع مجموعة من الأفلام الروائية الطويلة (حيفا ـ تذكرة إلى
القدس ـ انتظار ـ عيد ميلاد ليلى)، وهي ظلت تراوح في مكانها، ولم تتعرض
جيداً لمبضع النقد لأسباب مختلفة. ولا ينسى مؤلف الكتاب في زحمة الأسماء
الفلسطينية الجديدة أن يشير إلى تجربة السينمائية مي المصري التسجيلية التي
يصفها بأنها تشبه مفهوم جويس لـ«العمل قيد التحقق«، التي تصور سينما تصور
بدورها أناساً يلعبون أدوارهم في الحياة.
موضوع السينما المصرية شأن مختلف تماما. فهي وإن هيمنت على أجزاء
كبيرة من الكتاب، فهذا لإدراك العريس أن هذه السينما لعبت دوراً كبيراً في
تشكيل الوعي البصري والجمالي العربي على امتداد العقود الماضية، ولم تبخل
أبداً بأن تفتح الباب واسعاً على مصراعيه للبطل المستقبلي الذي لم يعد
وسيماً وكامل الفحولة. فهذه السينما سوف تؤكد على حظوة وشباب يتجدد لها
دائماً بالرغم من سيطرة التلفزيون والكابلات الفضائية على الكثير من نواحي
الحياة الاجتماعية العربية التي أخذت تعاني من الكثير من الشروخ الواضحة
للعيان ترافقت مع الكثير من التبدلات العميقة التي هزتها في الأعماق. وهذه
السينما التي ينفتح عليها العريس بسلاسة مبشرة استطاعت من بعد كل ركود
فجائي أو مصطنع أن تعود للمطالبة بمكانتها التي فعلت ما فعلته بالذهنية
العربية طوال القرن الماضي، فهي «أبكت الناس، أضحكتهم، أحزنتهم، غيّرت في
مجرى العلاقات العائلية، نشرت الغناء والأدب، وأزاحت المسرح عن عرشه، خلقت
من الممثلين والممثلات نجوماً وأساطير، وهي فوق ذلك كله وحدت العالم العربي
من محيطه إلى خليجه حول بوتقة واحدة اسمها مصر«.
كثيرة بالطبع اهتمامات الكاتب، حتى أنه يخيل لقارئ الكتاب أن الأبواب
هنا تفتح على موضوعات قد لا تقبل الإغلاق عليها لشدة أهميتها وبساطة
التعريف فيها، وإن بدا العريس مشغولاً بتقديم تساؤلات أكثر من الأجوبة
المتاحة، وهي تساؤلات تنضوي دائماً تحت هم واحد، هو البحث عن كنه السينما
في ظل عدم وجود رغبة كبيرة بعدم كتابة تاريخها، وهي المليئة بالالتباسات
والإشارات. فإذا كان بعض المنظرين الغربيين لتواريخ السينما يقسمون أنواع
كتابة هذا التاريخ إلى أربعة أنواع: التاريخ النقدي، التاريخ البرغماتي،
التاريخ الجمالي، التاريخ الاجتماعي، فإن المطلوب عندنا في العالم العربي ـ
ودائما بحسب العريس ـ، للوصول إلى التاريخ الكامل لهذه السينما، التقدم على
جبهة الجانب النقدي من هذا التاريخ، فهو الذي يحدد علاقتنا بنتاج يصل إلى
ألوف الشرائط، ويمتد انتاجه وعرضه وتأثيره على مدى أكثر من ثمانية عقود.
فالسينما فن يظل حاضراً في تراكمه حتى بعد أن تنتهي الحياة الطبيعية للشريط
ويصبح نسياً منسياً. أما المنظور البرغماتي (التجريبي) فهو ينطلق من ضرورة
مسبقة في عملية التأريخ تتجلى بعدم اللجوء إلى أحكام مسبقة بحيث يمكن
للناقد أن يعطي لنفسه حرية التعامل مع كل فيلم، كعمل فني اجتماعي قائم
بذاته. وبالرغم من أن هذا المنظور يقوم على محدودية وتناقض واضحين مع ما
سبق أن ذهب إليه العريس، إلا أنه يوفر قدراً كبيراً من الحرية في مجال
التعاطي مع الأفلام التي يتشكل فيها تاريخ السينما، ناهيك عن أن التاريخ
الجمالي يفرضه هنا واقع أن الفيلم هو منتوج جمالي صرف. ذلك أن العمل يتضمن
بالبديهة عناصر جمالية بصرية وسمعية هي أداة المخرج لإنجاز فيلمه، ويتم
بالتالي التعبير عن هذه العناصر بمفردة اللغة السينمائية، وهذا يدعو
للتساؤل جدياً حول ما إذا كان هناك إمكانية لرصد تاريخ خاص بها في مسار
الفيلم العربي. الإجابة ستكون من حيث المبدأ «نعم»، فاللغة السينمائية
تطورت كثيراً بتطور الصورة والإضاءة وهوية البطل نفسه التي بددت الكثير من
الشكوك بخصوص النجم المطلق، وأفسحت المجال واسعاً ليقول المخرج كلمته في
الكتابة والإخراج معاً. على أن الالتفاف على المنظورات الأخرى يأتي هذه
المرة من ناحية المنظور الاجتماعي باعتباره المحصلة التي يمكن أن تؤدي
إليها كافة المسارب المقترحة. فالسينما هي الفن الأكثر شيوعا في المجتمعات
العربية، ولهذا قد يغدو مستحيلا دراسة تاريخ السينما نفسه إن لم يؤخذ
بالاعتبارتطور المجتمعات العربية نفسها.
«الشاشة ... المرآة« مخطط جاد ل«علم كتابة تاريخ السينما« من دون
مقدمات لهذا التاريخ. فهي مقدمات ليست ضرورية، لأن ماهو مقترح، هو الغوص في
الأعماق، ودائما من جهة المنظورات المقترحة، والمشار إليها في الكتاب، من
دون أن يكون لذلك علاقة بنتاج مزاج معين. ذلك أن المؤلف سبق له وأشار في
مواضع أخرى إلى أنه بالرغم مثلا من استحالة وضع فيلموغرافيا خاصة بالسينما
اللبنانية، إلا أن هذا أصبح ممكنا منذ أن طفت على السطح أسماء مثل مارون
بغدادي، رندة الشهال ، جوسلين صعب، اندريه جدعون، هيني سرور وغيرهم.
المستقبل اللبنانية في
13/09/2009 |
