ولدت
السيدة آسيا دار في قرية »تنورين«
اللبنانية ويختلف الباحثون في سيرتها حول
تاريخ ميلادها، فيذهب بعضهم الي انها من مواليد نهاية القرن التاسع عشر
وتحديدا
في عام
٩٩٨١
ويري آخرن انها ولدت في سنة
٢١٩١ لكن الارجح والاقرب الي الدقة،
بالنظر الي بداية عملها الفني،
انها ولدت سنة
٤٠٩١.
منذ ميلادها حتي وصولها
الي مصر، تبدو المعلومات المتاحة ضئيلة للغاية،
فلا تفاصيل مشبعة عن ظروف
الحياة الاسرية ومستوي التعليم ودوافع الهجرة،
لكن المشترك بين كل من كتبوا عنها
انها كانت تتقن القراءة والكتابة باللغتين العربية والفرنسية وكان الادب هو
الموضوع
الاثير لها وفضلا عن ولعها بالقراءة الادبية كانت آسيا داغر مولعة بمشاهدة
الافلام
الاجنبية التي تعرض في مصر، ولذلك اتجه طموحها الي اقتحام المجال السينمائي ممثلة
وتواكب ذلك الطموح الشخص المبكر مع البدايات الاولي للانتاج السينمائي
المصري،
وصلت آسيا وشقيقتها وابنة شقيقتها ماري كويني سنة
٣٢٩١ حيث استقررن في القاهرة
واتخذن من مصر وطنا.
بدأت آسيا حياتها الفنية بدور صغير محدود في فيلم »ليلي«
وسرعان ما ارتقت الي ادوار البطولة المطلقة مستعينة في ذلك الصعود بكونها
منتجة أفلامها وخلال سبعة عشر عاما بين
٩٢٩١
و
٦٤٩١
قامت ببطولة خمسة عشر فيلما
ثم اعتزلت التمثيل متفرغة للعمل الذي احبته واخلصت له: الانتاج.
لا يمكن
تقييم اسلوب الاداء التمثيلي لآسيا بمعزل عن طبيعة المرحلة، فلم يكن فن
التمثيل
السينمائي قد تخلص بعد من مؤثرات الاداء المسرحي،
ولم تكن متطلبات النجومية
السينمائية النسائية الا الملامح الجميلة في المقام الاول. قد يكون صحيحا
انها لم
تقدم ادوارا فذة كممثلة، لكنها لا تختلف عن مثيلاتها من كواكب الثلاثينيات واوائل
الاربعينيات ولعلها تتميز عنهن بالتوفيق في اختيار الوقت المناسب لاعتزال
التمثيل،
قبل أن يعتزلها الجمهور.
كان الفيلم الاخير الذي مثلته سنة
٦٤٩١: »الهانم«
وهي في مطلع الاربعينيات من عمرها، وبعد سنوات من اعتزالها سئلت عن شعورها بعد
أن اعتزلت وهي في ذروة التألق والقدرة علي العطاء وفقالت انها
مثلت كل الادوار التي
تحبها، التاريخية والمصرية والتراجيدية والكوميدية، ولا رغبة عندها في
المزيد.
لقد وصلت آسيا الي قناعة كاملة بانها لن تستطيع أن تجمع بين التمثيل
والانتاج، وأثرت ان تعمل في المجال الذي تحبه:
الانتاج.
>
المنتجة
عبر رحلتها الانتاجية الطويلة التي امتدت اربعين عاما ويزيد منذ نهاية
العشرينيات الي مطلع السبعينيات في القرن العشرين قدمت آسيا تسعة وأربعين
فيلما،
تعاونت فيها مع مخرجين وكتاب ينتمون الي مدارس فنية واتجاهات فكرية
متباينة.
في رحلتها الانتاجية الحافلة قدمت مجموعة من الافلام التي تمثل
علامات في تاريخ السينما المصرية، ومنها »شجرة الدر«
، »ست البيت«، »معلش يا زهر«،
»أمير الانتقام«، »حياة أو موت«، »رد قلبي«، »الناصر صلاح الدين«،
»يوميات نائب في الارياف«
، أفلام تاريخية واجتماعية
وسياسية، متباينة من حيث رؤيتها الفكرية وعند تأمل طبيعة
الخطاب الذي تقدمه هذه
الافلام، لا يصعب اكتشاف حقيقة التنوع،
المردود الي اختلاف الكتاب والمخرجين،
بل إن كثيرا منها قد يقدم رؤي واجتهادات لا تروق للمنتجة الكبيرة، لأسباب
طبقية
واجتماعية، لكنها تتوافق مع افكارها الليبرالية المستنيرة، وترحب بانتاج أعمال
جادة محترمة لا تعبر بالضرورة عن اجتهاداتها وأفكارها الشخصية.
ما الملامح
العامة، الاكثر أهمية، التي تميز سياسة وفلسفة آسيا الانتاجية؟!
بصياغة
أخري: ما المؤشرات والدلالات التي يمكن استنباطها من القراءة التحليلية
لهذا
الانتاج؟!
تنوع الموضوعات وتعدد المخرجين يمثل الملمح الاول في شخصية آسيا
الانتاجية، وقد بدأت معتمدة علي المخرج أحمد جلال ثم انتقلت الي هنري
بركات،
وصولا الي الانفتاح علي الجميع بلا تمييز،
فحسن الامام يتوسط أحمد كامل مرسي
وكمال الشيخ ويوسف شاهين، والذروة في التعامل مع شباب المخرجين،
الذين ولدوا
بعد سنوات غير قليلة في بداية رحلة آسيا مع السينما، مثل ممدوح
شكري.
يتمثل الملمح الثاني في نوعية وموضوعات الافلام فقد قدمت آسيا الافلام
المصرية الشاملة لكنها تميزت مبكرا بالجرأة والمغامرة، عندما قدمت أعمالا
تقترب
من دائرة الخيال العلمي: »عيون ساحرة«
وكانت شجاعة جسورة عندما تحمست لتجربة
كمال الشيخ الرائدة غير المسبوق: »حياة أو موت« وهو فيلم متمرد يخالف
الاعراف
التقليدية السائدة، أما عن انفرادها بانتاج الافلام الضخمة باهظة التكاليف،
فنجد نماذج لها في فيلمي »رد قلبي« و»الناصر صلاح الدين«.
الابتعاد عن
الاثارة الجنسية الرخيصة،
ومغازلة الغرائز،
هو الملمح الثالث في فلسفة آسيا
الانتاجية، فلأنها لا تستهدف الربح وحده،
أثرت دائما أن تلتزم بالمعايير
الاخلاقية والمستوي الرفيع المحترم،
دون أن تسقط في هاوية الاسفاف
والابتذال.
>
المسئولية والمتعة
يذكر لآسيا بكل الخير والتقدير حرصها
علي الانتاج رفيع المستوي،
فهي كما تقول في احد احاديثها الصحفية: »لا يمكن أن
اقدم علي انتاج فيلم الا اذا احسست بالقصة أولاً
تحمست لها وتمنيت ان اراها مجسدة
أمامي.. وعندما اجد هذه القصة اتحمس لانتاجها ولا تبهرني الا الكتابة
التي
تنبض بالاحاسيس ولابد أن تحتوي علي مشاعر انسانية فياضة. انني كمنتجة لا
انظر للمكسب المادي كهدف، وهذا في رأيي هو سر نجاح أي منتج يضع في اعتباره
الاجادة والامتياز في كل شيء في مستوي القصة والسيناريو، وفي اختيار الفنانين
والفنيين وفي اعطاء الفيلم حظه من الناحية المادية.
وقتها لابد أن ينجح الفيلم،
فالجماهير تعطي لمن يعطيها،
وعندما انتج فيلما،
فانني اعيش عملية خلقة، اعيش
مع الديكور ومع الموسيقي ومع احاسيس الممثلين ومع رؤية المخرج وقبل هذا مع
القصة
وكيف يحولها السنياريست الي فيلم علي الورق،
واذهب الي الاستوديو أثناء العمل،
فهذه مسئوليتي ومتعتي أيضا«.
النص المكتوب بشكل جيد هو اساس نجاح الفيلم عنه
آسيا والعمل الجماعي ضمانة للتفوق،
والمنتج الواعي المحترف لا يبحث عن الارباح
المادية وحدها، فالمال ليس هدفا في ذاته
والاتقان الفني هو الذي يمهد السبيل
للاقبال الجماهيري الذي يعني الكسب الاكيد..
لابد للمنتج ان يسعي الي التواصل مع
الجمهور، وان يتفاعل مع متطلباته واحتياجاته فالعملية السينمائية لا تولد
من
فراغ، لكنها تعبير عن واقع معقد لا يتوقف يوما عن
التغيير والتبدل.
تنم
كلمات آسيا عن ادراكها العميق للانتاج السينمائي علي اعتبار انه عملية
ابداعية،
وبذلك تحطم الصورة النمطية السلبية التي
تقدم المنتج في صورة أقرب الي التاجر
الذي لا يستهدف الا المكاسب دون النظر الي اعتبارات أخري.
يمكن ايجاز رؤية
آسيا داغر للانتاج السينمائي، فنا وعلما واقتصادا في كلمتين قالتهما في بساطة
ووضوح: المسئولية والمتعة فلابد للمنتج ان يحس بمسئولية العمل الذي يخاطب
الوجدان
ويشكل السلوك، ولابد له ايضا ان يستمتع بعمله لكي يمتع من يستقبلونه.
تتزوج
السيدة آسيا داغر الا مرة واحدة وكانت ابنتها الوحيدة مني ثمرة لهذا
الزواج، وقد
عملت مني في مجال التمثيل وانتشرت في الخمسينيات عبر عشرات الادوار، ثم
تزوجت من
المحامي علي منصور، واثرت مثل أمها أن تبتعد عن التمثيل وتتفرغ لحياتها
الزوجية.
مما يذكر لآسيا حرصها الواضح علي الفصل بين حياتها الشخصية وعملها
الفني، ويشير المعاصرون لها والمتعاملون معها الي امتيازها بالادب واللباقة
وخفة الظل والذكاء والتواضع ومن ناحية أخري فانها كانت تميل
الي العزلة وليس أول
علي ذلك من قولها: »انا اعشق العزلة ويطيب لي ان انفرد بنفسي بعيدة عن كل
المجتمعات وليس معني هذا انني اكره الناس ومشاركتهم الحياة ولكنني الفت ان
اكره
الصخب والضجيج الذي يحيط جوانب الحياة احيانا لا استخدم طباخا
في بيتي لانني اجد
متعة في ان اطهو وجباتي بنفسي«.
بعد ان تجاوزت الثمانين بعامين توفيت آسيا
داغر في يناير سنة
٦٨٩١
لكنها توقفت عن الانتاج السينمائي قبل رحيلها باكثر من
عشر سنوات، لاشك ان التقدم في العمر قد لعب دورا في قرار الاعتزال كما ان تغيير
المناخ العام كان له دوره، فهي تنتمي الي جيل مختلف من حيث المباديء والقيم
والايقاع.
لقد اختلفت الظروف الانتاجية،
ولم يعد السائد هو نفسه المهيمن في
عقود سابقة. ليس للسيدة آسيا ان تصادر علي الجديد، وليس من حق الآخرين ان
يطالبوها بالعمل وفق قواعد لا تروق لها،
ولا تجد فيها ما يشبع احساسها الانتاجي
والفني.
وحلت السيدة آسيا بعد ان حظيت بحب الملايين ممن قدروا لها اخلاصها
ودأبها فضلا عن حصولها علي جوائز غير قليلة حصدتها افلامها المتميزة تعددت وجوه
التكريم لشخصية المنتجة الرائدة،
فقد منحتها الحكومة السورية نيشان الاستحقاق،
ففازت بجائزة الدولة في مصر بمناسبة اليوبيل الذهبي للسينما المصرية.
كانت
السينما ومازلت وسوف تبقي دائما، مسئولية عند صانعيها لكنها مسئولية ممتعة،
وليس أخطر علي وجدان الامة من سيطرة التافهين والسطحيين علي الانتاج، عصب
العملية السينمائي، فأمثال هؤلاء يدمرون وينسفون ويشوهون الوجدان والعاطفة،
ويزرعون الوعي الزائف.
الاحتياج عظيم الي منتجين علي شاكلة آسيا داغر،
صانعة البهجة، ورافعة راية التميز والاحتراف،
والواعية بوطنية وانسانية العمل
الذي وهبت له عمرها وانفقت فيه معظم سنين حياتها.
أخبار النجوم المصرية في
12/09/2009 |