أريحية إيطاليي «ليدو»
البندقية متوافرة في كل مكان، في مهرجانها السينمائي العريق. إنهم قانعون
بأن ما
جلبوه لأيامه هو الأفضل بين حزمة الأفلام التي ترغب في مجملها اصطياد أمجاد
منافسه
في المهرجان الفرنسي «كان». وهم أيضاً متفضّلون على الجميع،
بشمسهم وبحرهم وأهوار
مدينتهم المحروسة بين الماء والماء؛ فالأرض البعيدة تحوّلهم الى ما يُشبه
كائنات
بحرية تسبح في الاتجاهات كلّها، لتفادي الوقوع في شباك المحتالين الوافدين.
إنها أم
المدن المحتالة، التي تبيع كل شيء، بما فيه سحر السينما. ما
يسترعي المرء في صالات
عروض البندقية أريحية مشاهديها الذين لا يتوانون عن التصفيق بحرارة لأي
فيلم،
يكملون قراءة «تيترات» ختامه حتى، وإن كان ثقيل الظل، على منوال جديد
المعلم
الفرنسي جاك ريفيت «36 منظراً لحافة سانت لوب»، أو عمل صفيق
كفيلم المخرج الجزائري
مرزاق علواش «حراقة»، الذي حوّل مأساة عابري الموت الشمال أفريقي إلى لعبة
مخاتلات
بين شباب يواجهون محنة الموت، ويرسّم البطولة إلى بعضهم، رغم أنف الطبيعة
البحرية،
التي لن يفلت منها أحد إلاّ بمعجزة فاتت حصافة صاحب «عمر
قتلاتو». يُصفّق
الإيطاليون بأناقة، كأنهم يحيّون أنفسهم، فيما لا يتردّد من يأتي إلى
كروازيت «كان»
عن التعبير بصلافة عن احتجاجه لرداءة فيلم
ما، محمّلاً إدارته خطل الاختيارات.
غلاء ومُتَع
الغريب أن «ليدو» البندقية لا ترحم أحداً في غلائها الفاحش، في
وقت تناور الأخرى على الجميع بأسواق شعبية ومطاعم كثيرة ومقاه متهاودة
الأسعار، وإن
ابتعدت عن المركز قليلاً. نحار في السؤال: لماذا الجميع مقتنع بالفخ الذي
ينصبه أهل «ليدو»، الذي يستهدف في المقام الأول ما في
جيوبهم و»كارتات» مصارفهم. الجواب
بالطبع موجودٌ في حيلة السينما: ففي لسان بحري، لا شيء فيه سوى العروض،
والكثير
منها، لا يصادف الوافد متعاً كثيرة سوى بريق الشاشات. وكلّما فلح في رفع
أرقام
مشاهداته، اعتبر ذلك إنجازاً يستحق التصفيق.
السينما وعروضها في البندقية
مدفوعة الأجرة بطريقة ملتوية، لا يتمكّن النقاد والصحافيون
تجاوز قوانينها. المبدأ
هنا: «إدفع.. تُشاهد»، ومن دون هذا، يُترك الوافد حرّاً في الجيلان في
شوارع شبه
فارغة، وفي أن يقف أمام أبواب فنادق كانت في أيام عزّها تعج بفضوليي
النجوم، أما
اليوم فهي واجهات حزينة وكئيبة. هل وصل البؤس في «ليدو» إلى
هذا الحدّ؟ للوهلة
الأولى، يرى الوافد أن الحال تغيّر، ويجد العذر في الأزمة الاقتصادية التي
كادت،
قبل أربعة أشهر، تُخرب عرس الكروازيت. لكن، ما إن تمرّ الأيام، حتى يقف على
حقيقة
الفخّ الذي يستهدف محفظته. فمهووس السينما هذا يتحقّق مراده
بأكبر عملية تحايل:
عروض في خيم لا تمنع ضجيج الشوارع المحيطة، وصالات مقيتة الطرز ومتعبة
المقاعد،
ومطاعم رديئة المآكل ومرتفعة الأسعار. إذاً، لماذا نحن جميعنا هنا؟ أولاً،
لفضول
الفيلم. ولاحقاً، لمعرفية السينما. وأخيراً، لغبطة المشاهدة.
قانون مهرجان
البندقية لم يُحرّف، باعتباره الأعرق والأكثر تمايزاً، بل بقي محافظا على
سرّه،
كونه أحد فضائل الفاشيّ موسوليني وحزبه الذي توالد لاحقاً بأسماء جديدة
حافظت على
مبادئه خفية. بقيت إدراته المتوالية تحارب من أجل إعلاء جودته
وتحصينها. ولعلّ قيصر «ليدو»
ماركو موللر أفضل نموذج إداري لتسيير أعماله. فكلّما اقترب ميعاد تنظيمه
وعلا نواح التخويف بموت المهرجان، تأتي القدرات الحكومية لتسعف دورته بشق
الأنفس،
وتضمن للجميع حيلة إضافية: إنهم قادمون الى «ليدو» لا محالة.
تشافيز ممثلاً
في النصف الأول من هذه الدورة، كانت العروض أكثر من مفاجئة بتنوّع
مستوياتها،
وبدا بعضها مناسباً للبندقية أكثر من غيرها، وحمل خبطات إعلامية لا مثيل
لها بين
نظائرها. فيوم الاثنين الماضي، تفاجأ أهل «ليدو» بالرئيس الفنزويلي هوغو
تشافيز
يسير بينهم، قبل أن يتوجّه إلى السجادة الحمراء التي تقود إلى
قصر السينما،
متمختراً أسوة بنجوم هوليوود، وليشرف بنفسه على العرض الرسمي الجديد صاحب
«دبليو»
و»وول ستريت» و»سفاحون بالفطرة» المخرج
الأميركي أوليفر ستون «جنوب الحدود» (خارج
المسابقة)، الذي كان تشافيز بطله. يعدّ العمل الوثائقي الجديد
هذا، الذي شارك في
كتابته الناشط البريطاني طارق علي، استكمالاً لسلسلة ترصد نشاطات رؤساء
مثيرين
للجدل، أُنجز منها سابقا اثنان حول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات
ونظيره
الكوبي المتقاعد فيديل كاسترو. حافظ ستون على نظامه الاستعراضي
القريب إلى روح
التلفزة، وقارب عوالم الرئيس الذي لقبته إدراة جورج بوش بـ «الديكتاتور»،
وحاوره عن
الاشتراكية ومفاهيم المحاصصة الاقتصادية ومعاداة الولايات المتحدة
والديماغوجية
الإعلامية ومستقبل الانقلابات في القارة، وغيرها. ويأتي هذا
الاشتغال المسيّس ليضيف
نبرة انتقادية أميركية غير مسبوقة في «ليدو»، تعزّزت بفيلم مواطنه المشاغب
مايكل
مور «الرأسمالية: حكاية حب» (المسابقة الرسمية). كما غرابة العنوان، تكوّنت
فصوله
التي حاولت قدر الإمكان عدم التفذلك بشرح تعقيدات رأس المال
ونظمه في الولايات
المتحدة. وكثّف مور هذه المرّة من التعريف بخفايا الأزمة المالية التي عصفت
بأسواق
العقارات في البلاد، قبل أن تهدّ الشركات الكبرى في أكبر «عملية تحايل في
التاريخ»،
بحسب تعبيره. ولئن صاغ هذا المخرج النبيه فيلميه «فهرنهايت
911» عن السياسة
الخارجية العدائية لإدارة جورج بوش، و»سيكو» عن سياسة التأمين الصحي التي
تستنزف
فقراء أميركا، فإن النص الجديد موجّه بشكل مباشر إلى جمهور محلي. ذلك أن
جداله حول
العناصر الأولى التي أدّت إلى وقوع «الجريمة»، لا تمسّ في
أحوالها الإعلامية سوى
ابن الشارع الأميركي، الذي نراه مكلوما وهو يتنازل عن منزله ليردّ دينه إلى
شركات
العقارات العملاقة ومضاربيها.
نقد الرأسمالية
بدا جليا أن مور أدرك أهمية
إزاحة طلّته عن الشاشة لفترات طويلة، على خلاف نصوصه الأخرى،
التي أُثقلت بسحنته
وصوته معاً، مفسحاً المجال على مدى ساعتين إلى مناقشات حامية للجرح الغائر
في
الضمير الاقتصادي لأم الديموقراطيات في العالم. وهو يهزأ من الجميع من دون
استثناء،
ويكشف بطريقته تواطؤ إدارة بوش ومستشاريه الماليين في الأزمة، والخيوط
الخفية التي
أرادت ان تتحكّم بالأسعار والأسواق العالمية وبورصاتها، قبل أن يحيط مباني
بورصة
نيويورك والإدارات المالية في «وول ستريت» بأشرطة الشرطة التي تشير إلى
موقع جريمة،
ويدعو موظفيها إلى الاستسلام والخضوع للمقاضاة الشعبية. قبل هذا، رصد مور،
بحسيّته
الوثائقية وحشريته الشخصية، الانتفاضات الشعبية التي انتقلت من أماكن العمل
إلى
الجوارات الاجتماعية «الكومونات»، مقدّماً إياها بفصول حملت
أنفاسا نوستالجية إلى
ثورات أوروبا العتيدة. ويقارن في بعضها ردود فعل الإدارات، قديمها وجديدها،
كما هو
الحال في دعم الرئيس باراك أوباما لعمّال اعتصموا في مصنعهم، ووقف مع تأمين
حقوقهم،
الأمر الذي حفز منتقديه إلى شتمه بنعوت «الأحمر» و»الاشتراكي»، ليقارب هذا
بما فعله
الرئيس روزفلت أثناء أزمة الثلاثينيات، الذي للغرابة لم يواجه
اعتراضات، بل تحصّن
بألقاب أضافها عليه ممثلو الحزبين الكبيرين، مثل «العطوف» و»حامي الأمة».
لسان حاله
يقول إن الأزمات لن تختلف طالما أن السياسيين يتوارثون الدهاء والمناورة.
على
المنوال نفسه، جاء فيلم المخرج الموهوب ستيفن سودربيرغ «المخبر» (خارج
المسابقة)،
المقتبس عن قصة حقيقية لمحتال عمل بشكل شخصي على خطة جهنمية، حصد منها 11
مليون
دولار، بتوريطه أكبر شركة تجارية أميركية متخصّصة بالمضاربة في الأسواق
العالمية
لمحاصيل الذرة. يسرد الفيلم حكاية الموظّف الكبير مارك وايتكير
(أداء مشع لمات
دامون، في خامس تعاون له مع سودربيرغ)، الذي وجد، بسبب مسؤولياته الكبيرة
والنافذة،
ثغرات قانونية وإدارية مكّنته من عقد صفقات مع شركات يابانية وكورية
ونيجيرية، نفخت
حساباته المصرفية بملايين الدولارات التي لم يحلم بها، من دون
أن يثير شكوك رؤسائه.
وكما أن السارق لا بدّ من أن تفضحه أفعاله، يستمرئ مارك ثقتهم ليرتكب
الحماقة تلو
الأخرى، ويقع رويداً رويداً في مصيدة «المكتب الفيدرالي للتحقيقات»، بعد أن
يترسّم
مخبراً طوعياً له لكشف تلاعبات أصحاب الشركة العملاقة ومديريها. نتابع،
بإيقاع
سينمائي متوهّج هو إحدى فرائد حرفية سودربيرغ، غرق مارك في يمّ
أكاذيبه، وعندما
يُحاصر نهائياً، لا يجد في جعبته سوى حجة واحدة: إنهم يسرقون البلايين، وهو
لم يفعل
سوى مشاركتهم الجريمة، التي يكرّرها من دون كلل، قبل أن تنهره زوجته جينجر
للكفّ عن
الكذب.
مثلما أراد مارك، الذي لقّب نفسه مازحاً بـ«العميل 0014»، بسبب كونه «أكثر حنكة مرّتين من جيمس بوند»، تعرية
نظام قائم على الحيلة، كشف أن قوة قانون
هذا النظام غير كفيلة بإرجاع السرقات، فما البال بثروات طائلة
تتسرّب إلى حسابات
مجهولة ضمن صفقات مريبة. افتتح سودبيرغ نصّه بطلّة بطله وشاربيه ونظّارتيه
المميزتين، واختتمه بعد 108 دقائق بسحنة شخص أصلع ذي كرش عارم، يحتضن
عقيلته أمام
باب السجن حرّاً طليقاً، بينما ظلّ صيت ملايين احتياله طيّ
الكتمان. ذلك أن مارك
هو، في الوجه الآخر للحكاية، اللص الصغير الذي يجب أن يدفع ثمن خياناته من
دون أن
يُمحق نهائيا، فنظام بهذا التعقيد ليس عليه أن يفقد أبناءه الأذكياء، وإن
كانوا
مدنّسين.
)البندقية(
السفير اللبنانية في
10/09/2009 |