ربما لا نكون بعيدين كثيراً من الحقيقة إن قلنا ان أدب الجاسوسية، كان
الأدب الأقرب الى السينما دائماً، ومنذ بدايات السينما. وآية ذلك ان من
النادر ان نجد اليوم رواية من هذا النوع لم تحوّل الى فيلم أو أكثر، على
مدى القرن ونيّف اللذين بلغهما عمر الفن السابع. كما اننا من النادر ان نجد
فيلم تجسس سينمائياً غير مأخوذ من رواية أو قصة نُشرت قبل ظهوره. ولعل في
إمكاننا ان نجد الأمرين طبيعيين. فمن ناحية يتمتع أدب الجاسوسية بقدر من
التشويق وبأبعاد بصرية ومواضيع سياسية وصراعية، وملامح غموض تجعله صالحاً
كي يُحول الى أعمال بصرية (السينما أولاً، ثم التلفزة)، ومن ناحية أخرى،
نعرف ان عدداً كبيراً من روايات التجسس وقصصه أُخذ من الواقع منوعاً عليه،
لاعباً فيه، وغالباً على يد كتّاب كان سبق لمعظمهم ان خاضوا مهنة التجسس في
شكل أو في آخر، ولا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة، بحيث ان غزارة
هؤلاء الكتابية معطوفة على تجاربهم الشخصية، إضافة الى ما نمّاه لديهم
عمهلم التجسسي من قدرة على التخيل والاستنباط، كل هذا جعل الكتّاب بالكاد
يتركون شيئاً - أو موضوعاً، أو مواصفات - لسينمائيين يحاولون اختلاق
مواضيعهم للسينما مباشرة. ولنضف الى هذا ايضاً، أن غموض لعبة التجسس،
والتشويق الذي تتركه لدى القارئ، يخلفان لدى هذا الأخير، لعبة تصوّر بصرية
تجعله قادراً على خوض اللعبة التي تنقل الأحداث والشخصيات من حيز التلقي
اللغوي، إلى حيز التلقي البصري... ما يسهل عليه تقبل الفيلم.
وعي سياسي
كل هذا جعل إقبال السينمائيين على روايات التجسس، الحقيقية أو
المتخيلة، أمراً
مفهوماً، بل طبيعياً، بخاصة ان القرن العشرين، الذي يعتبر في شكل أو في
آخر، قرن
السياسة بامتياز، خلّف لدى مئات الملايين من البشر، نوعاً من الفرز والوعي
السياسيين، سهّل لعبة التلقي على أساس ان سينما التجسس هي في
غالبية الأحوال، سينما
سياسية، ولا سيما في ما يتعلق بالصراعات الكبرى التي عرفها القرن العشرون:
بين
النازية والعالمين الاشتراكي والغربي، ثم بين المعسكر الشرقي (الاتحاد
السوفياتي
وتوابعه) والمعسكر الغربي في مرحلة لاحقة. وبعد ذلك بين العالم والإرهاب...
مروراً
بالحروب الكثيرة، التي كان جانبها الاستخباراتي يضاهي في أهميته جانبها
العسكري.
كل هذا... وغيره ايضاً، صنع نوع السينما الجاسوسية وربطها بأدب التجسس
بحيث صار
الاثنان واحداً أو عنصرين يتكاملان تماماً. ولعل ملاحظة أساسية تفرض نفسها
هنا، وهي
ان التضافر بين ادب التجسس وسينما التجسس، رجح في معظم الحالات اسم الكاتب
على اسم
المخرج، ولا سيما بالنسبة الى الأفلام الكبيرة الأساسية... وعلى وجه الخصوص
في ما
يتعلق بالنصوص الكبرى، التي كتبها كتّاب كانوا في شكل أو في آخر عملاء
سابقين... او
دائمين حتى. إذ فيما ينسى كثر اسماء مخرجي «الرجل الثالث» و
«الجاسوس الذي أتى من
الصقيع» أو «خياط باناما» أو «الأميركي الهادئ»... يعرف الجمهور اسمي جون
لوكاريه
وغراهام غرين (صاحبي الروايات الأصلية) - (راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة).
جواسيس من كل مكان
بعد هذا، لا بد من التساؤل: ما هو العدد الإجمالي للأفلام المأخوذة عن
روايات أو
قصص جاسوسية؟ يقيناً أن الجواب الوحيد الممكن هو: انه على عدد النصوص
الجاسوسية
التي صدرت في القرن العشرين تقريباً. وإذا كان من المنطقي القول ان من
الصعب على
أحد ان يحصي القصص والروايات، وحتى الكتب التي تؤرخ لجواسيس
حقيقيين، فمن المنطقي
كذلك الافتراض ان من الصعب تحديد العدد. ومع هذا، قد يجازف المرء ليقول، إن
العدد
بالآلاف. وإذا كان في وسع مؤرخ ان يقول ان العدد الأكبر من هذه الأفلام -
الآتية،
بخاصة، من اميركا وبريطانيا، ولكن ايضاً، من سينمات كثيرة أخرى
في العالم، وحتى من
السينما المصرية التي قدمت في هذا المجال إسهامات لا بأس بها، من «كشف
المستور»
للراحل عاطف الطيب، الى «دموع في عيون
وقحة» و «الصعود الى الهاوية» - حقق في عروضه
نجاحات لافتة، فإن في الإمكان القول ايضاً، ان النجاحات
الكبرى، وإذا استثنينا
ظاهرات مثل أفلام جيمس بوند وغيره من العملاء الخارقين، كانت متطابقة مع
اختيارات
نقاد ومؤرخين تتحدث عن افلام جاسوسية
مميزة. وفي شكل عام، يختار هؤلاء، من بين ألوف الأفلام، ما لا يزيد عن مئة
فيلم
يعتبرونها الأفضل... ويجدر القول هنا انها ليست كلها من الأعمال التي حققت
ما كانت
تستحقه من نجاح جماهيري، لكنها عاشت كلها ولا تزال، بعد ان نسيت أعمال
كثيرة، من
هذا النوع، شوهدت من قبل عشرات الملايين.
اما من بين هذه الأفلام المئة، فإن ثمة ما لا يقل عن ثلاثين فيلماً،
تعتبر عادة،
من بين اعظم الأعمال السينمائية في تاريخ الفن السابع. ولأن ليس في الإمكان
هنا، في
مثل هذه العجالة، ان نورد اية لوائح كاملة بأسماء هذه الأفلام ومواضيعها،
قد يكون
كافياً، إجمال أمرها في بضعة سطور.
ففي المقام الأول هناك، بالطبع، بين الأفلام العشرة الأفضل في هذا
النوع، فيلم «الجاسوس
الآتي من الصقيع» عن أولى روايات جون لوكاريه (1965) ومن لوكاريه ايضاً
افلام عدة أخرى، يمكن التوقف من بينها عند «الفتاة ذات الطبل» و «الجنيناتي
الدؤوب». في المقابل كان ألفريد هيتشكوك، على رغم ارتباط اسمه
بأفلام التشويق
البوليسية، مهتماً بسينما التجسس، وعلى الأقل خلال مرحلتين من مساره
المهني: قبيل
الحرب العالمية الثانية وأثناءها (حين حقق بخاصة افلاماً ضد النازية
وعملائها من
ابرزها «الدرجات الـ39» و «السيدة تختفي»)، ثم لاحقاً خلال
الحرب الباردة، حيث حقق
افلام تجسس يعتبر بعضها («شمالاً بشمال غرب» و «الستارة الممزقة») علامات
في تاريخ
النوع. علماً أن كثراً يضعون «الدرجات الـ39» و «شمالاً بشمال غرب» في مقدم
أفلام
النوع.
وفي شكل عام، إذا كانت افلام جيمس بوند لا تلقى حظوة فنية لدى النقاد
والمؤرخين،
فإن ثمة من بينها، فيلماً واحداً على الأقل يلقى هذه الحظوة ويصنّف بين
افضل عشرة
أفلام تجسس في تاريخ النوع، وهذا الفيلم هو «من روسيا مع اطيب التمنيات»
(1962).
وفي الإطار نفسه تأتي طبعتي فيلم «المرشح المنشوري» (الأولى من إنتاج عام
1962،
بإخراج مميز من جون فرانكنهايمر، والثانية من إنتاج عام 2004، بإخراج
جوناثان ديم)،
عن رواية نشرها ريتشارد كوندون عام 1950، لتحتلا مكانة مميزة، علماً أن
الطبعة
الأولى، والتي قام ببطولتها فرانك سيناترا، اعتبرت نوعاً من التنبؤ بمؤامرة
حيكت
لاغتيال جون كنيدي...
طرافة وحب
وفي سياق يدنو كثيراً من عوالم هتشكوك التي يختلط فيها التجسس
بالطرافة والحب،
يأتي فيلم «شاراد» لستانلي دونان تنويعاً لطيفاً على النوع، فيما يأتي
«عميلنا
فلينت» (من بطولة جيمس كوبرن) تنويعاً طريفاً وذكياً على جيمس بوند. وفي
مجال آخر،
ضمن إطار افلام أتت دائماً لتفضح ممارسات الـ «سي آي إي» يمكن
التوقف عند فيلم
سيدني بولاك المميز «ايام الكوندور الثلاثة» (1975) الذي وفر لروبرت ردفورد،
واحداً
من افضل أدواره، حيث افتتح سلسلة شخصيات تتمرد على وكالة الاستخبارات
الأميركية
فتسعى هذه الى التخلص منها، بعدما استنفدت خدماتها وأوقعتها في
حيرة ومأساة ضمير
إزاء هذه المهنة.
واستقاء من الواقع التاريخي، يأتي فيلم «يوم ابن آوى» من إخراج فرد
زينمان،
ليتحدث عام 1973، انطلاقاً من رواية مميزة لفردريك فورسايت، عن محاولة
دبّرت
بالتعاون بين الاستخبارات الأميركية وعصابات اليمين المتطرف الفرنسي
لاغتيال
الجنرال ديغول. وهي واقعة حقيقية حتى وإن كانت الصياغة الروائية اشتغلت
عليها في
شكل جعلها أقرب، في التفاصيل، الى العمل التخييلي.
ومن زمن أقرب إلينا، تصلنا ثلاثيتان تمتان الى النوع بصلة نسب قوية،
بل بالأحرى،
تحاول كل منهما على طريقتها ان تجدد في عدد من الأنواع مازجة في ما بينها.
الثلاثية
الأولى من كتابة توم غلانسي وتتألف من الأفلام «صيد أكتوبر الحمراء» (1990)
و
«ألعاب
وطنية» (1992) و «قمة المخاوف» (2002)... ومن المعروف ان هذه الأفلام
الثلاثة تنوع على موضوعات الحرب الباردة، ومحاولات إيذاء الوطن الأميركي
بتناول
قمته - الرئاسة - اغتيالاً، أو الإرهاب الدولي، متتبعة بأسلوب مشوق،
الأحداث
السياسية الكبرى، عند نهايات القرن العشرين. أما الثلاثية
الثانية فهي تلك التي
تتابع مغامرات جاسون بورن (يقوم بالدور في شكل استثنائي مات ديمون)، عبر
قصص لروبرت
ليدلام. هذه الثلاثية تكاد، انطلاقاً من شخصية بورن وموقعه وأزمته، تنتمي
في آن
معاً، الى افضل ما في جيمس بوند، متوغلة في الوقت نفسه في عمق
أعماق شخصيات سمايلي (لوكاريه)
وكذلك بطل «ايام الكوندور الثلاثة»...
طبعاً، يمكن الإيغال في هذا السرد الى ما لا نهاية، لكن الحيز يتوقف
بنا هنا.
إنما بعد ان نذكر فيلماً يعتبره كثر قمة القمم في هذا النوع، وهو
«الرجل
الثالث» الذي يعتقد كثر انه من إخراج أورسون ويلز، لكنه في الحقيقة، فقط،
من
تمثيل هذا الأخير... ومن إخراج كارول ريد. والواقع ان ثمة، في صدد هذا
الفيلم، سوء
تفاهم آخر. فهو، إذ يحمل اسم غراهام غرين ككاتب، يجعل كثراً
يعتقدون أن الفيلم
مأخوذ من رواية لصاحب «عميلنا في هافانا» و «الأميركي الهادئ»... لكنه في
الحقيقة
نص كتبه غرين خصوصاً للسينما، ثم عاد بعد ذلك وصاغه في رواية. وكما نعرف،
فإن هذا
الفيلم، الذي حقق عام 1949، كان أول تدخل سينمائي حقيقي في
الحرب الباردة وتدور
أحداثه في فيينا، من حول أحداث شخصية واستخباراتية وسياسية يؤهله تشابكها
ومناخه
العتم وغموضه وألغازه، لأن يعتبر واحداً من أعظم إسهامات الأدب التجسسي في
تاريخ
الفن السابع.
*
الأسبوع المقبل: الخيال العلمي وشركاؤه
الحياة اللندنية في
04/09/2009
بوند: رجل الأخطار والنساء والآلات
الحديثة
المعادلة بسيطة جداً وتتمحور حول سؤال: هل يمكن أحداً، يا ترى، أن
يأتي بكاتب
معاصر، ليضع قصة وسيناريو يستكملان مغامرة بطل «الرجل الثالث»، فيلم كارول
ريد
المبني على سيناريو كتبه غراهام غرين... أو حكاية بطل «الجاسوس الآتي من
الصقيع»
لجون لوكاريه؟ الإجابة «أبداً» وبكل بساطة. وفي المقابل نعرف أن السينما
التجارية،
وبعدما استهلكت العشرين رواية التي رسم فيها ايان فليمنغ «مغامرات الجاسوس
جيمس
بوند»، عمدت في الفيلم الذي حقق أخيراً بعنوان «جماعة البهجة»
وفي الفيلم التالي
له، الذي ينجز حالياً، الى الاستعانة بكتاب طلب اليهم أن «يؤلفوا» حكايتين
جديدتين،
لم يكتبهما فليمنغ أبداً، لكنهما تبدوان وكأنهما من كتابته. فما معنى هذا؟
معناه أن
مغامرات جيمس بوند، تُستقى من نصوص مفبركة ومصاغة كما تصاغ المعادلات
الحسابية،
فيما نعرف أن حكايات «الرجل الثالث» و «الجاسوس الآتي من
الصقيع» آتية - بأفلامها
-
من تجارب انسانية وجهود أدبية. ومن هنا يصح أن نقول إن «سينما جيمس بوند» -
كما «أدبه» - هما ظاهرة أكثر منهما فناً
حقيقياً. وبالتالي إذا كان ثمة حديث يمكن أن
نبدأ به أي كلام عن جيمس بوند، ومؤلف مغامراته، وأفلامه، فإن
هذا الحديث لن يكون
سوى حديث الأرقام. فما أمامنا هنا، في الروايات العشرين، والأفلام التي ربا
عددها
على الدزينتين، انما هو مشروع تجاري ناجح. انه مشروع ناجح الى حد مذهل، إذا
ما
انطلقنا من أكبر الأرقام: 4 مليارات دولار... وهو مجموع مداخيل
أفلام جيمس بوند حتى
اليوم، بحسب أكثر الأرقام تواضعاً.
طبعاً، ليس صعباً أن ندرك أسباب هذا النجاح، لأعمال كان من الواضح ان
مؤلفها لم
يسع ومنذ قرر الكتابة، فيما كان لا يزال عضواً ناشطاً في جهاز
M16
الاستخباراتي
البريطاني، الى الاستقاء من تجاربه الشخصية، بل الى رسم صورة مؤمثلة وطريفة
ومقبولة
جماهيرياً لبطل لخص فيه كل الأفكار الشعبية حول البطولة الحديثة: البطولة
التي
تؤسطر العميل جاعلة منه في آن معاً زير نساء، وبطلاً لا يقهر
يمكنه وحده أن يتغلب
على جيش أو دولة أو عصابة من الإرهابيين، ومستخدماً فذاً لأحدث أنواع
التكنولوجيا
والأجهزة المعقدة، ولاهياً يعبث حتى برؤسائه وهو في عز عمله، ومقداماً لا
يأبه
بالأخطار ولا يهمه أن يفكر متأملاً ماضياً ما، أو مجهزاً نفسه
لمقبل معين. انه، في
شيء من الاختصار، المغامر القدوة الذي قد يحب المشاهدون - بعد القراء -
التشبه به،
أو حتى التماهي معه، إذ انه، خارج مهنته نفسها التي لا نقطة غبار عليها،
يمثل
الإنسان - النموذج.
وفي الحقيقة، فإن ايان فليمنغ (1908 - 1964) الذي رحل عن عالمنا دون
أن يدرك
النجاح الهائل الذي سيكون لبطله ورواياته طوال نحو ثلث قرن وأكثر، كان حين
يُسأل
عما إذا كان قد عرف في حياته عميلاً يشبه جيمس بوند، يضحك قائلاً:
«أبداً... كل ما
في الأمر أنني وزملاء كثر لي كنا نتمنى دائماً أن نكون
كذلك...». ولعل في امكاننا
هنا ان نقول كيف ان هذا يقودنا الى حقيقة ان اهتمام ملايين المعجبين انصبّ
دائماً،
لدى الحديث عن أفلام جيمس بوند، على الممثل الذي يقوم بالدور، حيث أن
الأعمال كلها
كانت تُركّب من حوله، من شون كونري، الى دانيال كريغ مروراً بالمنسي اليوم
جورج
لازمبي وروجر مور وتيموثي دالتون (المنسي هو الآخر) وبيرس
بروزنان... فاختيار النجم
الذي يلعب الدور، كان - الى السيارات والأجهزة الإلكترونية والنساء - أهم
عناصر
الأفلام التي - من ناحية الموضوع - تبدو دائماً متشابهة وذات نهاية سعيدة و...
تفاصيل جذابة.
قبل وفاة ايان فليمنغ لم يكن قد حقق سوى فيلمين - إذا استثنينا طبعة
أولى من «كازينو
رويال» الذي كان من الصعب في ذلك الوقت المبكر اعتباره «بوندياً» بكل معنى
الكلمة، الفيلم الأول - والأشهر بالتأكيد حتى اليوم - كان
«دكتور نو» (1962)، فيما
كان الثاني - وهو حسب كثر من النقاد الأفضل حتى اليوم «من روسيا مع أفضل
التمنيات» (1963).
وبعد ذلك، ولا سيما بعد النجاح الهائل لهذين الفيلمين، كرت السبحة، فيلماً
بعد فيلم، بل ثمة أفلام حققت مرتين («كازينو رويال» نفسه، ثم
«لا تقل أبداً...
أبداً»، الذي لم يكن سوى اعادة تحقيق لـ «ثاندربال»). وكان الجمهور يُقبل
ويُعجب في
معظم الأحيان، حتى وان كانت الظروف السياسية الدولية قد بدلت دائماً من
العدو...
الذي كان روسيا مرة، وارهابياً مرات، وعصابات دولية في بعض الأحيان وكوريا
شمالياً،
أو دكتوراً شريراً... بحسب الظروف... وحتى أميركياً استخباراتياً بين الحين
والآخر.
الحياة اللندنية في
04/09/2009
غرين ولوكاريه: العملاء الى الأدب
الكبير
إذا كان جيمس بوند، بالأفلام التي كان، ولا يزال، هو شخصيتها الرئيسة،
قد وضع
مقاييس، لا علاقة لها بالواقع، للجاسوس ومهنته، فإن ثمة «جواسيس» في تاريخ
الأدب
والسينما، يبتعدون من جيمس بوند وشطحاته، بعد هؤلاء من الواقع، ما يدفع الى
القول
-
استطراداً - إن هؤلاء الجواسيس، ينتمون مباشرة ان لم يكن الى الواقع
الكلي لحياة
الجواسيس وممارساتهم، فعلى الأقل الى واقع ما، يمكننا أن نقول ان سادة
الكتابة
الذين «ابتدعوهم» وعلى رأسهم غراهام غرين وجون لوكاريه، انما خلقوا شخصيات
وآداباً
تنتمي الى الأدب الكبير. فجواسيس لوكاريه وغرين، على سبيل
المثال، هم كائنات تفكر
وتحزن وتتأمل الأمور بعمق، وتنتفض على واقعها وتحاول أن تبرر تاريخها ان لم
تتمكن
من تبديله. ويقيناً اننا في هذا المجال نبدو وكأننا نصف جورج سمايلي («بطل»
الكثير
من روايات لوكاريه) أو الشخصيات المحورية في أعمال كبيرة
لغراهام غرين (مثل «عميلنا
في هافانا» أو «الأميركي الهادئ» أو، حتى، «العامل الإنساني»).
وفي هذا الإطار لن يكون مجدياً، بالطبع، أن نبرر هذه الفوارق، بين
عملاء لوكاريه
وغرين وعميل ايان فليمنغ (جيمس بوند في أكثر من عشرين مغامرة...)، بكون
لوكاريه
وغرين عاشا تجارب حقيقية في أحضان أجهزة الاستخبارات البريطانية، ذلك أن ما
ينطبق
على هذين، هنا، ينطبق أيضاً على فليمنغ، بل حتى يمكننا أن نقول
ان فليمنغ كان أكثر
انتماء الى استخبارات لندن من زميليه، اللذين كانت فترة خدمة كل منهما أقصر
من فترة
خدمته بكثير. المسألة هنا هي انه فيما راح كل من لوكاريه وغرين - وزملاء
كتاب،
خاضوا مثلهما تجربة العمل الاستخباراتي قبل الانصراف الى
الكتابة، من أمثال انطوني
بارغس ولورانس داريل، وسامرست موم -، إذاً فيما راح هؤلاء يستخلصون من
عملهم تجارب
انسانية عميقة أوصلت أدبهم الى التميز في تحليل، ليس ما يقوم به عملاؤهم،
بل تأثير
ما يقومون به في شخصياتهم، كان فليمنغ ينظر الى سطح الأمور، مركزاً على
البطولات
الخارقة، والمغامرات النسائية، وخوض الألعاب التقنية، لدى بطله
الوحيد الأوحد، جيمس
بوند.
طبعاً لن يبدل من واقع الحال والتحليل، هنا، كون أفلام جيمس بوند كانت
هي
المنتصرة، استطراداً لانتصار رواياته، في الذائقة الشعبية، كما نرى في مكان
آخر من
هذه الصفحة، فيما بقيت الأعمال المنتمية الى لوكاريه وغرين ورفاقهما،
أعمالاً
نخبوية، وخاسرة من ناحية الإقبال الجماهيري غالباً. فالجمهور
العريض له تفضيلاته،
وهي نادراً ما التقت مع الأبعاد التي يقدمها الأدب الكبير... ما يعيدنا هنا
الى
مسألة «الصراع» بين أدبين وأسلوبين، ان لم يكن بين نوعين. ومع هذا، إذا ما
تأملنا
تاريخ السينما، سنلاحظ بسرعة كيف أن ثمة مكاناً مميزاً لأعمال مثل «الرجل
الثالث»
(من
كتابة غراهام غرين واخراج كارول ريد) و «الجاسوس الآتي من الصقيع» (من
كتابة
جون لوكاريه، واخراج مارتن ريت) تفوق عشرات المرات أي مكانة تعطى لأي فيلم
جيمس
-
بوندي. ومن المؤكد أن يذكرنا هذا دائماً، بأن كاتباً كبيراً مثل
غراهام غرين، كان
يريحه أن يكتب عن العملاء - ودائماً من منطلق انساني، وصولاً، مثلاً، الى
روايته «العامل الإنساني» التي صاغ بطلها على شاكلة
الجاسوس الحقيقي كيم فيلبي الذي كان
صديقاً له ذات يوم -، كما كان يريحه أن يكتب روايات أخرى عن
الإيمان والسلطة
والقدر. كتابة روايات الجاسوسية بالنسبة الى غرين، كانت جزءاً من مسار أدبي
طويل.
وعند مستوى يقترب من هذا، يقف جون لوكاريه،
الذي، إذا كانت رواياته الأولى قد كتبت
في خضم الحرب الباردة، لتطرح، من خلال مغامرات شيقة وعلاقات
انسانية، أسئلة قلقة
حول السياسة ولعبة الجاسوسية والضمائر المعذبة، فإنه وبعد أن انتهت الحرب
الباردة،
وإذ راح النقاد يتساءلون بعد ان انهارت الخلفية التي بنى عليها متن عمله
«عما سيكتب
بعد الآن؟»، عرف كيف يواصل الكتابة مصدراً منذ ذلك الحين نحو
عشرة أعمال، لا أثر
فيها للحرب الباردة، لكنها عابقة بالقضايا والمواقف والعلاقات، التي انبنت
على أساس
لعبة التجسس، ولكن هذه المرة، مرتبطة بهموم الإنسان (البيئة، الاحتكارات
الصناعية،
كما في «الجنيناتي الدؤوب» أو عالم الخيانة والغدر، كما في
«أغنية التبشير»، أو حتى
عالم الإرهاب «الرجل المطلوب أكثر من غيره»، آخر أعماله حتى الآن...).
من هنا، يمكننا ان نقول، أمام متن جاسوسي، حُوِّل معظمه الى أفلام
سينمائية...
ان كتّاباً مثل لوكاريه وغرين، نقلوا أدب الجاسوسية - وسينماها بالتالي -
الى مكانة
عليا، بعدما ساهمت مئات الأعمال الترفيهية - جيمس بوند وشركاؤه - في تحويل
هذا
الأدب عن السياق الذي كان صنعه له كبار مثل فينمور كوبر وجوزف
كونراد، لجعله مجرد
أدب مغامرات جماهيري وترفيهي، يصلح لأفلام تدر مئات الملايين، لكنها لا
تبعث شعوراً
ولو طفيفاً، أو فكرة ولو بسيطة لدى المتفرجين.
الحياة اللندنية في
04/09/2009 |