مع بداية الثمانينيات، وفي مهرجان صغير جدا، في مدينة «كنوكاهيست»
البلجيكية، التقيت للمرة الأولى بالنجم الاسترالي الأصل الأميركي المولد
ميل
غيبسون، وبعدها باسبوعين تكرر اللقاء في مهرجان فينيسيا (البندقية)
السينمائي
الدولي حيث حضر ليقدم الجزء الثاني من سلسلة أفلام «ماكس
المجنون» ويتكرر اللقاء
مرات ومرات، ومن خلال شركته «ايقونة» تشرفت بحضور تصوير مشاهد من فيلمه
التحفة «عذابات السيد المسيح» والذي صورت مشاهده
الداخلية، في مدينة السينما الايطالية
«تشيناجيتا»
حيث قام يومها بانتاج واخراج الفيلم، هكذا هي العلاقة مع النجم الكبير
ميل غيبسون الذي استطاع ان ينتقل خلال مشواره الفني، من مجرد ممثل افلام
مغامرات،
الى فنان يقدم قضايا الانسان، ويحتفي بالثورة ويرصد بداية
الحضارات ويمتلك موقفا
معترضا (لبعض) الممارسات اليهودية.
ولما بلغت درجات الاختلاف، حول هذا
الجانب أو ذاك، بالذات، ذلك «التسونامي» الذي قلب حياته الأسرية المستقرة،
رأسا على
عقب، وحوله من النجم النموذج في الجوانب الاجتماعية الأسرية، الى عاشق ترك
أسرته من
أجل صبية روسية الأصل.
الحديث عن ميل غيبسون، هو كل تلك المحطات والوقفات
وايضا الانجازات، ودعونا نذهب اليه اولا من خلال فيلمه الجميل ولربما الأهم
«القلب
الشجاع».
تجرى الأحداث في القرن الرابع عشر الميلادي، حينما شخص
وليم والس، ذلك الايرلندي الثائر، ليواجه جنود الاحتلال الانجليزي، وقد
تلقى ميل
غيبسون، سيناريو رائعا كتبه «راندال والس» ساهم في نقل ذلك النجم من حالة
فنية الى
أخرى.
فبعد اطنان من الأفلام المغامراتية، وملايين الدولارات، بدأ غيبسون
يتنبه، الى ان ذلك الأفق الذي يحلق به، سيضيق عليه، وعليه ان
يبحث عن مجرات وكواكب
وآفاق جديدة.
ان أفق افلام المغامرات، مهما اتسعت فانها ستنتهي، ولن يكون
بامكان نجوم من أمثال «سلفستر ستالوني» العودة الى أفلامهم بعد ان تقدم بهم
العمر،
ولان هذا الأخير لم يحسب حسابات الزمن، فانه اليوم يذهب الى النسيان، الا
لو جاءت
لعبة القدر، والاختيار الذكي لأعمال وشخصيات جديدة.
وهذا ما جعل ميل غيبسون
يستوعب الدرس مبكرا فيذهب الى الأفلام التاريخية تارة، والانسانية تارة
أخرى،
والاجتماعية والفلسفية تارات وتارات...
وهو في «القلب الشجاع» يذهب الى حيث
لم يذهب العدد الأكبر من نجوم افلام المغامرات، انه يكتب صفحة جديدة من
تاريخه،
وايضا من تاريخ السينما العالمية.
وفي شخصية، «وليم والس»، بل وفي فيلم «القلب
الشجاع» وضع ميل غيبسون كل ثروته وتاريخه على المحك.
ثائر اسكوتلندي،
غير الزمن، اعلن موقفه، زرع ثورة، حتى وان حصد الموت، فانه زرع ثورة، في
ضمير الشعب
الاسكوتلندي والعالم.
قال كلمته في وجه أكبر الملوك وأعظم الامبراطوريات في
ذلك الوقت، ولربما في كل وقت.
شخصية، تبدأ معها منذ طفولتها، حيث ترصد
معاناة شعبها واغتيال والده بأيدي جنود الامبراطور، عاش الحزن والألم
والفقر، وايضا
عاش التفاعل الحقيقي مع نبض الانسان.
في شخصية «والس» ميل غيبسون، بذل
الكثير، على صعيد التمثيل، حيث اللهجة الصعبة، ذات اللكنة الخاصة، وايضا
الظروف
المناخية القاسية التي صور بها الفيلم والمواقع والقلق من نتائج تلك
التجربة.
ومن أجل تأمين شيء من الحماية، فانه استعان بالنجمة الفرنسية صوفي
مارسو بدور «الأميرة ايزابيل» من أجل ضمان توزيع الفيلم في
فرنسا، وايضا لموقف
فرنسا ضد الانكليز.
بطل قومي، استطاع ان يجمع جميع أطياف الشعب الاسكوتلندي،
تحت راية الثورة ضد الاحتلال، لقد كان يعلم بانه يواجه آلة عسكرية ضاربة،
ولكنه كان
يريد، ان يزرع ثورة... ويعلن موقفا... ويضرب بقوة... ويثير أزمة... ويوجع
امبراطورية.
فيلم كبير... بل فيلم «تحفة» وكانت النتيجة الفوز بخمسة
اوسكارات، وايضا عوائد عالمية مالية ضخمة، استطاعت ان تعيد ميل غيبسون الى
توازنه،
وتجعل «ايقونة» واحدة من أكبر شركات الانتاج السينمائية المستقلة، والتي
ذهبت بعد
ذلك لعدد بارز من الأفلام ومنها «عذابات السيد المسيح» وغيره.
فيلم أحدث
نقلة في مسيرة نجم...
ونعود للبداية...
ولد ميل غيبسون، تحت اسم ميل
ككميل جيرارد غيبسون في الثالث من يناير عام 1956، في مدينة نيويورك
بالولايات
المتحدة، وهو شقيق الممثل دونال غيبسون، وقد انتقل للعيش
بسيدني في استراليا مع
والده، من أجل الهروب من الخدمة في حرب فييتنام.
درس التمثيل في المعهد
الوطني لفنون الدراما في سيدني وخلال دراسته وبعد تخرجه، قدم مجموعة من
الأعمال
المسرحية في المسارح الاسترالية، وفي عام 1976 جاءته الفرصة
الأولى مع فيلم «صيف
المدينة».
وجدير بالذكر ان ترتيب ميل كان السادس بين اشقائه الأحد عشر، وهذا
ما جعله لاحقا، يحمل الحنين للأسرة الكبيرة.
في عام 1979،
قدم فيلمين هما
«ماكس
المجنون» و«تيم» وقد استطاع ماكس ان يغزو العالم، بما فيها الأسواق
الأميركية، ورغم ميزانيته التي لم تتجاوز الخمسة ملايين دولار، الا ان
عوائده،
تجاوزت السبعين مليون دولار، مما دفع ستديوهات هوليوود تتنافس على دعم
الشركة
المنتجة لانتاج اجزاء جديدة وبميزانيات أكبر.
ولكن فيلم «تيم» منحه جائزة
افضل ممثل في استراليا ضمن جوائز السينما الاسترالية، والتي تعادل الاوسكار
الأميركية.
وفي عام 1981 قدم فيلم «غالي بولي» ليفوز من جديد بجائزة أفضل
ممثل في استراليا.
وحينما يأتي عام 1980، يأتي الحدث الاجتماعي الأبرز، وهو
الزواج من صديقته روبين مور، وهي أم اولاده السبعة، والتي طلبت منذ ايام
الانفصال
عنه، بعد ان عرفت بعلاقته مع المطربة الروسية المقيمة في الولايات المتحدة،
فيما
وصفت بانه «التسونامي» المدمر في حياة هذا النجم الذي امتاز بالرصانة
والالتزام
والاستقرار... فماذا حصل؟ هذا السؤال لا يجيب عليه سوى ميل
غيبسون
نفسه.
وتتواصل المسيرة، وفي عام 1984 يقدم نسخة جديدة من فيلم «السفينة
باونتي» أمام النجم البريطاني القدير انطوني هوبكنز.
ويبدو ان تلك النتاجات،
ورغم ترسيخها لمكانته كممثل، الا انه ظل يبحث عن نجاحات وشهرة وأموال على
ذات ايقاع نتائج فيلم «ماكس المجنون» الذي حقق منه أجزاء عدة،
ولهذا كانت البداية
من جديد لتقديم فيلم مغامرات بعنوان «السلاح القاتل» عام 1987 أمام داني
جلوفر، حين
جسد شخصية «مارتن ريجز» في أربعة أجزاء حصدت الملايين، ورسخت اسمه كأحد
أبرز أبطال
أفلام المغامرات. ولعل تلك السلسلة تعتبر واحدة من أكثر
السلاسل السينمائية دخلا في
تاريخ السينما اضافة إلى (حرب النجوم) و(انديانا جونز).
ويحن الى الأفلام
الفنية، ليقدم فيلم «هاملت» عام 1990 ويومها حصد كمية من النقد السلبي،
لأنه بالغ
في التعابير ولربما التفاسير التي يحملها ذلك النص الشكسبيري
الخالد.
وفي
الاتجاه ذاته، جاءت مجموعة من أفلامه، التي لم تصمد طويلا في شباك التذاكر
ومنها
«شباب
إلى الأبد» (1992) ورجل بلا وجه (1993).
ويأتي عام 1995، لتأتي القفزة
الكبرى والأهم.
ونقصد فيلم «القلب الشجاع» وشخصية «السير وليم والس» ليحصد
شخصياً جائزتي أوسكار كأفضل مخرج وأفضل فيلم (كونه منتج الفيلم).
ومن خلال
القوة الدافعة لذلك النجاح، حصد النجاح أيضاً عن أفلامه «المواطن» عام 2000
و«الفدية» وغيرها.
ونشير إلى أن أعلى أجر حصل عليه، كان (25) مليون دولار عن
فيلم «المواطن».
ومن خلال لقاء قديم، تشرفت بإجرائه معه في مهرجان فينيسيا
السينمائي الدولي عام 1982، حيث قدم فيلم «ماكس المجنون» سألته
يومها:
-
ما
الذي يزعجك كثيراً؟
فرد قائلا:
-
أن يتم دبلجة صوتي في الفيلم في
النسخة الأميركية، حينما ذهبت إلى مشاهدة الفيلم في الاسواق الأميركية، لم
أعرف
الفيلم، كرهت نفسي.. وكرهت الفيلم.. وخرجت.
ولعلهم قلة في العالم، الذين
يعرفون مثل هذه المعلومة النادرة.
ونشير إلى أنه كان يريد أن يعتذر عن تقديم
شخصية «وليم والس» والاكتفاء بالإخراج، ولكن الشركة الموزعة، يومها أصرت
على أن
يكون هو الممثل ويتم البحث عن مخرج، ولكن الأمور وصلت إلى أن يقوم ميل
بالتمثيل
والإخراج.
وفي حديث له مع جريدة «الغارديان» البريطانية عن الكيفية التي
استطاع بها، أن يقنع الجنود الاسكتلنديين الذين كانوا يشاركون
معه في تصوير الفيلم،
بأن «يكشفوا عن مؤخراتهم» فرد قائلاً:
-
كشفت مؤخرتي أمامهم.
ونشير
إلى أن هذا المشهد، حذف رقابياً في العالم العربي، رغم أنه يحمل السخرية من
الاحتلال.
وخلال تصوير فيلم «عذابات المسيح» (2004) كان لي الشرف أن أكون من
الصحافيين الذين تم اختيارهم من العالم لحضور التصوير سواء في
مدينة ورزازات
المغربية، أو مدينة السينما الايطالية في روما. ويومها أكد ميل غيبسون بأنه
صرف من
ماله الشخصي مبلغ (25) مليون دولار من أجل انتاج الفيلم، مشيراً إلى أنه
بدأ
التحضير لهذا الفيلم عام 1992، ولكن المشروع لم يقدم الا عام
2004، بعد أن حصل على
موافقة الفاتيكان. ولولا ذلك الدعم لكان الفيلم قد دمر من قبل شركات
الانتاج
والتوزيع والاعلام الذي يتحرك بدعم من اليهود، وجدير بالذكر أن ميل غيبسون
كان قد
تحرش مرات عدة باليهود، وكانت المرة الأولى من خلال فيلم
«عذابات المسيح» ثم من
خلال تصريحاته لبرنامج «مع لاري كينغ» ويومها اتهم بأنه كان (سكرانا) واضطر
الى
الاعتذار، لأنه وصف «اليهود بأنهم من يشعلون الحروب والمعارك في
العالم».
وعن أكثر شيء يفخر به يقول في حديث لمجلة «نيوزويك»
الأميركية:
-
أكثر شيء، يجعلني أشعر بالفخر، على صعيد حرفتي، انني مع وارن
بيتي وكلينت ايستوود وروبرت ردفورد وريتشارد اتنيرو وكيفين
كوستنر، الممثلين فزت
بجائزة أفضل مخرج في الأوسكار.
ونشير الى أن أهم الأعمال التي رفضها، كان
بينها «العيون الذهبية» ضمن سلسلة أفلام جيمس بوند عام 1995، وفيلم «باتمان» (1989)،
و«اكس من» (2000) و«المعصومون» 1987 بدور اليوت نيس الذي جسده كيفن كوستنر.
ورغم ذلك، فإن صحيفة «لوس انجلس بيزنس جورنال» تضعه في المرتبة (47) بين
أثرياء هوليوود بمبلغ (850) مليون دولار. كما يمثل فيلمه
«القلب الشجاع» (1995)
المرتبة 62 بين الأفلام المئة الأهم في تاريخ السينما ضمن استبيان معهد
السينما
الأميركية.
هل تريدون المزيد..؟
أرسل إليه المخرج مارت سكورسيزي
سيناريو فيلم «ديبارتد» (الاقلاع) 2006، لاختيار الدور الذي يريده، فاعتذر
لانه كان
يصور فيلم «ابوكاليبتو» وفاز يومها «الاقلاع» بالأوسكار. وحل مكانه
ليورناردو
ديكابيريو في الشخصية الرئيسة. ولكنه في الحين ذاته، قدم لغة
سينمائية عالية
المستوى في «أبوكاليبتو».
كما أرسل إليه لمخرج أوليفر ستون سيناريوهين هما
«جي.
إف. كي» ولكنه اعتذر ليحل مكانه انطوني هوبكنز، كما أرسل له سيناريو «مركز
التجارة الدولي» 2006 وليحل بديلا عنه نيكولاس كيج.
وحتى لا نطيل.
ميل غيبسون.. مبدع سينمائي أضاف للفن السابع الكثير من القيمة والمتعة
والإبداع.
النهار الكيوتية في
27/08/2009 |