اربع شهادات لأربعة من المشاركين في الحرب
الأهلية اللبنانية عرضت في ".. نما في بيروت". عنوان العمل: "أولها نجوى...
وآخرها!" (64 د.). الكاميرا قبالتهم ثابتة.
خلفها رجل يدعى لقمان سليم نسمع صوته.
يحادثهم. يطرح عليهم الأسئلة. حيناً ينجح في اقتناص معلومة صاخبة وحيناً
آخر يخفق.
ليس لوثيقته هذه ادعاءات سينمائية كبرى. لا
هي محاكمة ولا جلسة تحليل نفسي. محض
تشجيع على البوح بما في التجربة الحزبية والميليشيوية من خراب
ومآس. لعل الشهادات
هذه تتحول مرآة نتطلع فيها جميعاً. تقنياً، انها مسوّدة فيلم وليست فيلماً،
كما يحب
سليم التعريف عنه، امتداداً لمشروعه التوثيقي الذي يخاصم النسيان. هل ينبغي
تصديق
كل ما يبوحون به الى المخرج والينا؟ ان نصدّق او لا، فهذا شأن ثانوي أمام
ضراوة
الكلمات التي تلفظ أمامنا ولا شك في حقيقتها! ما يصدم في
المسوّدة ليس الأفعال
وانما الارتياح الذي يظهر في كلمات مرتكبيها أحياناً.
همّ التوثيق لم يبحث عنه
لقمان سليم. تكوّن مع جيناته منذ الولادة؛ انه همّ فطري غير مكتسب. كمواطن
"اعزل"
تمثل المعرفة والمحاسبة سلاحه الوحيد، وفي زمن يبدو خلاله ان ثمة حقيقة
تجنح الى
افتراس حقائق اخرى، الواضح أن عمل لقمان سليم كله يصب في هذه
الخانة: خانة الدفاع
عن النفس.
الشجاعة سمة المقاتلين وهي الصفة التي أحببنا أيضاً اعطاءها الى
الثنائي لقمان سليم ومونيكا بورغمان اللذين استطاعا تحمل قساوة
السماع الى شهادات
قتلة شاركوا في الحرب الأهلية اللبنانية، في فيلمهما السابق "مَقاتل" كما
في
فيلمهما الجديد هنا، وعلى رغم ذلك تمكنا من انجاز فيلم ينأى عن الادانة
واطلاق
الاحكام.
فعندما يكون لدى احد، المقبولية في ابادة الآخر، فهذا يعني ان الوهن
يتعلق بالمجتمع وليس بالافراد الذين يحتكمون الى السلاح لحل المشكلات.
الحرب، السلم
الهش، ومراجعة كل تلك الحقبة، وكل ذلك التاريخ من الارتكابات، العاجز عن
التحول الى
عقدة ذنب (تحث على التفكير؟!)، هذا كله كان دافعاً للثنائي لتوثيق شهادات
أشخاص
تراوح خطبهم بين فعل الندامة (أسعد شفتري) والنقد الذاتي (الياس
عطاالله) والتحصيل
الحاصل أو اللامبالاة (المقاتلان الآخران المحجوبان الوجه). "الهم الأساسي
هو كيف
يمكن امرؤ أن يستمر بالعيش في هذا البلد، الذي يمثل فخر صناعته شيئاً
شبيهاً
بالموضوع الذي نتحدث عنه"، كان يقول لقمان سليم في مناسبة عرض
فيلمه السابق
"مَقاتل" الذي يعتبر واحداً من أهم أفلام السينما اللبنانية في كل
مراحل وجودها،
مصراً على فكرة أنه عندما أصدر مجلس النواب عفواً عاماً عام 1991، لم يعف
عن
أمثاله، وإنما عن القتلة الذين دخلوا الدولة. فلقاء هؤلاء بالنسبة اليه لا
يتطلب
الا فتح دليل الهاتف، مؤكداً ان دفتر تلفونات كل منا - نحن
اللبنانيين ـ- يعج
بأرقام هؤلاء المرتكبين.
الوثائقي اللبناني تنقصه موضوعات لها علاقة بالعنف
الجماعي. هذه الثغرة يسدّها الثنائي سليم - بورغمان من خلال مشاريعهما،
ويستعينان
من أجلها بمقاربة تقوم على معرفة الوقائع من خلال الناس الذين ذيّلوها
بتواقيعهم.
"ما المطلوب مني كمواطن لبناني؟ وكيف عليَّ أن أفكر؟"، هو من الأسئلة
التي تؤرق من
يشاهد محاولاتهما البصرية الشديدة الذكاء. بعيداً من منطق "ليس ما حصل
شيئاً تسببنا
به نحن"، يضع الفيلم الجلاّد أمام أقواله (مثلما تضع دانيال عربيد "نساءها"
البورجوازيات أمام عنصريتهن وعنجهيتهن وجهلهن في "حديث نسوان 2")، ويأتيه
من دون
أحكام مسبقة، سواء لجهة البراءة او الاتهام. وهذا الموقف، على رغم كونه ليس
سهلاً
وممكناً في جميع الأحوال، فهو الذي يسمح لأصحاب الشهادات بأن
يتكلموا قبالة
الكاميرا.
العالم بالنسبة الى لقمان سليم ليس ابيض أو أسود. وليس ضحايا وجلادين.
وقتلى احياء. اذا اعتبرناهم مجرمين وانتهينا من الأمر، نكون قد حللنا
المشكلة
بتقديم اكباش محرقة لتبرئة انفسنا. "حتى افكار من طراز الحقيقة والعدالة
والمحاسبة،
لا تنزل من السماء ولا تطلع من الارض"، كان يقول سليم عن الثقافة اللبنانية
التي لا
تستبطن هذه القيم. "لذلك من الممكن ان يقتل بعضنا البعض طوال عشرات السنين،
ثم نحل
المشكلة بقانون العفو او بتحميل شخص او اشخاص عديدين تبعات الجريمة. يجب
اخراج
مصطلح اقفال الملفات من حياتنا السياسية. يجب اقفال ملف اقفال
الملفات، لأن اكبر
جريمة تُرتكب في حق اللبنانيين هي اقناعهم بأن التاريخ ملف يمكن ان يقفل.
اذا لم
تدخل تلك القيم ثقافتنا السياسية فذلك مؤشر الى اننا مقبلون على حروب
متتالية".
()
عُرض ايضاً في اطار "مهرجان الفيلم اللبناني" (20 ــ 24 الجاري/
صوفيل) فيلمان عن الحال اللبنانية المتأزمة
التي تكاد تكون ثابتة وتتحول حياة
المواطن فيها أشبه بالدوران في حلقة مفرغة. الأول، "هيدا
لبنان" (58 د.) لاليان
الراهب، غوص عميق في نمط تفكير البيئة المارونية التي تنتمي اليها المخرجة
اليسارية
الخارجة نوعاً ما على طائفتها. بين الشخصيّ والعام، تشيد الراهب جدارية
اجتماعية
مضحكة مبكية، مع صديقتها زينة صفير، في بلاد تضطلع فيها
الجماعات وعقليتها وسلوكها
بدور بارز في خرابها. الشريط مزيج من الهزل والدراسة السوسيوسينمائية، ولنا
عودة
مفصلة اليه.
أما الفيلم الثاني فهو "درس في التاريخ" (51 د.) لهادي زكاك، الذي
ينقلنا الى خمس مدارس لاطلاعنا على مدى تغير النظرة الى
التاريخ بين طائفة وأخرى.
فبالنسبة الى الشيعي مثلاًً، بطل التاريخ هو الخميني، أما الماروني فلا
يعترف الا
ببشير الجميل! وعلى رغم توحيد المنهج الدراسي، فالهوة تبدو واسعة بين ثقافة
وأخرى.
الطلاب المراهقون هم ابطال هذا الوثائقي الجيّد، وأفكارهم لا تختلف كثيراً
عن أفكار
أسلافهم، والخطورة لا تكمن الا في أن يؤدي الخلاف حول الرموز وأبطال
التاريخ الى
حروب متجددة وأبدية لا طائل منها.
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
الـ"دي في دي"، عدوّ الصالات المظلمة
الـ"دي في دي"، شأنه شأن التلفزيون سابقاً، بات
عدوّ الصالات المظلمة الرقم واحد، على رغم التحالف الذي
يجمعهما ومسارهما
المتلازمين. لكن هذه المنافسة اشتدت خصوصاً مع تنامي ظاهرة القرصنة في
أنحاء
العالم، وليس الدول النامية وحدها عانت من هذه "السرقة المنظمة" التي تهدد
مستقبل
الفن السابع. اليوم، مع الوصول التدريجي لما يسمّى الـ"بلو راي"، وهو الجيل
الجديد
من الـ"دي في دي"، ثمة اغراء جديد يضاف على قائمة الاغراءات التي تقدمها
السوق
للمشاهد للابتعاد عن الصالات المظلمة، نظراً الى النوعية التي لا تشوبها
شائبة، في
زمن تصغر فيه الشاشات السينمائية وتكبر الشاشات المنزلية. هنا استعراض
تاريخي
للـ"دي في دي" الذي سيودّع زبائنه قريباً ليصير مكانه على الرف
الى جانب الـVHS.
اذا كان الـ"دي في دي" يشكل تعويضاً سمعياً - بصرياً للسينما في المنزل،
فإن
تاريخ انتشاره في السوق العالمية يبقى غامضاً، على رغم ازدياد عدد مستهلكيه
على
مدار السنوات الماضية. ظهر مصطلح "دي في دي" للمرة الاولى في
السطر السابع من
الصفحة الثالثة في العدد 21 من مجلة "سنوات الليزر" التي صدرت في آذار
1995. المقال
الذي تناول المصطلح هو افتتاحية مخصصة للاعلان عن طرح "ستاندرد" سمعي- بصري
جديد في
الأسواق يحلّ مكان الفيديو كاسيت. في فرنسا تحالف المنتجون، فألّفوا جمعية
مهنية
تضم 12 مؤسسة تهتم بتوزيع الأسطوانات الحديثة في الأسواق بعد أن تنتهي
مؤسسة
"بايونير" من تسجيلها. تسبّب طرح هذه التقنية السمعية البصرية المتطورة
في الأسواق
بزوال الليزر ديسك أو أسطوانة الليزر. يرى بعضهم أن نوعيته التقنية التي
استحسنها
الجمهور هددت، ولا تزال، سلطة دور السينما، اذ أصبحت نسبة كبيرة من هواة
السينما
تؤثر مشاهدة الأفلام المسجلة على الاسطوانات في المنزل على
الذهاب الى الصالات.
كذلك قضى تعميمها على ما عُرف منذ سنوات بالـVHS،
ذلك ان استهلاك هذه التقنية وحدها
كان يؤمن 50 في المئة من إيرادات الفيلم الواحد، فضلاً عن
الـ25 في المئة التي ترد
من استثمارات صالات العرض والـ25 في المئة من حقوق البثّ التي تشتريها
قنوات
التلفزيون.
في الواقع يعود تاريخ الـ"دي في دي" الى بداية التسعينات من القرن
الفائت، حين اعتمد أحد أهم اقطاب الصناعة السينمائية وارن
ليبرفارب، نائب رئيس قسم
التسويق العالمي في شركة فورد، وصاحب شركة "وارن هوم فيديو"، سياسة جديدة
مكّنته من
زيادة نسبة أرباح الشركة 7 مرات، من طريق توزيع اسطوانات "وارنر" في أكثر
من 75
بلداً. زرعت سياسته التسويقية القلق في شركات الانتاج العالمية، وخصوصاً
الأميركية
منها، كونها ستؤثر سلباً في الاقتصاد الفني العالمي.
أتاح له موقعه أن يتطلع
الى ما يحدث في أكثرية المختبرات والأبحاث المتعلقة بالسمعية البصرية،
ووردته فكرة
ستعيد تحديد العلاقة بين مشاهدة الأفلام في البيت والسينما،
الى حد التسبب بثورة
تتمثل في تحريض المتطفلين على القطاع السينمائي، من رابطة المصنّعين
الآسيويين الى
الشركات التي تحتل الصدارة في هوليوود مروراً بالمصنّعين الأوروبيين، على
الاتفاق
على "ستاندرد" واحد يبث صورة وصوتاً رقميين، يكون (الستاندرد) في الوقت
نفسه صغيرا
وعمليا ومحصنا ضد السرقة، ذا نوعية جيدة تفوق نوعية الليزر ديسك. استغرقت
حملة
ليبرفارب 3 سنوات قبل أن ينطلق الـ"دي في دي" في الأسواق.
اتصل ليبرفارب أولا
بشركة "فيليبس" لاعداد اسطوانة مماثلة للكومباكت ديسك المجهزة لتخزين
الصورة والصوت
السمعيين. لم يكن هدفه الحصول على غرض ذي أداء جيد، بقدر ما كان هدفه احاطة
نفسه
بالابداعية الصناعية المتنافسة. وقد أتيحت له الفرصة في تنفيذ حلمه عام
1992، عندما
قررت شركة "توشيبا" اليابانية المساهمة في زيادة نسبة رأسمال شركة "تايم
ورنر". كشف
حينذاك ليبرفارب نياته للمفاوض الياباني كوجي هاز التي تتمثل في التصدي
للتهديد
الذي يشكله التلفزيون الرقمي، وشلّ سوق كاسيتات الفيديو من طريق تقنية
جديدة
تبنّاها العالم بأسره.
صنعت مختبرات "توشيبا" "سي دي روم" قادراً على تخزين كمية
كبيرة من الصور والصوت. لكن في ذلك الحين لم تكن نوعية الأسطوانة السمعية
البصرية،
بعد، متفوقة. لكن ليبرفارب شعر ان الشريك يمشي على الطريق
الصحيح. وعلى رغم
المساومة بينه وبين الهولندي "فيليبس"، على موضوع مماثل هو الفيديو CD،
فإنه لم
يوقّع العقد الا مع "توشيبا" لينفذ مشروع أسطوانة سمعية بصرية في المستقبل.
في حين
كان "وارنر" يتابع أبحاثه مع "توشيبا"، كانت "فيليبس" في المقابل تعمل في
مختبراتها
بلا انقطاع لتنفيذ أسطوانات سمعية بصرية كانت تحلم بتنفيذها شركتا "سوني"
و"طومسون". وقد شكل ذلك قلقا لليبرفارب، وخصوصاً أن المتطفلين بدأوا يحولون
دونه،
والهدف المرجو فرض "ستاندرد" وحيد في الأسواق.
احتدّ الجدال على هذا الموضوع
وحدث ما كان متوقعاً: جرى الفصل بين الشركات، من جهة شركتا "فيليبس" ــ
"سوني"،
الحائزتان براءة اختراع تكنولوجيا الاسطوانات، ومن جهة أخرى فريق "وارنر" - "توشيبا"
الذي تحالفت معه شركات "طومسون" و"باناسونيك" و"بايونير"، وقد شكل ذلك
كابوساً لليبرفارب، الذي حاول أن يجمع الفريقين من جديد لكن محاولته باءت
بالفشل.
بعد استنفاد جميع الوسائل، حاول أن يجمع أباطرة شركات الانتاج
الهوليوودية، مثل "كولومبيا" و"بارامونت" و"مترو غولدوين ماير"
و"يونيفرسال"، ليضمن
نجاح المنتَج. في كانون الأول 1994عقدت شركتا "فيليبس" و"سوني" مؤتمراً
صحافياً
لتعلنا اطلاق الكومباكت ديسك فيديو الرقمي في الأسواق. في 24 كانون الثاني
1995
قدمت شركتا "وارنر" و"توشيبا" في بيفيرلي هيلز أول "دي في دي"
في حضور الشركات
المناصرة. عندئذ التحقت شركة "أي بي أم" بالمجموعة وأصبح عدد
المناصرين 22 مصنّع
مواد وسينما. في كانون الاول 1995، وبدعم من شركات المعلوماتية الرائدة،
أعلنت
مؤسسات صناعة كاسيتات الفيديو العشر، ومن بينها "فيليبس" و"سوني" رسمياً
تعاقدها
وموافقتها على الـ"ستاندرد" الوحيد الذي أطلقه "وارنر"- "توشيبا" وأطلق
عليه اسم Digital Versatile Disc
أي "دي في دي".
النهار اللبنانية في
27/08/2009
رنده الشهال... بعد عام
لمناسبة مرور سنة على غياب المخرجة اللبنانية رنده
الشهال، (24 آب 2009) تعلن "مؤسسة رنده الشهال"، و"جمعية بيروت دي سي"
الثقافية
وسينما "متروبوليس" وشركة "كاكتوس فيلم"، إطلاق التحضير لأسبوع احتفالي في
حزيران 2010
في بيروت، تجري فيه استعادة كاملة لأفلامها الروائية والوثائقية، بما فيها
أفلام لم تُعرَض. وسيتخلل الأسبوع معرض صور مستقاة من تلك الأفلام ومن
أرشيف
السينمائية. يصدر في المناسبة كتاب يتضمن سيناريوات مكتملة
وغير مصورة للشهال،
ومقتطفات من نصوص أعمالها. كما سيتم تأمين أفلامها على "دي في دي". وينتظم
هذا
الأسبوع في سلسلة احتفالات عالمية بالمخرجة، يجري أولها في مركز لينكولن في
نيويورك
في كانون الأول 2009.
خارج الكادر
استعمار؟
أنجزتُ
أخيراً ملفاً
خاصاً عن الانتاج المشترك بين العالم العربي والغرب سينشر هنا تباعاً. هو
ملف على
شكل رحلة في بلدان أوروبية وعربية عدة. ناقشتُ فيه سينمائيين ومنتجين
ونقاداً
ومسؤولين وأصحاب اختصاص. الرحلة انطلقت من بيروت. مدينة تنام
على هدنة وتصحو على
صراع. وأي مدينة أفضل من بيروت لبدء رحلة بحث عن المصائر المشتتة للسينما
العربية؟
أي مدينة مثل بيروت المعروفة بتنوعها، هي أكثر تعبيراً عن معاناة السينما
العربية
التائهة بين الاهمال الرسمي والمؤسساتي والدعم الأجنبي، هذا الدعم الذي
تكون اثمانه
باهظة للبعض فيما هو خشبة خلاص للبعض الآخر؟ من خلال سفري هذا، لمستُ
الصعاب التي
تعوق طريق وصول السينمائيين العرب الى برّ الامان. فاختلطت
الوجوه التي التقيناها
بعضها ببعض، ليخرج منها وجه واحد هو وجه سينما عربية لا تزال تحت وصاية
أجنبية على
رغم انهيار منطق الاستعمار التقليدي القديم. طريقنا كانت أشبه بطريق
السينمائي
العربي الذي يمضي مشوار العمر بحثاً عن تمويل، وغالباً ما توصد الابواب في
وجهه،
ولا يجد الا المال الاجنبي حلاًً لإنجاز اعماله.
من بيروت الى باريس وأمستردام
مروراً بالمغرب العربي، كانت رحلتي هي رحلة البحث عما يسمى الانتاج المشترك
في
السينما بين حضارتين، شرقية وغربية. بين ثقافة الجنوب وثقافة الشمال. حملنا
معنا
أسئلة وهموماً وهواجس كثيرة عبر القارات الثلاث، آسيا وافريقيا
وأوروبا. وكان هدفنا
معرفة علاقة الشمال بالجنوب من خلال السينما، انطلاقاً من فرنسا التي هي
البلد
الأكثر إنتاجاً للأفلام العربية، نظراً الى العلاقات التاريخية بينها وبين
هذه
البلدان. وكان علينا أيضاً أن نحدد ماهية الانتاج المشترك، من
وجهة نظر المهيمِن
والمهيمَن عليه.
على غرار الجنود الافارقة الذين غيّروا مصير فرنسا خلال الحرب
العالمية الثانية، كما رأينا ذلك في فيلم "بلديون" لرشيد
بوشارب، تمدّ فرنسا منذ
أكثر من ثلاثة عقود يد العون الى السينمائيين العرب من البلدان كلها.
ولولاها لما
أنتجت غالبية الافلام التي أغنت المكتبة السينمائية العربية. "غيّرنا مصير
فرنسا،
لذا حان الوقت كي يتغيّر مصيرنا". هذا ما يقوله رشدي زمّ في "بلديون" الذي
هو انتاج
مشترك بين فرنسا والجزائر والمغرب. فماذا لو كان هذا التمويل الذي تقدمه
فرنسا الى
المخرجين العرب، كجزء من الدين الذي تدين به اليهم من زمن
الاستعمار؟
ثمة منتجون فرنسيون تتملكهم الرغبة في الذهاب بعيداً بغية
البحث عن حكايات غير فرنسية. بعد سنوات من التعاون بين فرنسا ومخرجين
لبنانيين من
مثل مارون بغدادي وغسان سلهب، جاءنا أكثر النماذج تعبيراً عن هذا الفضول
المتمادي:
فيلم "سكّر بنات" لنادين لبكي. هذا الفيلم كان خلاصة اهتمام المنتجة
الفرنسية آن
دومينيك توسان بالحالة اللبنانية، فأنتجته من دون فرض قيود أو شروط على
مخرجته،
فجاءت النتيجة فيلماً لبنانياً الى حدّ كبير، على رغم المال
الفرنسي الذي أنتجه.
مخرجة أخرى هي دانيال عربيد تموّل فرنسا أفلامها. وكثيراً ما تطرح في حالات
مثل حالتها قضية تدخّل المنتجين في القرارات الفنية، لتحريفها
وجعلها اكزوتيكية
وملائمة لنظرة الغرب الى العرب. لكن عربيد تخالف هذا الطرح ولا توافق
عليه!
بعيداً من المنتجعات السياحية والجذابة، هناك واقع أكثر بؤساً واسوداداً
نجده في البلدان العربية. كمثل أزقة دمشق وكازابلانكا وفلسطين
التي غالباً ما تبقى
طيّ الكتمان ولا تخرج الى العلن، لاعتبارات سياسية، ولأن لدى الممول
افكاراً مسبقة
يريد لها تجسيداً في أفلام المخرجين العرب. والبعض منهم يستجيبها فيما
بعضهم الآخر
يرفض تلميع صورة الواقع العربي أو التعتيم عليه.
لم يكن ممكناً الكلام عن
الانتاج المشترك من دون استحضار النموذج المصري، باعتبار أن مصر لا تزال
أكثر
البلدان العربية لجوءاً الى الانتاج المحلي لاعتبارات وافرة.
سينمائيون مصريون كثر
يتذرعون بالميل الى الاستقلالية والمحافظة على الخصوصية المصرية، ويشكلون
حصناً
منيعاً أمام غزو التمويل الاجنبي لأفلامهم. وأحياناً على حساب النوعية، لأن
مصر لا
تزال تفتقر الى النوعية على صعيد الصوت والصورة.
في مقابل الرفض المصري للانتاج
المشترك، ثمة آخرون استطاعوا أن يوفقوا بين المحافظة على الخصوصية والمال
الفرنسي،
في طليعتهم أسامة فوزي الذي قدّم مع "بحب السيما" فيلماً على قدر كبير من
الامانة،
من دون أن "يبيع" نفسه الى الرؤية الاجنبية. وفي ما يختص بالسينما المصرية،
كان
الانتاج المشترك أيضاً سبيلاً الى تحسين الشروط التقنية مع تقنيين أجانب
تبوأوا
مناصب مثل مدير التصوير ومهندس الصوت. أما الأفلام التي راهنت
على انتاج وطني مئة
في المئة، فرأيناها أكثر ميلاً الى تقليد سينما الحركة الاميركية من دون أن
تبلغ
مستواها التقني العالي. صعب على التمويل الفرنسي خرق خصوصية السينما
المصرية. وحال
هذا دون توزيع هذه الافلام في الغرب، فسقط الاستثناء الثقافي
الذي تكلم عنه وزير
الثقافة جاك لانغ، والذي يتيح للفرنسيين محاربة أميركا من خلال الثقافة.
لا شك في أن بعض الافلام ما كانت أبصرت النور لولا الدعم
الاوروبي، لما تحمله من مضامين جريئة، مثل "سلطة بلدي" الذي يحكي قصة عائلة
أفرادها
عرب ويهود. غيّر الانتاج المشترك المفاهيم السائدة العالم العربي، لكن
مسألة القيم
الانسانية ظلت ثابتة، اذ ثمة خطوط حمراء وقيم لا يتجرأ المنتج الغربي على
تجاهلها.
على رغم الاختلافات في المفاهيم بين الشرق والغرب، التقى المنتج الفرنسي
ادوار
موريا والمخرج اللبناني خليل جريج وزوجته جوانا، من دون أن
يكون بينهما علاقة
مهيمِن ومهيمَن عليه، وبعيداً من منطق الاستعمار، لكن في كنف مبادئ
الفرنكوفونية
وشعارات الجمهورية. فكان فيلم "بدّي شوف" الذي ذهب الى الجنوب برفقة كاترين
دونوف.
بعيداً من نظرية المؤامرة، بدا جلياً من خلال محادثة المساهمين في الانتاج
المشترك، أن المخرج هو في النهاية من يتحكم بالصورة التي
يرسمها عن بيئته. فاذا
أراد تلميع صورة بلاده، فهو يتحمل مسؤولية ذلك، اما اذا تطرق الى الجوانب
السلبية
لمجتمعه، فلا ينبغي القاء التهمة دوماً على الاستعمار الفكري الجديد الذي
يتكلم عنه
بعض المتطرفين. مهما يكن، فسيبقى الصراع قائماً بين منطق يؤيد ومنطق يحرض،
فيما
صورة العرب المشوشة تبقى أسيرة تملق هذا وتشبث ذاك.
هـ. ح
النهار اللبنانية في
27/08/2009 |