حينما تذهب إلى العالم الذي يمثله النجم العالمي عمر الشريف، تجده رحباً
خصباً ثرياً حافلاً بكل المعطيات، مشوار مشبع بالإنجازات
وأيضاً التحديات والمقدرة
على الصمود والتجاوز والعودة مجدداً للوقوف من جديد وتجاوز الأز.مات كافة
التي
أحاطت به، والتي لا يمكن تجاوزها، إلا لمن يمتلك تلك الأرضية والخلفية
العريضة
والمقدرة على التجاوز والبدء دائماً من جديد، وأيضاً الوطن
والحصن الكبير الذي يلجأ
إليه الإنسان، حينما تغلق أمامه الأبواب وتقل الفرص، وهذا ما أمنته مصر
العظيمة
لابنها ونجمها عمر الشريف حينما ادلهمت الخطوب وأوصدت الأبواب والفرص
الحقيقية
للعمل.
والحديث عن عمر الشريف له بداية ولكن ليس له نهاية، فنحن أمام نجم
ذهب بعيداً، بل أبعد مما ذهب إليه كل النجوم في عالمنا العربي،
فكان سفير الفن
والسينما العربية إلى العالمية، وقد يرى البعض في تلك الرحلة مساحة من
الهوامش
والسلبيات، ولكنها الضريبة.. فنحن أمام نجم، تجاوز كل الصيغ التقليدية
للنجومية،
وانطلق في فضاء العالمية والشهرة، معتمداً على تلك الملامح الشرقية واللغة
الانكليزية والفرنسية الخالية من اللكنات ما مهد له الطريق
وأمن له
الفرص.
إلا أن الفرصة الأكبر، والنقلة الأهم في مسيرته، هي مع تجربته في
فيلم «لورنس العرب» واختياره من قبل المخرج العبقري دايفيد لين
لشخصية الأمير «علي»
في ذلك الفيلم الذي بات اليوم من التحف والكلاسيكيات الخالدة في تاريخ
السينما
العالمية.
لهذا فالذهاب إلى عمر الشريف، يعني الذهاب إلى حالة من الشمولية،
فحينما ذهب إلى النجومية تألق بعيداً، وحينما عاقر الخمرة..
وحينما ارتبط بجميلات
هوليوود.. وحينما جلس على طاولة القمار.. وحينما عشق الخيول.. وحينما..
وحينما..
وحينما.
إنه يذهب دائماً إلى أقصى الدرب، وهو يعلم جيداً، بأنه يبلغ مرحلة
لا يبلغها سواه، ولا نريد في هذه المحطة التحدث عن خسائره
المالية، فوحده دون سواه،
الذي يعرف كم خسر هنا أو هناك، ولكنه يظل دائماً يمتلك الشفافية للقول
والبوح
والاعتراف.. ودعونا قبل الذهاب إلى «لورنس العرب» أو مشواره مع دايفيد لين
وغيره من
الكبار، أن نتوقف عند جوانب من مشوار البداية.
فقد ولد عمر الشريف «ميشيل
شلهوب» في العاشر من أبريل 1932 في مدينة الاسكندرية، وأصول عائلته تمتد
إلى
لبنانية وسورية، وقد نشأ ميشيل في كنف أسرته «الرومية - الكاثوليكية»،
والده كان
يعمل في تجارة الأخشاب، التي توارثها عن أجداده. درس ميشيل
الشاب في مدرسة فيكتوريا
الى جوار عدد من المشاهير، لعل من أبرزهم في تلك الفترة الملك الحسين بن
طلال،
والكاتب الفلسطيني ادوارد سعيد.. وآخرين كثر.. وحصل على شهادة في الرياضيات
وأكمل
دراسته في العلوم في جامعة القاهرة ليواصل عمله مع أسرته في عالم تجارة
الأخشاب.
وقبل أن تأتي «النقلة» إلى هوليوود والعالمية.. يلتقي ذات يوم
المخرج الراحل يوسف شاهين، الذي يعرض عليه دوراً رئيسياً في
فيلم «صراع في الوادي»
أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وخلال تلك التجربة ارتبط بفاتن حمامة
(1955)
بعد أن انفصلت هي عن زوجها المخرج عز الدين
ذو الفقار، وأعلن هو إسلامه. ومنها أنجب
ابنه «طارق» 1957 وانفصل عن الحمامة عام 1974 ولم يتزوج.
وتحت مظلة السينما
العربية، في تلك المرحلة، قدم مجموعة بارزة من الأعمال السينمائية ومنها
نشير إلى «صراع في الميناء» و«بداية ونهاية» و«نهر
الحب» و«في بيتنا رجل»
وغيرها.
ويأتي المخرج البريطاني دايفيد لين إلى القاهرة ليختاره لدور «علي»
ذلك الشاب العربي اليافع، الذي يسعى إلى تحرير أرضه العربية من الأتراك
والحكم
العثماني، إلا أن رحلة الثورة واتحاد القبائل والمواجهة تنتهي باكتشافه
بأنه أمام
احتلال جديد.
شخصية مكتوبة بعناية، وتمثل الشاب العربي الثائر والذي يعشق
أرضه ويكافح من أجل تحريرها وقد حصد الشريف ترشيحاً للفوز
بجائزة أوسكار أفضل ممثل
مساعد، كما حقق الفيلم سبع جوائز أوسكار عالمية.
لقد ساهم ذلك الفيلم في أن
يقدمه للعالم، وهذا ما جعله يؤكد بأنه ليس بالنجم أو الفنان العابر، بل جاء
ليؤكد
بصمته وحضوره.. وهو يؤكد بأن أسعد اللحظات بالنسبة له كانت
حينما تشرف بلقاء الملكة
اليزابيث الثانية حينما شاهدت الفيلم وأبدت اعجابها الشديد بشخصيته وأدائه،
حتى رغم
وجود اسم بيتر أوتول في مقدمة الأسماء، وهو من جسد شخصية «لورنس
العرب».
وتمضي المسيرة، وتتواصل الأعمال، حيث يختاره لين مجدداً لدور شخصية
أكبر وأعمق وأبعد، حينما يسند إليه دور «الدكتور زيفاكو» في
الفيلم الذي يحمل ذات
الاسم.
وهنا نلمس التطور الكبير في أسلوبه في الأداء، وتؤكد جملة الكتابات
النقدية التي صدرت في ذلك العام، إنه كان الأقرب لجائزة أوسكار
أفضل ممثل، ولكن
لاعضاء اكاديمية العلوم والفنون السينمائية اختياراتهم الشخصية حتى أنه لم
يتم
ترشيحه للجائزة.
في ذلك الفيلم يقدم وللمرة الأولى
ما يسمى بالتقمص التام
للشخصية، بمعنى (الممثل - الشخصية) عكس ما كان معروفاً في السينما العربية
وحتى
اللحظة ربما، حيث - التمثيل الشخصي - وهنالك اختلاف كبير في اسلوب الأداء
في
المدرستين.
ومصدر الاختلاف، أن الشخصية هي التي تلبس الممثل في السينما
العربية (بشكل عام)، ولكن في المدرسة الثانية، الممثل هو من
يلبس الشخصية ويعيشها
وهو أمر يتطلب لياقة عالية المستوى وفهماً للشخصية وأبعادها ومضامينها.
في
خط متواز، وكما أسلفنا، فإن جملة الخطوط كانت تتحرك عند الشريف
في وقت واحد، في ذات
الفترة، وفي الستينيات، قدم الشريف نفسه كواحد من أهم لاعبي «البريدج» وظل
في مطلع
السبعينيات حتى الثمانينيات يمتلك عاموداً في صحيفة شيكاغو تربيتون، وفي
الثمانينيات كتب في أكثر من صحيفة فرنسية.
كما أصدر كتباً عدة في لعبة «البريدج»،
كما أطلق لعبة كمبيوتر بعنوان «بريدج عمر الشريف» في عام 1992 وتم تحديد
وتطوير تلك اللعبة مرات عدة.
وتتوازى الخطوط.. وينطلق كل منها بسرعة ليأخذ
من وقته.. وصحته.. وماله.. الشيء الكثير، وفي أحيان كثيرة أكثر من المداخيل
التي
يحصل عليها من عالم الفن السابع والاعلانات.
ونقفز، ولو للحظة، الى عام 2006،
حيث يصرح: لقد قررت ان لا أكون عبدا لأي من رغباتي، الا عملي الفني، أنا
كنت
أسيرا لرغبات عدة ومنها البريدج والخيول والقمار.... انا أريد ان أعيش حياة
مختلفة... أكون مع أسرتي لانني لم أعطهم المتسع من الوقت...
هذا ما
قاله...
ولكن بعض تلك الخطوط انقطعت... وأخرى تواصلت او لا تزال بشكل أو
بآخر.
في مسيرته قدم الشريف كما من الأعمال السينمائية العالمية المهمة
ومنها «فتاة مرحلة» مع بربارا سترايسند، وجنكيز خان، وتقمص
عددا من الشخصيات منها
تشي جيفارا وغيره.
لقد ظل طيلة فترة عمله في هوليوود والسينما العالمية يقيم
في العاصمة الفرنسية، ولكن ثقل الديون والخسائر والضرائب، جعله يبيع كل شيء...
ليعود مجددا الى القاهرة، ويقدم فيلم
«الاراجوز» مع المخرج هاني لاشين، ثم «المواطن
مصري» مع الراحل صلاح أبو سيف.
ولكن الحنين الى باريس
يعاوده....
ليصور مع السينما الأميركية فيلم «الفارس 13» مع الإسباني
انطونيو بانديراس.
كما تأتي عودته اللافتة في فيلم «السيد إبراهيم» او
«السيد
إبراهيم وزهور القرآن» وعن أدائه في ذلك الفيلم فاز بجائزة أفضل ممثل في
مهرجان فنيسيا السينمائي الدولي، حيث جسد شخصية بقال مسلم تتطور علاقته مع
صبي
يهودي في أحد الأحياء الباريسية.
كما يحقق عن ذات الشخصية جائزة «سيزار»
كأفضل ممثل في فرنسا، وهي الجائزة التي تعادل الاوسكار في فرنسا وتمنحها
أكاديمية
العلوم والفنون السينمائية في فرنسا.
يمتلك الشريف مقدرة عالية في التعامل
مع اللغات وبسلاسة تامة، فهو يجيد العربية والفرنسية والانكليزية
والايطالية
والإسبانية بجودة عالية خالية (تماما) من اللهجات.
كما يعتبر الشريف واحدا
من ستة نجوم، فازوا بجائزة الغولدن غلوب كأفضل ممثل، دون ان يكون قد ترشح
عن الدور
نفسه للأوسكار وكان ذلك عن فيلم «الدكتور زيفاكو» (1965)، ومعه في النهج
نفسه نورد
أسماء سبنسرتريسي عن فيلم «الممثل» 1953 وانطوني فراسوسا عن
«كارير» 1959 وشيرلي
ماكين عن «مدام سوزونكا» (1988)، وجيم كاري عن «استعراض ترومان» 1988 وكيت
وينسليت
عن «طريق الحرية» 2008.
وتتوازى الخطوط...
رحلته الى الشهرة
والعالمية، حتمت عليه نمطا مختلفا في الحياة والمعيشة والتعامل، حيث التنقل
بين
الفنادق والوجود، ولا صديق الا السيجارة والكاس وايضا
الكازينوهات، حيث كان يمضي كل
ليلة هناك، يأكل ويشرب ويدخن ويهدر كل شيء جمعه خلال نهاره وهو يقف أمام
الكاميرات
والمصورين.
ورغم قسوة الخطوط، التي راحت تنعكس على ملامحه... ومسيرته...
ووجهه... الا انه يظل أحد القلة من نجوم العالم والعالم العربي، الذين
يمتلكون
المقدرة في التصالح مع الذات، بما يمتلك من شفافية وصراحة عالية
المستوى.
لقد شاهدت الشريف في مناسبات عدة، مرة في موسكو وهو يصور احد
أعماله التلفزيونية، وأخرى في باريس وثالثة في «كان» ورابعة في
القاهرة وخامسة في
مراكش وسادسة في فينيسيا... وأيضا في كان مرات ومرات وفي كل مرة، هو
رائع... حتى
اللحظة التي تتحرك بها الخطوط... سواء... الخمر... او القمار... او....
ولكنه حينما
يتجاوز ذلك، يعود أكثر صفاء مع الذات.
يعلم جيدا بان الزمن قد تغير، ولكنه
يعرف جيدا، بانه عاش الزمان بكل أبعاده، طولا وعرضا وعمقا وارتفاعا... كما
لم يعشه
مثله أحد...
عرف النجومية والشهرة كما لم يبلغها احد من ذي قبل... وعرف
النساء كما لم يعرف الآخرون...
وهكذا بالنسبة للمال والثراء...
والربح...
ولكنه يعرف جيدا، بان الشهرة قد أدارت ظهرها، وان النساء لم يعدن
يلتفتن اليه الا كرمز لزمن ومرحلة ولت...
ويعرف بان ما ربحه من أموال على
موائد القمار والخيول... لم يعد بين يديه... فما خسره أكبر وأكثر
وأشمل.
ولكن يبقى رغم ذلك، عمر الشريف دون سواه النجم العربي الذي بلغ
العالمية وعاشها كما لم يعشها ويبلغها أحد سابقا... ولاحقا
وحتى زمن بعيد...
مقبل.
الشريف في «لورنس العرب» ثائر شاب يسخر من كل شيء، يتحد مع الانكليز
من أجل ان يتخلص من الاحتلال التركي... ولكنه يكتشف بانه أمام
احتلال
جديد.
وحينما ذهب الشريف الى العالمية، اعتقد بانها نهاية المطاف، ليكتشف
انها بداية الأشياء... الورطة الكبرى... فالنجومية هناك مثل
السباحة في محيط
عاصف... او الجلوس على طاولة القمار في ليلة نحس... عندها... لا يكون هناك
الا أن
ترفع رأسك الى أعلى بانتظار معجزة..
وما يحتاج الشريف في هذه المرحلة من
مشواره... وتاريخه هو معجزة تدفع به مجددا الى دائرة الضوء عالميا...
وهذا
ليس ببعيد عن نجم بمثابة ومقدرات عمر الشريف... المهم هو ان يعرف أي الخطوط
يريد
ليكمل المشوار.
Anaji_kuwait@hotmail.com
النهار الكويتية في
26/08/2009 |