بدا الحشد جميلاً. ففي
بعض الحفلات التي أقيمت في الأيام القليلة الفائتة، في إطار الدورة الثامنة
لـ
«مهرجان
الفيلم اللبناني» (.. نما في بيروت)، التي تنتهي مساء اليوم بعرض فيلمي «ذاكرات مبعثرة» للارا سابا و«وعلى الأرض
السماء» لشادي زين الدين، لم يجد مشاهدون
عديدون مقاعد يجلسون عليها، فافترشوا الأرض في جانبي الصالة،
لاصرارهم على مُشاهدة
بعض الأفلام، بينما خلت مقاعد كثيرة في حفلات أخرى، عُرضت فيها أفلام لم
تثر
اهتماماً كبيراً لدى هذا الحشد المتدفّق على صالتي «متروبوليس/ أمبير صوفيل»
في
الأشرفية. ليست الحرب الأهلية المريرة سبباً للإحجام، أو
الواقع المزري الذي يقيم
فيه اللبنانيون حالياً. المسألة مزاجية، أو مرتبطة بعلاقة المشاهدين
بالمخرج أو
فريق العمل، أو بموضوع الفيلم أحياناً. في «أولها نجوى... وآخرها» لمونيكا
بورغمان
ولقمان سليم مثلاً، كانت مقاعد عديدة فارغة، على نقيض «درسٌ في
التاريخ» لهادي
زكّاك، على الرغم من أن هناك خيطاً رفيعاً يجمعهما معاً، إذ ذهب الأول إلى
الماضي
لفهم بشاعة الآنيّ، بينما اشتغل الثاني على الراهن المثقل بألف كارثة
ناتجة، ربما،
من هذا الماضي نفسه. فالأول استعاد تجارب مقاتلين لبنانيين خاضوا معارك
شرسة وفتكوا
بالناس جاعلينهم ضحايا بريئة في نزاعات خبيثة؛ بينما رسم الثاني معالم
اللحظة
اللبنانية الحالية، من خلال معاينة ميدانية لتدريس مادة
التاريخ في الصفوف
التكميلية في مدارس دينية وعلمانية متفرّقة. ضحك مشاهدون عديدون إزاء مشاهد
أو
كلمات أو آراء وردت في الفيلم الثاني، وتجهّم مشاهدو الفيلم الأول أمام
بشاعة
الذاكرة وقسوة الماضي لتشابههما المرير بالآنيّ، أو بسبب قذارة
الحرب الأهلية
ووحشية مقاتلين/ قاتلين متورّطين فيها.
فضيحة
لم تختلف ردود الفعل الضاحكة
والعفوية لمشاهدي «درسٌ في التاريخ»، عن تلك التي أطلقها مشاهدو فيلمي
«أحاديث
نسائية» لدانييل عربيد و»هيدا لبنان» لإليان الراهب. فالضحك سمة مشتركة
أمام هول
الفضيحة التي سلّطت هذه الأفلام الثلاثة الضوء عليها: فضيحة
الارتهان اللبناني
الفرديّ (غير المتحرّر من ارتباطه العضوي الوثيق بالجماعة) للانتماء
الطائفي
والسلوك العنصري والتقوقع المذهبي، كما للتشاوف والادّعاء والعصبية القبلية
الضيّقة. فضيحة استمرار الغالبية الساحقة من اللبنانيين في
ولائها المطلق للزعيم
المحليّ، وفي التبرير المُقدَّم من قبلها لتغطية ممارسات هذا الزعيم نفسه.
فضيحة
النمط التربوي المعتمَد في المدارس والسلوك التربوي العام، اللذين يُنذران
بعواقب
وخيمة مقبلة على لبنان واللبنانيين. فإذا كشف هادي زكّاك فضيحة
التمزّق التربوي
الخطر في تدريس مادة التاريخ/ التواريخ (الكتاب التاريخي الموحّد غير معمول
به
لغاية الآن، ناهيك بسؤال المضمون التاريخي لهذا الكتاب) وآليته ومناخه، ما
أدّى إلى
تمزّق في الفهم والوعي المعرفي لتلامذة الصفوف التكميلية، أي
من يُفترض بهم أن
يكونوا «المستقبل» الحقيقي للبلد، وإخضاعهم لنمط تربوي متلاءم وفكر
الجماعات
اللبنانية المتناحرة في ما بينها؛ فإن إليان الراهب غاصت عميقاً في بنية
التربية
البيتية والمجتمعية الخاصّة بالطائفة المارونية، انطلاقاً من
الانتماء المذهبي هذا
لوالديها ولوالدي صديقتها المخرجة زينة صفير، وهي بنية مرتكزة على التقوقع
والعزلة،
خوفاً من الآخر وحرصاً على خصوصية يظنّ أصحابها أنهم بها ينقذون أنفسهم
وبلدهم
(«الموارنة صنعوا لبنان»، مقولة ردّدتها شخصيات عدّة في الفيلم) وناسهم
من الخطر
الداهم عليهم من أطراف أخرى مقيمة معهم في الجغرافيا الواحدة (وهذا تفصيل
واحد من
تفاصيل لبنانية أخرى وردت في هوامش الفيلم، لا تقلّ خطراً عنه). أما دانييل
عربيد
فاكتفت بما قالته النساء الملتقيات في جلسات منزلية حول «فنجان
قهوة» في منزل
والدتها، تاركة الكاميرا تسجّل «حقيقة» خطرة متمثّلة بمنطق لبناني بورجوازي
(إلى
حدّ ما) مسيحي، لا يعرف المسامحة والمحبّة والغفران (وهي رموز أساسية في
العقيدة
الدينية للمؤمنين المسيحيين الممارسين إيمانهم)، فهو يجمع بين
تناقضين: التزام
إيماني بالمسيحية، وممارسة اجتماعية لا علاقة لها بالمتطلبات الإيمانية هذه.
لم
تكن حالات الضحك العفوي إزاء مَشَاهد متفرّقة في أفلام زكّاك
والراهب وعربيد مجرّدة
من وجع ألمّ بمشاهدين مدركين فداحة الراهن وبشاعته. فالخطورة كامنةٌ في
المنطق
المذهبي المقيم في نفوس الغالبية الساحقة من اللبنانيين، وفي الانشقاق
الفظيع
القائم في المجتمع والتربية والعلاقات الإنسانية، وفي خلق
أجيال جديدة تتشرّب مواقف
وعقائد وأنماط سلوك تذهب بهم، لا محالة، إلى مزيد من الانكماش المجتمعي
والنفور
الإنساني. والخطورة القصوى كامنةٌ في أن أجيالاً عدّة مصابة بمرض العصبية
المذهبية
والطائفية، بدءاً من جيل الآباء (فيلما الراهب وعربيد)، ووصولاً إلى جيل
الأبناء
والأحفاد (فيلم زكّاك). وهذا ما دفع أسعد شفتري، أحد أبرز
المسؤولين الأمنيين
السابقين في ميليشيا حزب «الكتائب اللبنانية»، و«القوات اللبنانية» لاحقاً،
أثناء
الحرب الأهلية اللبنانية، إلى التنبّه، في لحظة «نضج» عاشها في مطلع
التسعينيات
المنصرمة، إلى أن الحرب اللبنانية تلك مستمرة في النفوس والعقول والوجدان،
لأنه سمع
صديق ابنه يتفوّه بكلام «خطر» عكس حجم الكارثة المقبلة مع
أجيال جديدة، إذ قال
الشاب الصغير إنه «يُصاب بغثيان وقرف كلما مرّ بالقرب من جامع». فبالنسبة
إلى
شفتري، الذي ظهر في الفصل الأول من «أولها نجوى... وآخرها» للثنائي بورغمان
وسليم،
لم يعد ممكناً الاستمرار في الحرب اللبنانية بأي شكل من الأشكال، لأن ما
جرى فيها
وحشي للغاية، خصوصاً أنه مورس باسم دين أو قضية أو جماعة، فإذا
به يعلن اعتذاره من
ضحاياه، ما أثار ردود فعل متناقضة ضده. فالفيلم المذكور، الذي جمع شهادات
متفرّقة
لمقاتلين سابقين، بدا شهادة إضافية في سياق استعادة الماضي وأرشفته لحماية
الذاكرة،
بوجوهها كلّها، من الاندثار. والفيلم لا يخرج على خطّ ثقافي سجالي جعلته
جمعية
«أمم»
للتوثيق والبحوث (مُنتجة الفيلم) أساساً جوهرياً لفهم التاريخ وقراءة
الحاضر،
ولا يختلف كثيراً عن «مَقَاتل»، الفيلم الوثائقي السابق للثنائي نفسه، الذي
غاص في
التفاصيل المريرة لمجزرتي مخيمي شاتيلا وصبرا في العام 1982، من خلال
شهادات
مقاتلين مسيحيين قواتيين شاركوا فعلياً في تنفيذها.
تشريح
بعيداً عن
السينما وتقنياتها ومفرداتها الخاصّة بقواعد إنجاز فيلم وثائقي، بدت
الأفلام
الأربعة تلك تشريحاً مهمّاً لجوانب متفرّقة في قلب المجتمع
اللبناني وعقلية بعض
ناسه، الذين يُمكن اعتبارهم نماذج حيّة عما يعتري هذا المجتمع من مصائب
وأمراض.
بهذا، تتحوّل الأفلام إلى مرايا قاسية
لواقع وحقائق معيشة، على الرغم من أن
الغالبية الساحقة من اللبنانيين مصرّة على رفض الجهر بها علناً
كمصائب وأمراض، مع
أنهم يمارسونها عملياً، معتبرينها «حقّاً» لهم و«منطقاً» يتحكّم بكيفية
عيشهم. أما
السينما، فشبه غائبة. ذلك أن المونتاج المعتمد في تحقيق «أحاديث نسائية»
مثلاً،
شكّل الخطاب الاجتماعي لنسوة منتميات إلى بيئة محدّدة، اعتادت
دانييل عربيد تشريحها
سينمائياً في عدد من أفلامها السابقة. في هذا النمط من الأفلام، لا تدّعي
عربيد
إبهاراً تقنياً أو جمالياً ولا تسعى إليه، لأن الكاميرا التقطت نبض الحياة
اليومية (وهو الأهمّ)، وتركت للمونتاج توظيف المادة
المصوَّرة في خدمة التشريح الطالع من
كلام النسوة واهتماماتهنّ المتضمنة تصرّفاً عدائياً وبشعاً، في
غالب الأحيان (في
الأجزاء الثلاثة، تناولت النسوة مسائل إيمانية/ دينية مسيحية وتجميلية
وسياحية
وغيرها من التفاصيل اليومية التي تُشغل بالهنّ). وإذا اعتبر لقمان سليم أن
«أولها
نجوى... وآخرها» مجرّد «مسودة فيلم» يطمح إلى تطويره لاحقاً، ما جعل أي
كلام نقدي
في الجانب السينمائي غير مفيد لانعدام الجماليات السينمائية
الوثائقية؛ فإن طغيان
الموضوع في فيلمي «درسٌ في التاريخ» و«هيدا لبنان» جعل السينما تنحسر،
بدرجات
متفاوتة بينهما، لمصلحة المادة الدرامية: لم يكتف هادي زكّاك بتصوير ما
يحدث في
الصفوف المدرسية أثناء حصّة التاريخ، أو بحوارات مباشرة مع بعض
التلامذة وأهاليهم،
وهذا كلّه مهمّ وخطر لأنه يُقدّم صورة صادقة وحقيقية عن هول المأساة
المقيمة في أحد
أخطر المؤسسات المجتمعية (المدارس الدينية والعلمانية في آن واحد)؛ لكنه
أدخل
إضافات بصرية وتعليقات مكتوبة وتفاصيل جانبية شوّهت النصّ
البصري، إلى حدّ ما، من
دون أن تسيء إلى مضمونه. أما إليان الراهب، فصاغت حكايتها بلغة بصرية
جيّدة،
واعتمدت على مونتاج شكّل البنية الأساسية لخطابها الثقافي، وإن ظلّ الفيلم
عادياً
في الاشتغال السينمائي العام.
السفير اللبنانية في
24/08/2009 |