تأخر المخرج المصري خالد يوسف عن حضور الأيام الأولى من المهرجان الدولي
للفيلم العربي في وهران (23 30 تموز 2009)، هو وبطل فليمه «دكان شحاتة»
بدواعي تصوير فيلم «كلمني شكرا». كان الوهرانيون ينتظرون حضوره هو شخصيا
أكثر من أي مخرج آخر لأكثر من سبب يرتبط به وبفيلمه وبـ«بيسة» هيفاء وهبي
التي أقامت الدنيا ولم تقعدها على مخرج أصر بدوره على المشاركة في المسابقة
الرسمية بفيلم من نوعية مختلفة، وهو الفيلم الذي يحكي قصة ونضال أسد
الأوراس مصطفى بن بولعيد، والمخرج هو أحمد راشدي.
في الأيام الثلاثة الأولى كان واضحا أن وزارة المجاهدين الجزائرية، وهي
وزارة لها وزن وحجم وثقل في الجزائر، مصرة على موقفها بخصوص عدم مشاركة
الفيلم التاريخي الضخم الذي رعته وساهمت في تمويله إلى جانب فيلم هيفاء
وهبي. ومن شاهد أحمد راشدي في أروقة المهرجان، والحيرة السوداء غير
المفهومة تتآكله أدرك أن فيلمه لن يدخل المسابقة، خاصة وأن برنامج المهرجان
أشهر من دونه، فيما كان يصر في أحاديثه على القول بأن المشكلة لا تكمن في
وجود (دكان شحاتة) على الأرض الجزائرية، وانما في بعض المسائل التقنية
المتعلقة بـ» تيترات» بن بولعيد.
في اليوم الرابع حدثت المفاجأة عندما تقرر عرض الفيلم في المسابقة الرسمية،
وقد شهد اقبالا ملحوظا ومهما من الجمهور الجزائري، ومن ضيوف المهرجان. ولكن
المفاجأة الأشد جاءت من الحضور الكثيف للفيلم المصري، سبب كل مشكلة، وبحضور
مخرجه خالد يوسف، وممثله الرئيسي عمرو سعد، و«شقيقه» كريم الذي يقتله في
الفيلم، لتبكيه بيسة بحرقة. وفيما انتقد الأول وزارة المجاهدين بشدة،
لمحاولتها منع فيلمه، كان سعد يكتفي ببعض الابتسامات العنيدة التي تذكر
بالنجم الراحل أحمد زكي، وببعض نزقه غير المدروس، وكان يكتفي الثالث
بالتأكيد على نظراته الصارمة كتلك التي ظهر فيها في (دكان شحاتة) منذ دقائق
الفيلم الأولى وحتى نهاياته.
لاشك أن هذين الفيلمين حظيا بأكبر عدد من المشاهدين، فهما لم يتنافسا على
الأهقار الذهبي فقط، وانما على توجهات مختلفة في شؤون الحياة والسينما. فقد
تسلح راشدي بالكثير من الذرائع لتمرير الكثير من الأشياء الخاصة المتعلقة
بفيلمه، وبعضها متعلق بمباركة الرئيس الجزائري عبد لعزيز بو تفليقة نفسه
لـ«بن بولعيد»، وقوله له إن الفيلم « صحيح سياسيا «، فيما توجب على خالد
يوسف أن يذكر من موقعه بأن الجزائر حكومة وشعبا صاحبة أفضال على أستاذه
يوسف شاهين، بعد أن أحس بالطبع بورطته حين وجه سهام النقد لوزارة
المجاهدين، وكان هذا بمثابة تراجع عن موقفه منها. ولم ينس أن يذكر بأنه حين
منع شاهين من العمل في مصر في وقت من الأوقات، قام راشدي نفسه بدعوته للعمل
في الجزائر بما يملك فيها من نفوذ وسطوة. أحمد راشدي، وقد تخلص في الأيام
التالية من حيرته وبددها ببعض الابتسامات اللطيفة، ظل يحافظ في نفس الوقت
على قلق غامض متعلق على مايبدو بالجائزة التي قد يحصل عليها فيلمه، ولا أحد
يعرف بالضبط مصدر القوة التي اتكأ عليها، وأمّن منجاته من خلالها، فكل
الأخبار المتعلقة بفيلمه كانت توحي بأن أسد الأوراس ربما لن يعرض أبدا في
هذه الدورة على الأقل، ولكنه حدث وعرض في المسابقة الرسمية إلى جانب عشرة
أفلام روائية عربية أخرى، وشاهد الجمهور فيلما طويلا (145 دقيقة) عن البطل
الذي اغتيل في يوم من أيام كانون الثاني من عام 1956، عن طريق جهاز ارسال
ملغم، قام الفرنسيون بالقائه في مناطق قريبة من الأحراش التي كان يتواجد
فيها بن بولعيد ورفاقه.
كثيرون شككوا في رواية راشدي، والبعض منهم ذهب إلى القول إن بن بولعيد لقي
حتفه بنتيجة مؤامرة داخلية رتبتها الاستخبارات العسكرية الفرنسية بطريقة
ما، وقالت ابنته إن أباها لم يلق مصرعه بالطريقة التي ظهر فيها في الفيلم.
راشدي الذي أكد أكثر من مرة بأن رواية الجهاز الملغم الذي انفجر به وبرفاقه
هي الأكثر صدقية، كرر بأنه لايوثق لحياة بطل كبير من أبطال حرب التحرير
الجزائرية بالمعنى الحرفي، خاصة وأن الجميع يؤكد بأن الأسد الجزائري كان
شديد الحذر، فيما يتعلق بالموجودات الغريبة التي كانوا يعثرون عليها في
الجبال، وأنه كان صاحب حدس خطير بخصوص التعاطي مع كل جسم غريب كان يصدّر
إليهم.
أيا تكن النهايات، فإن بن بولعيد شكّل انعطافة مهمة في سينما حرب التحرير،
فهو يلخص توجها جديدا على ما يبدو عند السينمائيين الجزائريين المهتمين
بهذا الجانب من تاريخ بلادهم. ففي «بن بولعيد» ثمة انحياز واضح نحو ثيمة
البطل الفرد، لا الجماهير الكلية، وقد لمس المشاهدون أخيرا توجهات مختلفة
أخرى في فيلم جزائري يقارب هذه الموضوعة من زاوية شديدة الاختلاف. ففي
«رحلة إلى الجزائر» للمخرج عبد الكريم بهلول سوف يكشف عن رحلة امرأة
جزائرية (سامية مزيان كانت تستحق من دون شك جائزة أفضل ممثلة عن دورها)
فقدت زوجها في حرب الاستقلال، وقام أحد أعيان مدينة سعيدة بالاستيلاء على
منزلها وطردها هي وأولادها منه. الفيلم يتطرق إلى لقائها بهواري بو مدين
يوم كان وزيرا للدفاع في عهد بن بيلا، وهذه أول مرة، كما يذكر الجزائريون،
يقوم فيلم من أفلامهم باستحضار شخصية بومدين، ويجري الحديث عن تجاوزات
ارتكبها بعض رجالات الثورة في مرحلة مابعد الانتصار.
وبغض النظر عن تقييم الفيلمين الجزائريين لجهة تأكيدهما على خاصيات تميزا
بها على الصعيدين الفكري والاخراجي والتشكيل الجمالي، فإن الامكانات التي
منحت للفيلمين جاءت متفاوتة بشكل كبير وحاد. ففيما حظي «بن بولعيد» ب30ـ
مليار سنتيم، حظي بهلول بمائتي ألف يورو، وهو الذي عمل من قبل بميزانيات
بلغت في بعض الأحيان مليوني يورو كما قال.
بالطبع (دكان شحاتة) شأن مختلف، وإن بدا صاحبه خالد يوسف في وضع لا يحسد
عليه بعد عرض الفيلم مباشرة، فقد كاد يتسبب للتو بابعاد البطل الجزائري
الملهم من الحلبة، فيما اتهمه الجمهور الذي بدا في غالبه محافظا ومتحفزا
ومعبأ بالكامل ضد (بيسة) بأنه معقد جنسيا، حتى إن امرأة جزائرية انبرت له
من بين الصفوف وادعت النبوة الخالصة، وطالبت باغلاق الكاميرات لتبدأ توضيح
رسالتها التي جاءت بها، ولكن يوسف رفض ذلك، وطالبها بالحديث أمام الكاميرات
ان أرادت ذلك. المرأة بالطبع لم تمنح الوقت الكافي لتقول شيئا من رسالتها
أكثر من دعوته للتوبة هو وبطلته هيفاء وهبي، و تردد فيما بعد أن اسمها
فوزية وأنها جاءت من الأرياف بحسب الصحافة الجزائرية، وقد تدخل الأمن
واقتادها خارج الصالة لتقول بعض الجمل المفككة أمام الصحافة المرئية
والمكتوبة.
على أية حال سيتذكر خالد يوسف هذه الواقعة من دون شك، وسيتذكر فوزية
الجزائرية أكثر، فقبل أيام قليلة، وبعد عودته إلى القاهرة ليكمل تصوير
فيلمه «كلمني شكرا»، شبّ حريق هائل في ستوديو مصر صبيحة 4 آب الجاري، وأتى
على ديكورات الفيلم بالكامل بسبب ماس كهربائي، وبالتالي لن نعرف ما إذا
كانت المرأة الريفية الجزائرية قد عرفت بالأمر أم لا، وماإذا كانت ستعزو
أمر الحريق إلى لعنة ساقتها إليه، وهي التي منعت من اكمال كلامها. ولكن
ماهو مؤكد، أن ديكورات خالد يوسف كلفت (الباتروس) _ الجهة المنتجة _ أكثر
من 400 ألف دولار أميركي. وربما أتاح الحريق لفوزية أن تطل ثانية في خيال
خالد يوسف، وربما دعته إلى الابتسام أكثر من مرة برغم الخسارة الجسيمة، فقد
كانت خلطة من نوع آخر يجري الاعداد لها في الطريق إلى جائزة الأهقار
الذهبي، أرفع جائزة يمنحها المهرجان ( 50 ألف يورو )، وهي التي منحت
لـ«خلطة فوزية» للمخرج مجدي أحمد علي، و الهام شاهين التي توجت بجائزة أفضل
ممثلة عن دورها في هذا الفيلم، وعند هذا الحد لم تعد الخلطة سرية، وكان
يكفي متتبعي خيط الجوائز أن يدركوا في النهايات أن «دكان شحاتة» لن يحظى
بشيء، فيما سيكتفي راشدي بجائزة أفضل ممثل لحسان كشاش عن دور «بن بولعيد»،
وهي جائزة قد لا تعينه كثيرا على مواجهة وزارة المجاهدين التي وقفت في صفه،
وكان عليها أن تتحمل تبعات مشاركة الفيلم إلى جانب بيسة.
بقي أن الأهقار التي تمنح الجائزة باسمها، هي منطقة في الجزائر تتميز
بطبيعتها الخلابة وتضم جبال تاسيلي، وهي حافلة بعشرات آلاف الصور والرسوم
والنقوش التي يعود عمرها إلى آلاف السنين، وقد وضعتها اليونسكو على قائمتها
للتراث العالمي. والأهقار هو موطن ملكة الطوارق تين هينان.
المستقبل اللبنانية في
23/08/2009 |