مَنْ يحابون مُنجز صاحب التحفة الشعبية الهوليوودية «بالب فيكشن» (1994)
المخرج
الأميركي كونتن تارانتينو هم، بكثرتهم، أشبه بالحصانة الإعلامية لبقية
أعماله التي
انحدر مستواها منذ «جاكي براون» (1997). يُصرّ هذا الطابور على أن اشتغالات
«مخبول
السينما» حافظت على رونقها، حتى وإن هبطت فذلكاتها إلى الانحطاط الصُوَري،
كما في
الفيلمين المتسلسلين «أقتل بل» (2003 ـ 2004)، والتهافت البورنوغرافي في «غراندهاوس»
و»محصّنة ضد الموت» (أُنتج كلاهما في العام 2007)، وهم يعلون من شأنه
على اعتباره أحد خوارج السينما المستقلة، والمبتكِر والمحدِّث في لغة
«الفيلم نوار»
المعاصر، والمستدعي بذكاء للشخصيات الكلاسيكية كلّها في الأربعينيات
والسبعينيات،
ممن توزّعت سحنهم على ملصقات أفلام من نوعيات انقلابية مثل الـ»سباغيتي
وسترن»،
وشخصيات تتستر بالقانون أو بالاحتراس على حدّ سواء، لقتل أكبر قدر ممكن من
الأوباش،
على غرار هاري كالاهان (كلينت إيستوود في «هاري القذر») أو بول كيرسلي
(تشارلز
برونسون في «أمنية موت»)، ولاحقاً جون ماكلاين (بروس ويليس في «العنيد/ متْ
بقسوة»)، أو وسطاء الموت كما هي حالة الميجر رايزمن (لي مارفن في «الدزينة
القذرة»)، وبك بيشوب (ويليم هولدن في «الزمرة المتوحّشة») وغيرهم.
استعارات
بيد أن ما فات هؤلاء، بعيداً عن توصيفاتهم، أن تارانتيو احتال على الجميع،
بعد
أن حوَّر مئات الأفلام التي شاهدها أيام ولعه بالسينما الذي لا يُقارعه فيه
أحدٌ،
عندما عمل أجيراً في متجر لتأجير أشرطة الفيديو في كاليفورنيا، واستعار
منها شخصيات
ظلّ يُداور بها أفلامه قليلة العدد. ما الذي اختلف في المقابل؟ حكايات
تارانتينو
التي بدأت تتضخّم وتسقط في قنوات أشدّ قسوة وأكثر دموية. ذلك أن «مهووس
الأفلام
وعناوينها وأسماء مؤدّيها» حدّد ضحاياه ـ عشّاقه ممن يحرقون أعصابهم
للتفنّن في صيد
مرجعياته واقتباساته وخيوط انتقاءاته. والأهم في الحكاية، أن تارانتينو لم
يشأ خلع
ردائه المستحدث لأميركية مصطنعة، حاول من تحت وصايتها أن يستعيد أجواءً
بارت وانتفت
وتحولّت وانقلبت. فالمتمعّن في باكورته «كلاب المستودع« (1992)، يُفاجأ
بعناد
سينمائي يذهب نحو أربعينيات المخرج روبرت سوديماك «القتلة«، ولاحقاً
ستينيات مواطنه
دون سيغال، اللذين تشاركا في اقتباس أقصوصة الكاتب إرنست همنغواي التي تحمل
العنوان
نفسه. ما فعله تركّز على «تلوين» الشخصيات الست وإبقائها مرسومة الأفعال
والكلام
ضمن محيط مشمس وسياحي ومتفجّر في حركيته، قبل أن تُفخَّخ بدماء راعفة ورصاص
كثير.
وإذا حافظت أفلام الأربعينيات على طعوم سينمائية قاتمة وسرية ومحكومة
بالعقاب، فإن
تارانتينو أوقع نفسه في مطبّ «الفيديوية» وذائقاتها المتعجّلة للنهايات
القاسية
الطباع، فترسّمت باكورته التي جعلت اسمه علامة ثمينة في مشهديات بيفرلي
هيلز
والأسواق الأوروبية لاحقاً، باعتبارها نموذجاً مبتكراً ينحو إلى ضخّ كميات
معتَبَرة
من الكوميديا ضمن عنف مقيت، ما أدّى بالشخصية الشريرة إلى الانتحار بالنكات
والمواقف التهريجية، التي قلبت مشهديات التصفيات وسيول دموياتها إلى لذّة
سينمائية
مفعمة بالقهقهات.
وهذا الأمر كرّره لاحقاً في عمله «بالب فيكشن» (رواية شعبية)،
الذي فاز بفضله بجائزة «السعفة الذهبية» في
مهرجان «كان» في دوة العام 1994،
وبـ»أوسكار» أفضل سيناريو في العام اللاحق،
باثاً أنفاساً دينية ـ وجودية في عوالم
شخصياته الرئيسة، التي بلغ عددها ست أيضاً، وقابلها ضمن خانتين: مصفّون
وهاربون؛
حيث يسعى الأُوَل إلى التثبت من سيران قانون الإجرامي للجباية عبر فنست
(جون
ترافولتا) وجولز (صموئيل ل. جاكسون)، وهذا الأخير برّر غباء ضحاياهما بنصوص
إنجيلية، وثالثهما هو الزعيم الأسود النافذ مارسيلّيوس (فينغ رايمز)، الذي
تعرّض
للاغتصاب من قبل شرطي مهووس، والإنقاذ لاحقاً على يدي طريدته الملاكم بوتش
(بروس
ويليس) الساعي إلى تبييض تاريخه. ومثلهما بامبكن ـ رينغو (تيم روث)
وعشيقته،
والبطلة مايا (أوما ثورمــان) التي يشــي تاريخها بسقطات لا تني تبحث عن
مهرب منها،
قبل سقــوطها في براثــن الزعيم الزنجي العنيف، الذي يغلّف كلامه بوقع شعري
منمّق.
فخّ
إن التداخلات الدرامية وحبكاتها المعقدّة تطول في «بالب فيكشن» (اصطلاح
أدبي لا مقابل عربياً له) عن النص السابق. والسبب واضح في مسعى تارانتينو
المتمثّل
بجرّ مشاهده نحو سِيَر متعددة لأبطاله. ذلك أنهم إرادات يمتلكها ويُطيل أو
يُقصّر
وجودها على الشاشة. والفخّ الذي ينصبه لنا يتمثّل بكثرة الوقائع التي تلد
أخرى من
دون توقف. الأمر الذي يفسّر استمراء تارانتينو تقسيم عمليه الأخيرين «أقتل
بل»
وثنائية «غراندهاوس» وعرضهما كنصوص منفصلة. ولا ريب في أن هذه الحذلقات
التجارية
أسقطت شرعيته كمغامر، وحوّلته إلى محتال سينمائي مزدوج، سَلَب روح النصوص
الهوليوودية الأثيرة، وحوّلها إلى هوام استعراضي لم يعد يُغني أو يُقنع.
المؤشرات كلّها، التي شعت في فيلمه «جاكي براون» (1997) وحكايته المتباسطة
حول
تواطؤ البطلة التي يحمل الفيلم اسمها بعمليات تبييض أموال، ومطّها بأفخاخ
متعدّدة
تنتهي بالانتصار الكبير لذكائها بعد إيقاعها بالجميع الآثم من حولها، تنهار
في
جديده «إنغلوريوس باسدردز» (صفة العصبة العسكرية التي يمكن ترجمتها
بـ»أوغاد
شائنون»)، من حيث تعمّد تارانتينو خيانة قيم الشخصيات مثل جاكي وبوتش ومايا
وعروسة «أقتل
بل» وفتيات «غراندهاوس» المنتقمات، وهم جميعهم النمذجة المثالية للكائن
المحاصَر بواقع ظلامي وعسف إجرامي معقّد، ومسخها إلى تاريخ منحطّ ومرسوم
مسبقاً
يفرض على أبطاله أن ينتقموا من نظام كارتوني الأركان.
وبما أن مرجعية هذا
الفيلم معروفة، وتعود إلى ما أنجزه الإيطالي أينزو كاستلاّري في العام 1978
بالعنوان نفسه، فإن زلّة تارانتينو أخذت بُعدَ تشفٍ واضحاً لن يخفي فيه
وعبره
تدليسه السياسي ومحاباته للمديّات اليهودية داخل هوليوود (شارك الأخوان
وانشتاين في
إنتاج الفيلم، كعادتهما مع هذا المخرج الذي وُلد في العام 1963)، ما قَلَب
النص
الأصلي الذي سبق أن صُنع ضمن سياق أفلام «بطولات الضحايا»، التي فبركت
انتصارات
الطرف الآخر من لعبة الحرب، بعد استغباء الطرف المتجبِّر كما في «الهروب
العظيم» (1963)
لجون ستريغز و»خمسة إلى الجحيم» (1969) لجيان فرانكو باروليني و»أبطال
كيلي»
(1970)
لبراين هاتون و»عملية النشابية» (1965) لمايكل
أندرسون و»إكسبريس فون راين»
(1965)
لمارك روبسن» و»أين تتحدّى العُقبان» (1968)
لهاتون وغيرها، وأحاله إلى عمل
افتراضي لا تستقيم «حدودته« بعد ستين عاماً
من انهيار النازية، مع المعطيات
السياسية العالمية المتجدّدة، والأعداء
الجدد الذين أنتجتهم الحروب الاستباقية. لم
تنطل على أحد مشاهد تصفية هتلر وأركان نظامه كما أرادها تارانتيو داخل صالة
السينما
الصغيرة، بما يتناقض بشكل فاضح مع حقائق الحرب ومجرياتها، وما يمكن اعتباره
تنصّلاً
من الحقيقة الضائعة بشأن انتحار زعيم الرايخ أو إعدامه من قبل زمرته.
تفاصيل
هذه التفصيلة ليست الفيلم كلّه (153 دقيقة)، الذي بدأ بمقولة «كان يا ما
كان في
فرنسا المحتلة...»، ليغيّر المكان الأصلي إلى سويسرا المحايدة، بل لكي يفتح
مديّات
درامية لفيلمه الذي قسمه إلى زمرتين: الأولى حفنة من المتطوّعين اليهود
الأميركيين
بقيادة الضابط آلدو (براد بت)، الساعين إلى تصفية أي نازي يواجهونه،
والثانية
تتمثّل بشابة يهودية فرنسية ترث صالة عرض سينمائية تسعى بدورها إلى
الانتقام من
قتلة عائلتها، ليسعفها الحظ باختيار الدار لعرض فيلم روائي يمجّد بطولات
النازي،
بحضور هتلر بطلّته الكاريكاتورية. وفيما يعمل سكين آلدو حفرياته على جبهات
الجنود
المرعوبين، راسماً على جباههم الصليب المعقوف (كبديل لنجمة داود التي كان
يرسمها
النازي على منازل اليهود الألمان ودكاكينهم)، وحاثّاً أفراد فريقه على جزّ
شعور
رؤوس الموتى، تيمّناً بطريقة أجدادهم مع الهنود الحمر، تتلقّى الشابة
شوشانا (أداء
مميّز للفرنسية ميليني لوريان) رصاصات الموت على يد العاشق والنجم
السينمائي
الألماني فريدريك زولّر (دانيال بروهل)، مفسحة المجال للمقاومين الفرنسيين
بقيادة
بريجيت (ديان كروغير) لحصد أكبر عدد ممكن من أفراد القيادة الدموية، في وقت
يقع فيه
المجرم الكولونيل هانز (أداء قدير للنمساوي كريستوف فالتس)، الذي صفّى أهل
شوشانا،
تحت نصل آلدو، ليحفر الصليب المعقوف على جبهته حاملاً شارة التهديد لمَنْ
تسول نفسه
له إعادة التاريخ، والخزي لمن سيتورّط يوماً في حمل العداوة ضد اليهود.
جُلّ
شخصيات هذا العمل مصطنعة، لا حقّ لها في التاريخ أو في مخيلته، إذ إن
أوانها فات
وحجتها ماتت. بيد أن التفكير باختيار هذا المخرج المثــير للقــيل والقال
لثيمة من
هذا النوع وفي الألفية الثالثة، تؤكــد سياســة الاستهداف الدعائي لجيل
جديد يُجبَر
على الإذعان لسبّ جــريمة النازي إلى أبد الآبدين. ثم إن محظيّي
تارانتيــنو
سيــرون في «أوغاد شائنون« تهريجا محبّباً مليئاً بالمفرقعات والنكايات،
لكنه أجوفَ
ذو وفرة من التبطل الفني. ومَنْ يتوقع فذلكة سينمائية يستعاد فيها ملامح «تارانتونية»
سابقة ضجّت بشخصيات غنية، مثل فنسنت وجولز والآنسة براون والأبطال
الملوّنين لـ»كلاب المستودع»، عليه أن يعد نفسه لمشاهدة شخصيات بالية
تتحرّك داخل
صُوَر زاهية الألوان، كظلال مفــبركة تمــوت بعد انطــفاء ضوء المشغل
السينمائي.
)لندن(
السفير اللبنانية في
21/08/2009 |