لم يقدر للممثل الفرنسي ذي الأصل الجزائري ياسمين بلماضي، وأحد الأبطال
الرئيسيين في فيلم «وداعا يا غاري»، أو «وداعاً يا جاري» بحسب
بعض الترجمات، تذوق
نجاح الفيلم فقد وافته المنية في تموز (يوليو) إثر حادث سير أسبوعاً قبل
عرض الفيلم
في الدور الفرنسية. كان الفيلم قد نال حين عرضه في أسبوع النقاد في الدورة
الأخيرة
لمهرجان «كان» الجائزة الكبرى. في الفيلم وقف هذا الممثل الشاب
(33 عاماً) باقتدار
أمام أحد كبار ممثلي السينما الفرنسية جان بيار بكري مشكلاً معه ثنائية
الأب والابن
على نحو متميز.
«وداعا
يا غاري» أخرجه الفرنسي نسيم عموش المولود في فرنسا من أبوين جزائريين.
كان عموش قد لفت الانتباه إليه من خلال
فيلمه القصير «من الجانب الآخر» حيث نال
عليه جائزة «اكتشاف النقد الفرنسي» عام 2004 كما أنه حصد جوائز
أخرى في مهرجانات
عدة منها «كان» و «لوكارنو». ويستعرض «من الجانب الآخر» مشاكل اندماج
المهاجرين
والفوارق الطبقية عبر عودة شاب مغترب إلى الحي الفقير حيث نشأ وحيث تعيش
عائلته. لا
ينهج» وداعا يا غاري» العمل الروائي الأول لهذا المخرج منحى مغايراً. فنحن
في جنوب
فرنسا في مدينة شبه خالية، يهجرها سكانها واحداً تلو الآخر.
ثمة شارع ممتد فارغ من
الأحياء ومن الحركة، و مبان مهملة، ونوافذ مسدودة، ونظرات ترقب كل دبيب،
وشخصان أو
ثلاثة مستلقون في مكان ما ينتظرون حدثاً ما، قدوم شخص ما.
غاري كوبر حاضراً
تتموضع حركة الفيلم في هذا الشارع الطويل، في تكرار المشاهد، كأن تلك أخذت
لفيلم
«وسترن».
أفلام «الوسترن» هذه حاضرة بقوة في العمل، بالتحديد منها تلك التي يمثل
فيها غاري كوبر، ليس في أجوائها فحسب بل عبر مشاهدة إحدى شخصيات الفيلم لها
على
مدار اليوم، وحين لا تفعل فإنها تنضم لبائع للمخدرات مقعد في
جلسة صامتة على طريق
مترب. يحلو لهذا الشاب الممتنع عن الكلام والذي لم يعرف له أباً أن يتخيل
أن الممثل
غاري هو والده. يبدو الزمن
وكأنه توقف في هذه البلدة الصغيرة الخاملة والتي كانت
يوماً تنبض بالحياة حين كان المصنع يدور، وحين كان العمال هنا.
هي مسرح لأحداث لا
تجري، ولنماذج بشرية متفرقة يجمعها البحث عن عمل عن هوية وانتماء، عن أمل
ما. الأب
الفرنسي (جان بيار بكري) العامل في المصنع يحاول نقل مفاهيمه الفرنسية
لولديه، حول
احترام العمل وأهمية الالتزام و مفهوم الانتماء. لم تعد
والدتهما المغربية على قيد
الحياة وهما مشتتان. في إيقاع متأن وصورة غنية وشخصيات قوية يستعرض المخرج
المعاش
اليومي لهذين الشابين ورفاقهما ويلقي الضوء على أوضاع الشباب من ذوي الأصول
المهاجرة، على الهوية المزدوجة وانعكاسها على أسلوب التفكير
والسلوك معا، على
العلاقة مع الفرنسيين المحيطين بهم و الذين لا يختلفون عنهم بالضرورة،
لاسيما حين
يعانون الهم المعيشي والاقتصادي نفسه.
يؤدي ياسمين بلماضي دور الشاب الذي خرج لتوه من السجن بعد قضية متاجرة
بالمخدرات. إنه يأنف من قبول الأعمال» الصغيرة» لكسب قوته،
يرفض الدخول في اللعبة
والرضوخ لأرباب العمل وشطحاتهم، ينشد ما لا يعرف كيفية الحصول عليه ويتطلع
الى
مستقبل مغاير لماضي وحاضر والده العامل. هو لم يقدر قيمة العمل الحقيقي
وبهجة
الإنجاز إلا حين جربه مرة لمساعدة والده في إصلاح آلة. الأخ
الأصغر يعمل بجد رغم
عدم رضاه عن عمله وطموحه بالتغيير، يرى الخلاص في العودة إلى جذوره ولكن
أية
جذور؟
لقد بدأ تعلم اللغة العربية بعد أن قرر «العودة» إلى المغرب وطن أمه
الراحلة،
فهناك سيكون لحياته معنى كما يظن. لا يلقى مكانه في المجتمع
الفرنسي ويتخيل أن
العيش «هناك» أفضل. والده الفرنسي يسخر منه ومن هؤلاء الذين يتحدثون عن
«البلد».
فأي بلد هذا وأي وطن؟ إن وطنه هو حيث ولد
وعاش، في فرنسا. إنه مختلف عن الناس هناك
ولن يُقبل بينهم بهذه السهولة التي يظنها.
فهم ما يجري
شكل المكان العنصر الأساس في هذا العمل، وكانت تكفي جولة العدسة على الشارع
الطويل المهجور نفسه، النوافذ المغلقة، مدخنة المصنع نظرات
السكان وكيفية مرور
الوقت على هذا وذاك لفهم ما يجري. وساهمت الموسيقى التصويرية (الثلاثي
جبران) في
إضفاء جو من التآلف على العلاقة بين الشخصيات( ولو أن المشهد الذي ظهر فيه
الأخوة
يعزفون ويعلمون أداء أغنية عربية لإحدى البطلات بدا مقحماً)،
وكانت عنصراً مساعداً
للحوار الذي اقتصر على جمل قصيرة مركزة، قوية المدلول من دون ثرثرة، بيد
أنها كانت
كافية لتبرز هذا الخواء وهذا البحث المضني عن هدف وعن هوية وهذه المعاناة
من
البطالة للمهاجرين والفرنسيين على السواء. لقد حاول المخرج عبر
الخليط الأسري
والمجتمعي الذي بيّنه أن يثير النقاش عن مكان ذوي الأصول العربية، هل هم
فرنسيون
وجزء أساس من نسيج المجتمع الفرنسي، أم ثمة اختلافات لكنها لا تفسد
الاندماج؟
في لقاء معه نشر في موقع على الانترنت، صرح نسيم عموش أنه « على رغم بعض
مظاهر
العنف فإن وضعهم (المهاجرين) سليم (في فرنسا) نسبة للوضع
السائد في أحياء من بلجيكا
وإنكلترا (حيث) يقول المهاجرون هناك: نحن لسنا في ديارنا، فهم عمال يعيشون
في
غيتوات منعزلة ما يبعد مشاكل الاندماج. في فرنسا تدور حوارات شيقة وعديدة
حول
اندماج المهاجرين، وفي أي حال لا توجد لامبالاة حيال هذا
الموضوع وهذا هو
المهم».
الحياة اللندنية في
21/08/2009 |