أمتعتنا شاشة هذا العام الذي لم يمر منه سوى سبعة أشهر فحسب،
بعدد من الأفلام المصرية الجيدة: (عين شمس) إبراهيم البطوط،
(واحد - صفر) كاملة أبو
ذكرى، (دكان شحاته) خالد يوسف، (إحكي يا شهرزاد) يسري نصر الله.
والفيلم الأخير
يطرح - ضمن ما يطرح - مسألة التشابه العفوي والتقليد المقصود، والممزوجيْن
في
بعضهما إلبعض، بحيث لايستطيع المرء تحديد ما بين أن يكون
التشابه جاء عفواً أو
قصداً : عفواً أستُكمل بالقصدية، أو قصداً ارتدى زىّ العفوية.
وقد صّرح المخرج
متضامناً مع السيناريست وحيد حامد بتلك المسألة على لسان (علي) مدير محل
متخصص في
بيع أرقى أنواع العطور والبرفانات وأدوات التجميل من أشهر
الماركات العالمية..اذ
قدم هذا الأخير أذكى فتيات المحل وأحلاهن قواماً وجمالاً وحُسن تصرّف إلى
صاحبة
أشهر برنامج تليفزيوني (هبة يونس الطالع من جوف الحوت) مثلما هي الهبة
الإبداعية
الطالعة من جوف حيتان الإعلام المرئي..قدّم (علي) لـ(هبة)
الفتاة الداخلة بإرادتها
إلى جوف ممثلة أجنبية مشهورة لتكون مرشدة لهبة أثناء التجوّل في أرجاء
المحل الغارق
في النور السابح فيه نساء الثروات الجديدة القادمة دون نقطة عرق واحدة
نزفها جبين
العمل الإنتاجي..قال علي لهبة: أقدّم لك سلمى حايك المصرية (ثم
أضاف) أنا من رأيي
أنها أجمل من سلمى حايك وأجابته هبة : الدنيا حظوظ يا علي.
ما حدث في المحل من
حوارات سريعة مقتضبة (من ضمنها الحوار السابق) كان له أثره الإنقلابي على
تفكير هبة
وسلوكها، لذلك لم يهتم المخرج بإشباع رغبة المتفرج في معرفة
حكاية سلمى، واكتفى بأن
تكون هي والمحل وزبائنه شفرات نصّية و(علامات) دالة على خط السير الجديد
للمذيعة
التليفزيونية .
وهذا التشابه في الشكل بين السلمتيْن (اللاتينية من أصل عربي،
المصرية من أصل شعبي ) إمتد إلى التشابه في الأسماء + التطابق
الصوتي بين الشقيقات
الثلاثة: صفاء/ وفاء/ هناء. وهذا التشابه يصنع مثلثاً أضلاعه مختلفة الطول (كأعمارهن) ومختلفة في اتجاهاتها كمسالكهن
تجاه (سعيد الخفيف: الممثل محمد رمضان)
رغم وحدة الهدف (الزواج منه بشكل معترف به شرعياً) فالمضمون قد حدث إذْ
تزوج سعيد
كل واحدة منهن من وراء ظهر أختها.. قبل ظهور الفضيحة كن متساندات على بعضهن
البعض،
كأضلاع أي مثلث، سواء كان حاداً أو منفرجاً كعيشتهن المتقلبة
ما بين الحّدة
والانفراج، بيد أنه لو ابتعد ضلع من المثلث ضاعت كينونته مثلما ضاعت أسرة
الشقيقات
الثلاثة حين انفرط عقدهن لحظة اكتشافهن لخسة سعيد الذي سيطر عليهن بالشيء
الوحيد
الذي لا يملك غيره، واستطاع به أن يكون الحاكم بأمره على
أجسادهن، ومن ثم على
أفكارهن، ومن ثم إذا امتدت الخدعة إلى مسالكهن، ومن ثم السيطرة على ما
يملكونه من
بيت ومحل. إنه الصورة العكسية لشفاعات (تحية كاريوكا / فيلم: شباب امرأة)
والصورة
الممتدة للصوت (محمد منير) الذي لعب بإسرة مكونة من ثلاث إناث
(أم وبنتين) وليس لهم
سوى صبي صغير هرب من البيت الذي فقد إيقاعه في فيلم خيري بشاره (يوم مر
ويوم حلو)،
وهذه الصور مجدولة بشخصية (الراعي / أحمد زكي) ونسائه الثلاث في فيلم
المخرج علي
بدرخان.
لقد انهدم ما تمنّاه الوالدان الراحلان لبناتهما من صفاء نفس جالب لوفاء
بينهن، ومن هاتين الصفتين ينعمن بالهناء، لذلك جاءت أسماؤهن
على هذا النحو،
والترتيب : صفاء ووفاء وهناء.
من الشرقاوي للغرباوي
ينتقل الفيلم
إلى قصة أخرى، وتشابه آخر، لكنه معكوس، قصة صائد العانسات
(أدهم
الغرباوي /
الممثل محمود حميده) في إشارة إلى نوع البطل الجديد الذي أفرزته مناخات
الفساد
المتغلغلة للروح التي وجدت نفسها تنتقل بالبطل من الشهامة والتضحية ونصرة
الفقراء
(أدهم
الشرقاوي) الذي صار أسطورة شعبية محّلاة بصوت المطرب محمد رشدي إلى الخسّة
والنذالة (أدهم الغرباوي) وهذه الخسّة نقابلها اليوم في عدد غير قليل من
أغاني
المطربين الشبان..
ولننظر إلى هذه المقابلة بين (الشرقاوي) و(الغرباوي). أي
(الشرق
والغرب). أي: تقاليد الشرق صاحب الرسالات السماوية والعقائد الأرضية
والمناخات المعتدلة، وتقاليد الغرب صاحب الفلسفات والسيمفونيات والمناخات
قارصة
البرودة، فصار الأول بغير إرادته معطاء من أول التوابل قديماً
حتى البترول حديثاً،
والثاني صار ناهباً لتلك الأمم الشرقية العريقة التي لم تجد عريسها المناسب
إلى أن
جاءها من استطاع بصوت جميل يشبه حلمها أن يستولي على سلطتها.
على المستوى
المحدود: (وضيع المقام: سعيد الخفيف / ورفيع المقام :أدهم الغرباوي )..وعلى
المستوى
العام: (السلطة اللاوطنية والشعب).. وعلى المستوى الأعم:
(الاستعمار وبلدان
الجنوب).
فقرة غير إعتراضية
قال كريم الصحافي لزوجته المذيعة: كله
سياسة ياهبة.. ونفس الجملة أعادتها هبة حينما نبهها المعد رشدي (الممثل:
شادي خلف)
قائلا : دي سياسة يا هبة.
وبمعنى خلفي مواز :الكلمة المقروءة قالت للصورة
المرئية :كله سياسة..ومع أن الصورة انتبهت لهذه المسألة إلا أنها لاترى
الكلمة بكل
أبعادها المختلطة فيها القوة بالضعف، والكلمة مثلها أيضاً، لا تسمع ما في
تفاصيل
الصورة غيرعموميتها الناطقة بحكم أخير واحد (الرجل شرير
والمرأة بنت حلال!) لذلك
استحالت الحياة بينهما، كل منهما يحاول توجيه الآخر، إلى أن انتهت العلاقة
بينهما
ببقع دم لطخت نصف وجه المذيعة لتظهر في نهاية الفيلم مقسومة إلى اثنين :
نصف جميل
والنصف الآخر قبيح، وكأنها تترجم إلى لغة الصورة آخر جملة
قالتها سلمى (الممثلة:
فاطمة ناصر) لهبة في محل العطور: أنا مقسومة اثنين..أنهما يشبهان بعضهما
بعضا. سلمى
تعرض على هبة من ألوان الشفاه لونا أحمر مثيرا للشهوة الجالبة للتواصل، وهو
ذاته
لون الدم المراق على وجه هبة جالبا الفراق بينها وبين زوجها،
كما تعرض سلمى عليها
روائح العطور المنعشة الجاذبة إليها الناس الذين تعرض عليهم هبة الروائح
العفنة
الفاسدة التي قد تكون منعشة لأسئلة العقل الجاذب لإجابات قد يكون أحدها
مفتاحا
مناسباً لأبواب الاسئلة المغلقة على ذاتها.
فقرة غير إعتراضية : قامت هبة مفزوعة
من نومها وليس على لسانها سوى 'الأبواب'. ولكن الأبواب في حاجة إلى سيقان
تذهب
إليها، والمذيعة هبة لا تستخدم ساقيها إلآ كعنصر تجميلي ينتهي بحذاء جديد
يتغير كل
حلقة تليفزيونية.
مكتفية بالمعد التليفزيوني (رشدي) الذي تقوم ساقاه وعيناه
برحلة البحث عمن يفيد إذكاء شهرة المذيعة التي تتمتع بقدرة
الإيحاء على أنها تعايشت
مع الضحية في حين أن مخرج البرنامج وإلى جواره المعد يوجهانها بإستمرار وهي
تتبع
إرشادتهما، أي هي ممثلة أختير لها دور البطولة الفردية ضد كبار الفاسدين
ومنهم
أصحاب القناة التي تعمل بها هبة وكأنها قناتها الخاصة تفعل
فيها ما تريد وتتناسى
أنها مجرد هبة إبداعية تستثمرها القناة لجذب غالبية المشاهدين وبالتالي جذب
المزيد
من أموال المعلنين عن بضائعهم. إنها في عرفهم رُمانة الميزان بين ولاء
جماهيري
مزعوم وطاعة عمياء لسلطة القناة، انها الوردة الجميلة التي
تجذب ذات الرداء الاحمر ( =
الناس الطيبين) إلى حيث يلتهم الذئب (= أصحاب القناة) جيوبهم وعقولهم..وهو
نفسه
الذئب الوسيم (أدهم الغرباوي) الذي ذهب فاتحاً فمه بحجة الكشف عن أسنانه
عند
الطبيبة الاستقراطية (ناهد / الممثلة: سناء عكرود) التي تكتشف
أن أسنانه سليمة،
وأنه بالقطع جاء لغرض آخر. ولما لم يكن هناك من سبب آخر إذ هو رجل إقتصاد
وهي
طبيبة، ولاجامع مهنياً بينهما، ثم أن بعض زبائنها من كبار القوم هم الذين
أرشدوه
إليها، فالمسألة أذن هي الارتباط الشرعي : الزواج..وهذا المشهد
يذكرنا بلعبة
الاستقراطية (فيفي / راقية إبراهيم) مع المطرب محمد عبد الوهاب (الطبيب
محسن في
فيلم رصاصة في القلب) والتي ذهبت إليه مدعية أن أسنانها تؤلمها وكتغطية
لمأربها
الحقيقي، وهو الزواج منه..ودخل معها اللعبة..وظل يراودان
بعضهما بعضا طوال الدويتو
الغنائي (حكيم عيون)..الشيء نفسه حدث بين أدهم و الطبيبة، مع العكس طبعاً،
الاثنان
يفهمان بعضهما بعضا، وإن كان أدهم هو الأسبق لأنه صاحب فكرة الارتباط
بالطبيبة التي
فضلت مجاراته في اللعبة، لكن مع شيء من الحرص الذي لم يكن
عائقاً أمام شيطان
لاعلاقة له بأية قيم أرضية أو سماوية. إلا انه شيطان من نوع خاص. هو قمة في
العلم (خريج جامعة ميتشجان بإمريكا) ومستشار
للمجموعة الوزارية الاقتصادية ويملك مؤسسات
بالخليج ووسامة وصحة وعافية تدفع نساء الثروات الجديدة للجري
وراءه. فلماذا يفعل
ذلك؟.هل لأن الطبيبة ناهد من عائلة أرستقراطية أصيلة؟ والرغبة الدفينة هي
الانتقام
من هذه الطبقة حامية القيم المصرية الأصيلة عن طريق بنت من بناتها. وإلى
جانب
الانتقام من الأصالة هو يستمتع باللعبة، لا من أجل الثلاثة
ملايين من الجنيهات التي
طلبها من الطبيبة التي صارت امرأته، لكن من أجل الاستمتاع بسيناريو كتبه هو
وأخرجه
وقام بتمثيل الدورالرئيسي فيه (أهو يشبه حلم المخرج السينمائي الفنان الذي
يتمنى أن
يصنع فيلمه من الألف للياء على عينيه هو؟..أو على الأقل يلتهم كل ما حوله
من أجل
شهوة الشهرة الفردية مثل المذيعة؟).
ما الطبيبة سوى مخلوقة يعيد المخرج بأصابعه
تشكيل نفسيتها وملامحها على نحو يرغبه هو. وهي هنا (الطبيبة) تشبه المذيعة
الواعية
للعبة التليفزيونية، لكن أصحاب قناة الشمس أعلا منها وعيا وفهما للتناقضات
الثانوية
الكامنة بين أي اثنين حتى ولو كانا زوجين حبيبين، خاصة إذا كان
في مجال متشابه،
وتحت سيطرة سلطة اعلامية واحدة، ومن ثم بدأت سياسة الضغط الهادئ الناعم على
الزوج
الذي بدأ يستعين على تثبيت أعصابه بالحبوب المهدئة التي صاحبها صوت سارينة
سيارة
نجدة، وكأنها تعلن عن بداية صدام قد ينتهي بالقتل، أو الشروع
فيه، أو على الأقل:
قتل الحياة الزوجية التي نصحت الصديقة حنان بأن تحافظ هبة عليها خاصة وأن
هذا هو
زواجها الثاني.
ويستمر الضغط على الزوج الصحافي (= الكلمة ) ليضغط بدوره على
الزوجة المذيعة التليفزيونية (= الصورة) فإما أن تتوافق مع ما
يريده زوجها، أو
تتصارع معه، ولكن نشوة اللعبة التليفزيونية وجماهيريتها التي تتزايد كل
حلقة، جعل
ذهنها يتفتق عن حيلة شعبية تجمع بين الموافقة والمعارضة في آن واحد، حيث
قالت
لأفراد مكتبها: حنسوق الهبل على الشيطنه.
وبالفعل نفّذت ذلك مع (أماني / الممثلة
سوسن بدر) المتطوعة لخدمة نزلاء المصحة النفسية، إذّ تبادلتا دوريهما:
الضيفة أماني
تحّولت بشكل يبدو عفوياً إلى مذيعة، والمذيعة رأت نفسها وكأنه غصباً عنها
مجرد ضيفة
صامتة. وزملاؤها في الاستديو ينبهونها إلى خطورة ما يحدث أمام
جماهير القناة،
وكأنهم لاعلاقة لهم باللعبة التي رسمتها المذيعة صاحبة السيناريو
والإخراج..وبالتالي أصبح لأماني حرية الربط مابين السياسة
وحكايتها مع آخر صائد
للعانسات صادفته (حسين الأمام) شبيه (أدهم الغرباوي) مع الفارق، فالأول
أقرب إلى
الشرف والأمانة من الثاني، إذ كان واضحاً في طلباته: أن تعطيه كل ما تملكه،
إضافة
إلى قيامها بخدمة أمه، وهو في هذا يشبه عم الشقيقات الثلاث الذي كشف نفسه
سريعاً
بعد تمويه قصير مُحكم لتبيان حبه لبنات أخيه إذ تنازل عن نصيبه
في الميراث بورقة
كتبها ووقعّها باسمه، مثلما فعل صائد النساء، لكن الوجه الآخر لهذا الشكل
أن العم
تنازل عن نصيبه الشرعي، والصائد يطلب من (أماني) أن تتنازل عن كل ما تملك،
الشكل
الأول تمويه للمضمون، والشكل الثاني هو المضمون ذاته. وبالتالي
هو أشرف شخصيات
الفيلم نسبياً.
أما أدهم فهو يشبه كما ذكرت من قبل سعيد، إذْ بدأ ينكشف أمرهما
بعد أن وقعت (الفاس في الراس) وانقسام البنات السيدات ما بين
العقل والجنون.
الإدارك واللاادراك، ومثلهن: الطبيبة / أماني العانس / سلمى حايك المصرية
/
والمذيعة..وإذا كانت بقع الدم اشتركت مع مشاهد الطبيبة والأخت الكبيرة
والمذيعة،
فإنها لم تظهر مع حالة المرتبكة أماني، ولا حالة المتماسكة سلمى. الأولى
اختارت
وسطا يلائمها (المصحة النفسية) والثانية انتقت عملا يتيح لها القيام بدور
الأرستقراطية بمهارة، وتحت سطوع الأضواء، معّوضاً إياها (هذا
الدور) عن نصف حياتها
الثاني الذي تسيره في الظلام بين الروائح العطنة، والأدخنة الخانقة إلى
بيتها..الجهاز التنفسي للمذيعة لايستطيع مقاومة العطن والدخان،
فيما سلمى تسير عادة
عادية، إذ أن جهازها التنفسي قد تعوّد على ذلك، وكأنه جهاز تنفس لحشرة من
الحشرات...بالدليل العملي الصامت قالت سلمى لهبة رأيها السياسي في أن من
يعيش
الفساد سنوات طوال يتعوّده، وكأنه من طبائع الأمور، وأن عطر
الإضاءة التلفزيونية لن
يقضي عليه، بل سيجعله مادة محببة للمشاهدين الذين بدأت أبصارهم وأسماعهم
وأفئدتهم
تقتات بنهم هذه المصائب التي قد تدمع أعينهم. وكأن قبضاتهم تدشدش فحلاً من
البصل،
يفتح شهيتهم مع عدس الشتاء، فيما عيونهم تصير صورة مصغرة
للسماء وهي تمطر سيولاً من
دموع، لذا يعشق المصريون الأفلام الهندية، كما عشقوا الأغاني المصرية
القديمة،
الجامعة بين متناقضات لاتتصالح إلا بشرط خضوع أحد الحبيبين للآخر:
-
أنا
والعذاب وهواك..عايشين لبعضينا
-
علشان الشوك اللي في الورد بحب الورد
أغنيتا عبد الوهاب اللتان ذكرتهما هما نموذجان لأغاني ذابت في ذاكرتنا،
فشكلت
أرواحنا التي تحاول الأغاني الجديدة تغييرها إلى نهاية نقيض
آخر.
وما هي الحياة
الزوجية للكلمة (كريم الصحافي) والصورة (هبة التليفزيونية) إلا مرحلة
انتقالية إلى
مرحلة جديدة تنتج فيها الكلمة صورتها الخاصة، وتنتج فيها
الصورة كلمتها الخاصة
أيضاً، ووداع لزواج السيناريو المكتوب بالصورة المتحركة. إلام ينظّر المخرج
يسري
نصر الله؟
في محل العطور وبيت هبة استخدم المخرج الإشارات الدالة بكثافة
(تذكّرنا
بمحمد خان) وفي قصة الشقيقات الثلاث أشبع المخرج مشاهده ولقطاته، وبما
يذكرنا بعاطف الطيب..لذا بدا الفيلم منقسما على نفسه..ولنأخذ مثلا صغيرا
:
في
أطباق الغذاء أو العشاء عند هبة، كل مادة غذائية لوحدها،
تتجاور معا: بصل.طماطم.
حبات من الزيتون إلخ. قُطّع البصل والطماطم إلى شرائح لسهولة المضغ فحسب.
اما طعام
سعيد فهو طبيخ دسم شهي مسّبك تختفي فيه الهيئة الظاهرة للبصل والطماطم
(=
التسبيكة).
والمباراة هنا ما بين السيناريو القائم على الإشارات (ترجمة روحية من
المخرج لما كتبه السيناريست) والسيناريو المسبّك (الترجمة
المستسلمة تقريباً
لسيناريو الكاتب) تشبه ماتش الراكت، ولكن أحدهما (المخرج) يمسك بمضرب لعبة
التنس (لعبة أرستقراطية)، والثاني (السينارست)
يمسك بمضرب لعبة الراكت (لعبة شعبية). ومع
هذا تنجح اللعبة وتستمر رغم أن كل مضرب جاء من لعبة مختلفة،
ومن طبقة اجتماعية
مختلفة أيضا.
مقهى سينما وبالعكس
ومن المعلومات التي عرفناها عن (سعيد
الخفيف) أنه في يوم إجازته الأسبوعية يقضي نهاره على المقهى، وجزءاً من
ليله في
السينما التي صارت مدرسته النظرية والعملية التي تتلمذ فيها على تمثيل أحمد
زكي،
وتفوّق في مادة الخسة والندالة التي أداها (عيد: احمد زكي) في فيلم (أحلام
هند
وكاميليا)، ثم طبقها سعيد بمهارة قرد على الشقيقات الثلاث.
سألت هبة أماني: ومن
الذي يمسك العصا. القرد أم القرداتي ؟
ثم يضحكان سوياً..أو جاء السؤال على هذا
النحو: ومن الذي يلعّب الآخر بالعصا. القرد أم القراداتي؟....والعصا هنا هو
القضيب
الذكري حينما ينتصب.
ونعود إلى سعيد!
وسعيد هنا مقسوم بإرادته الحرة إلى
شخصيتين ( دكتور جيكل ومستر هايد). قسم يبرزه بحنكة واقتدار، وقسم يخفيه
حتى عن
نفسه أحياناً، إذْ يندمج في دور الشريف أمام الأخت الوسطى (عشيقته وفاء/
الممثلة:
نسرين أمين) التي تنزعج من هذا الإندماج في الدور المصطنع فتذكّره بسرير
المخزن
الشاهد على ما فعلاه سوياً.
أحياناً ما يخلق الاستمرار في التصنّع عادة يألفها
المرء، فينسى حقيقته التي هي أيضاً مصنوعة من قبل على يد ظروف بيئية صعبة
خلقتها
سياسات غير رشيدة، وانعجنت وانطبخت بالمرء الذي صار وضيعاً.
وإذا كان سعيد
مدركاً لإنقسامه، وراضياً به، فإن سلمى مدركة مثله لإنقسامها، ولكنها لم
ترض عنه
بعد، وإن تعوّدته، انهما يعيشان اتجاهين متعاكسين.
سألت الأخت الصغرى (هناء/
الممثلة: ناهد السباعي) سعيد عن كيف يقضي
يوم إجازته، فقال انه يقضي النهار على
المقهى، وفي الليل يذهب إلى السينما..فقالت: إعكس..لم يستوعب
كلمتها..فأوضحت: في
النهار تذهب إلى السينما. وفي الليل تقعد على المقهى.
كل شخصيات الفيلم انعكست
حياتها ماعدا (أماني) التي حنّطت جسمها في المصحة تاركة لفئران الغريزة
قرْقضة
ذهنها الذي يبدو انه لم يعد يتذكرنوع الجسم الذي يسكن فيه :
أهو أنثى أم هو ذكر أم
رضخ هو الآخر للإنتقال من حالة نقيضة الى أخرى والعكس ؟..في مرتين
غيرمتعاقبتين
نلمح المذيعة (هبة يونس الطالع من جوف الحوت) ترتعد بشكل غير ملحوظ حينما
تلمح
اقتراب جسد أماني المفاجئ لجسدها. ويؤكد هذا سؤال هبة لأماني
كيف تمارس غريزتها
إذن، أمام الإصرار على
الاحتفاظ بعذريتها؟ بل وتلح هبة في السؤال حتى تحصل على
الإجابة وفحواها أنها تقوم بنفسها بذلك الأمر.
وهذا الانعكاس حدث بينهما في
الحلقة التلفزيونية، إذْ صارت المذيعة ضيفة، والضيفة مذيعة (كما ذكرت من
قبل) وهذا
الانقسام الذي بدأ بجملة من ثلاثة ألفاظ على لسان سلمى في آخر مشاهد المحل
الغارق
بنهار اصطناعي، ينتهي بصورة وجه المذيعة الغارقة بنهار إضاءات
الاستديو وهو منقسم
إلى اثنين: نصف جميل ونصف قبيح. وقبل هذا انقسم سلوكها بشكل واضح، إذْ
أصابها الذعر
وهي في المترو محاطة بسيدات محجبات بعضهن ينظر إليها شذراً، وفجأة تفتح
سلمى
حقيبتها تخرج منها حجابا ترتديه هبة صاغرة..وهو نفسه الحجاب
الى أراده أصحاب
القناة، ولكنه حجاب منسوج من كلمات يغطي عورة السياسة، ومع ذلك ظلت المذيعة
تقوم
بدور المتمردة، ولكن لماذا خافت هبة على نفسها من سطوة السلطة التحتانية
(سلطة
الشارع والجمهور)، لم تخشى السلطة الفوقية ؟. السلطة الفوقية
في حاجة مهارتها
الإعلامية التي مازالت كفرس جامح في حاجة إلى (محمد) الذي ناداه (أدهم
الغرباوي) كي
يمسك لجام الفرس حتى يستطيع مساعدة ناهد على امتطائه، ثم حين انتهيا من
جولتهما
نادا (محمد) مرة أخرى ليمسك الفرسين..وللأسماء في هذا الفيلم
كما ذكرت من قبل
دلالات. حين يهم المرء بممارسة متعته في استغلال الآخر، حتى ولو كانت
المتعة هي
امتطاء فرس والجري أو السير أو القفز به، وفي أي اتجاه، لايهمه أن يكون
(محمد) إلى
جواره وهو يمارس متعته. ما قبل بداية الممارسة، وبعد نهايتها
يأتي دور اللجام (محمد).
هل وصل المعنى؟
الشيء نفسه حدث حين إنعقد قرانه وفق شريعة (محمد) على
(ناهد)
التي خالف شرطها بألاّ يمارس معها حقه الشرعي إلا بعد انتهاء بناء بيت
الزوجية.. بالحيلة والمراودة كسر هذا الشرط الشكلي الاستثنائي، ثم حين عرفت
انها
حامل في شهرين، طالبته بسرعة الزواج..فيفاجئها بقوله انه عاقر، ومن ثم فهي
خائنة،
وعليها أن تكفّر عن خيانتها بثلاثة ملايين من الجنيهات، فماذا
تفعل وقد صارت ممسوكة
شرعاً بدين (محمد)، ولولا المصادفة وعناية رب (محمد) التي انقذتها من براثن
صائد
العانسات، إذ اكتشفت إحدى صديقاتها أنه كان متزوجاً من مصرية (لا امريكية
كما أدعى)
وله منها بنت.
هل أدّعى أيضاً أنه خريج جامعة ميتشجان الأمريكية ؟
أعتقد
هذا....
شاهدت (ناهد) التعديل الوزاري في التليفزيون، وفوجئت باسم (أدهم
الغرباوي) الذي صار وزيراً للتنمية المالية، فخرجت ووقفت أمام
مجلس الوزراء حاملة
لأفتة منّددة بتعيينه ثم انتقل هذا التنديد إلى برنامج (نهاية المساء بداية
الصباح)
الذي تعّده المذيعة هبة..وبعد أن انقلبت
الدنيا رأساً على عقب، اتصل مسؤول رئاسي
بهبة يبلغها بأنه ليست هناك وزارة بهذا الاسم (وزارة التنمية
المالية) وليس هناك
أيضاً وزير بهذا الاسم (أدهم الغرباوي)..ادركت هبة الخطأ الذي وقعت فيه،
وهو كفيل
بفصلها عن العمل، أو الرضوخ لما يطُلب منها، لكنهم في حاجة إلى موهبة قديرة
مثلها..وهذا المشهد يوضّح أن طبيبة الأسنان (ناهد) أصيبت
بهلاوس سمعية بصرية قربتها
من حافة الجنون، في ذات الوقت أصيبت المذيعة في مصداقيتها أمام جمهورها إذْ
لم تدقق
في معلومات الطبيبة خاصة وأن مكتبها يطّلع كإعلاميين محترفين على الجرائد
الصباحية
بحثاً عن مواضيع تناسبها، أو تأكيداً لموضوع ستتناوله هبة،
وإذا كانت طبيبة الأسنان
ناهد تخاذلت وقامت بعملية إجهاض خوفاً من أن يلقيها صائد العانسات إلى
محرقة
الجرائد، فإنها كانت شجاعة حينما أختلّ عقلها، وفضحته، وهو في أوج عظمته
السلطوية
(كما
تخيّل لها) وزيراً في الحكومة الجديدة، ولم تخش جبروت الأمن المركزي
المحجبة
رأسه من الداخل والخارج بخوذ وصدادات وعصي.
وعلى العكس من ذلك، بقدر ما كانت
المذيعة هبة شجاعة أمام السلطة الفوقية، كانت مرعوبة من السلطة التحتانية
(كما جاء
قبلاً). وكأن السلطة الفوقية تسمح للسيناريست وحيد حامد بالدخول إلى أربعين
حجرة
مملوءة بفساد من كل نوع، والعبث بها بقلمه كيفما شاء إلا
الغرفة الأم (الغرفة رقم
41)، وعملاً بالقول الغريزي المأثور (الممنوع مرغوب)
يتسلل السيناريست إليها، فإذا
بها الهدية التي يجب أن يقدمها بنفسه إلى السلطة الفوقية، كي
توافق على تمرير عبثه
بالفساد إلى الجماهير، هذه الهدية هي تخويف المعارضين لها، والمستقلين عنها
بالسلطة
التحتانية (سلطة الشارع- الجمهور) (سلطة المقتول القاتل)، والتي تمثلها
التيارات
الدينية..هذه هي الهدية التي يدفعها وحيد حامد للسلطة في مقابل
اللعب بمشاعر
الجماهير التي صنعت من النت والفيسبوك محاكم للتفتيش عن ضمائر صناع السينما
وأخلاق
ممثليها وممثلاتها. الكل يلعب بالكل. السينما بالجمهور. والجمهور بصنّاع
السينما.
كاتب من مصر
القدس العربي في
20/08/2009 |