تقنية الأبعاد الثلاثة! عرفنا موجاتها المتتالية مرةً في بداية الخمسينات ومرةً في أواخر السبعينات من القرن الفائت. ها هي تطلّ برأسها مجدداً. لكن الثالثة قد تكون ثابتة: سينما ثلاثية البُعد 3D)) تعود هذه المرة بخطوات ثقيلة وواثقة، متداركة الأخطاء التي ساهمت ماضياً في زوالها الموقت. فبلوغ التقنيات الرقمية الحديثة مرتبة عالية من الكمال ستسهل إمرار هذه الظاهرة التي خاطبت بدءاً الأطفال لتنتقل تدريجاً الى الكبار. حالياً في الصالات المحلية، ليس أقل من ثلاثة أفلام ثلاثية البُعد، والمستقبل يبشر بأعداد أكبر منها، سترغم بالتأكيد مستثمري الصالات على تجهيز دور العرض بمعدات عالية الجودة. قد لا تصير "كل" السينما (خلافاً للتأكيد الآتي من مدير قسم التحريك في "دريموركس" جيفري كاتسنبرغ) ثلاثية البُعد، لكن لا شك في أن "خدعة" هوليوود الجديدة هي أولاً وأخيراً لمحاربة قرصنة الـ"دي في دي" المنتشرة في كل مكان، وأيضاً للوقوف ضدّ فكرة تحول المشاهدة المنزلية، الوسيلة الوحيدة للمشاهدة عند البعض، وهي الشيء الذي جرى التصدي له في سنوات خلت بأفلام الكوارث الكبرى والأكشن التي تتطلب مشاهدتها شاشة كبيرة ومشاركة البهجة وحماسة جماعية. لكن ينبغي الاّ ننسى أن التطور التكنولوجي بات اسرع من الهواء الذي نتنفسه، وهو ليس حكراً على السينما وحدها، اذ ان صنّاع التلفزيونات هم بدورهم مستعدون لمواكبة تقنية الابعاد الثلاثة وقطف ثمارها الآنية والمستقبلية.

محاولات عدة لفرض الابعاد الثلاثة كانت دائماً تنتهي بالفشل واللامبالاة. على رغم أنها أغرت أمثال هيتشكوك وسيرك ووالش في سنوات بروزها الاولى، الا ان هذه التقنية عادت ووقعت في أيدي الصنّاع والحرفيين المتواضعين اثر المحاولة الثانية لاعادتها الى الضوء. اليوم، هناك أكثر من مؤشر الى ان الخروج من الهامش بات اكيداً بالنسبة الى مستقبل هذه التقنية القائمة على خدعة بصرية تمنح المتلقي احساساً بالعمق. وهناك ما يؤكد ذلك: العدد أولاً والنوعية ثانياً. اسماء هوليوودية كبيرة تراهن في انتاجاتها الجديدة على تقنية الابعاد الثلاثة، وهو رهان صعب وخطر ومكلف: ستيفن سبيلبرغ يستعين بها لـ"تان تان". تيم برتون يأخذنا معها برفقة أليس في بلاد العجائب، الخ. أما الموازنات فباتت مضاعفة. فلو سمعت قبل سنوات أن سينمائياً يوظف في فيلم بالابعاد الثلاثة مبلغ 315 مليون دولار، لكنت اعتقدت الخبر مزحة. لكن "أفاتار" لجيمس كاميرون بات اليوم أكثر من مجرد مزحة (ثمة لمحة عنه في مكان ما على هذه الصفحة).

وسط هذه الاعتبارات الاقتصادية والمصالح التسويقية، من السذاجة الاعتقاد أن السينما، تأليفاً وتمثيلاً واخراجاً، ستبقى على حالها في حال انتشار الابعاد الثلاثة الانتشار المخيف. لا يزال في ذاكرتنا السينمائية كيف جرى الانتقال من عهد الصامت الى الناطق. وكيف بدّل وصول الالوان نظرة السينمائيين الى العالم، فأعاد النظر في مفهومهم للجماليات وللبعد التشكيلي للكادرات. لا مقارنة تجوز بين الاختراعين (النطق والألوان) وبين الابعاد الثلاثة. مع ذلك بات معلوماً أن الانجازات التقنية التي رافقت مراحل نمو السينما وتطورها كان لها فضل كبير في تطوير اللغة السينمائية أيضاً. وفق هذا المنطق يصبح من الطبيعي أن تأتي الابعاد الثلاثة بأصولها وتفضيلاتها الاخراجية والتيماتيكية وهي في معظمها تابعة الى دائرة ضيقة من الانترتنمنت. ولا يزال يصعب علينا حتى الآن تخيل أفلام كثيرة تُصنع بهذا النظام.

في انتظار أن يأتي دور السينمائيين في عملية تحويل مسألة محض تقنية الى فنّ (عودة الى تصادم لوميير ـــ ميلييس؟)، فالطابة في ملعب اباطرة الكومبيوتر، اذ هم الذين يتحكمون الى الآن بالاختراع والصياغة الهوليوودية التي ستكون لسينما الـ 3D، في جيلها الثالث. كُتب للسينما أن تعود دائماً الى جذورها. ومع ثلاثية البُعد، كأنما يُقحَم هذا الفن، جامع الفنون، الى الصالون الهندي للـ"غران كافيه" الباريسي، حيث عُرض أول فيلم قبل 114 عاماً. نقول هذا لأن الابعاد الثلاثة تجعل من الفن الذي اعتنقه برغمان، كوبريك، وويلز، تسلية تشبه الى حدّ بعيد تسلية الاطفال في مدينة الملاهي. ثم، الا تعيدنا الابعاد الثلاثة، بمنحها الشاشة عمقاً واقعياً، سواء الى الخلف أم عبر ملامسة "وجه" المتلقي، الى فيلم "دخول القطار الى المحطة" (1895) للأخوين لوميير وحادثة هروب المشاهدين من الصالة بعد خشيتهم من أن يدوسهم القطار؟ شاء من شاء وابى من ابى، فليس في أيدي المواكبين السلبيين لهذه الظاهرة الا أن يجدوا مكانهم تحت مظلتها عوض اعتراض سبيلها الى الشاشات، وهو تحصيل حاصل في كل حال. علماً أن ثمة تحفظات حتى لدى بعض الذين يشتغلون حالياً على الابعاد الثلاثة. فأحد الخبراء في هذا المجال، الأميركي جو دانتي ("غريملينز" - 1984)، يقول انه لا يحبذ فكرة أن تصوَّر كل الأفلام بهذا النظام.

لا شك أن ثلاثية البُعد، في حال طغيانها وسيطرتها على الاسواق والعقول، ستزيد من حدّة الشرخ بين السينما المهيمنة والسينما المهمشة. فهي أولاً وأخيراً فكرة استوديوات تريد منها الاستثمار واعادة انعاش الـ"بزنس"، لا فكرة سينمائيين مؤلفين. واذا كانت هذه التقنية فاتحة آفاق عند بعض الذين نعتمد عليهم للاعلاء من شأنها (جيمس كاميرون مثلاً) اذ يحسنون توظيفها في خدمة أفكارهم، فاستخدامها على نحو تسلسلي قد يولّد تسطيحاً لا عمقاً. هذه التحولات السينمائية الكبرى، تشكل أيضاً مناسبة لفتح ملف عن مكانة الصورة وكيفية التلاعب بها في زمن الرقمية والخدع البصرية والـ"بلو راي" (بديل الـ"دي في دي" الجديد) ذي النوعية الاقرب الى الكمال، وايضاً في عصر من المكننة، ميال الى الاستغناء عن الممثل الحيّ لمصلحة كائنات مصنوعة من كرتون وبيكسيل... راجين أن تبقى السينما، في نهاية جولاتها الاستكشافية في ممالك الحداثة، ملك العينين والقلب والعقل. 

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

هل يختفي الممثلون البشر من الشاشة؟

أمن الممكن أن نصل الى يوم نتابع فيه أفلاماً لا يوجد فيها ممثلون؟ بعد منعطف "فاينل فانتازي" (هيرونوبو ساكاغوشي - 2001) المشغول كاملاً على الكومبيوتر، نرغب بالصراخ بصوت عالٍ: لا، لا، وايضاً لا! لأن الكومبيوتر، اذا كان قادراً على ان ينتج مجموعة صور متناسقة، متوهجة بالواقعية، فإن مختلف الانفعالات الانسانية لا تزال بالنسبة اليه متعذرة البلوغ. بعدما استوعبنا الجانب الثوري لهذه الظاهرة المتنامية، حاولنا عبر السؤال معرفة هل اخراج فيلم بواسطة ممثلين افتراضيين عمل مخالف لطبيعة العمل السينمائي: تخيلوا قرداً شنيعاً يدبلجه روبرت دو نيرو، على سبيل المثال!

لا يزال الاستنساخ امراً من الممكن احتماله، مقارنة بحقيقة استبدال حرية التلفظ والحركة. ديكتاتورية من نوع جديد تتسلى بتحريك مخلوقاتها، واضعة حداً نهائياً للارتجال (في التمثيل)، ولإمكان التغير في كل لحظة. يبدو ان الهوس في مراقبة كل شيء، وفي السيطرة على اقل تفصيل، في العملية الابداعية، قاد الصناعة السينمائية الأميركية الى القيام بهذه المبادرة التي ترتكز على التخلي عن كل ما يمكن ان ينتج القاً انسانياً او ان يكون محاطاً بنفحة حياة حقيقية. حسناً، ان الذين يعطون اصواتهم الى هذه الشخصيات، هم حقاً اناس حقيقيون، ومبتكرو الفيلم هم مخلوقات عضوية تتنفس بملء رئاتها. ولكن، ما هو اذاً سبب هذا البرود في نظرة الشخصيات وفي عواطفها. هذا البرود الذي يجمد الدماء في الشرايين! وكيف يحدث ان اجساداً قد احتفظت بشهوانية فائضة، تنعدم شهوانيتها في الكثير من الأفلام التي انجزت بواسطة ممثلين افتراضيين؟ عندما تلمس شفتا د. آكي (صوت مينغ - نا) شفتي الكابتن غراي (صوت اليك بالدوين)، في "فاينل فانتازي"، نشعر في اعماقنا بالحرارة عينها التي نشعر بها عندما نشهد "قبلة حقيقية" (على الشاشة بالطبع)، وذلك تحديداً، لانها تنبئ بوسيلة جديدة في التعبير (بعد الفيلم التقليدي وفيلم الرسوم المتحركة). يمكننا ان نرى في "فاينل فانتازي"، اسلوباً جديداً في مراقبة العالم وتقديمه. لكن، في انتظار ان تقوم هذه الرؤية الجديدة للعالم بتقديم براهينها على صدقيتها، لنرجع الى استكشاف المدى الذي لا نعرفه تماماً بعد: السينما البسيطة والحقيقية.

التجربة، التجربة دوماً، هي التي دفعت المخرج الاميركي جو دانتي الى اخراج فيلم "لوني تونز" (2003) والاهتمام بشريط يدمج الرسوم المتحركة بالاشخاص الحقيقيين. يقترح الفيلم فكرة تعايش شخصيات الصور المتحركة مع الناس الحقيقيين في عالم واحد، تماماً كما فعل فيلم "من أطّر روجر رابيت"، وهو انجز أخيراً فيلم "الحفرة" بالابعاد الثلاثة. وكان رابيت الشخصية الطاغية في الفيلم المذكور آنفاً، بينما أدت شخصيات الصور المتحركة الأخرى أدواراً ثانوية، مما جعل طريقة الإخراج متمايزة. لكن في "لوني تونز" لم يتبع الأسلوب نفسه هذا، بل جعل من "دافي داك" و"باغز باني" نجمين في استوديو للتصوير. وكان الهدف الأساسي إفهام الأطفال طبيعة العلاقة التي تربط بين هاتين الشخصيتين بأفضل طريقة ممكنة. لكن، كيف يتعامل المخرج مع شخصيات ليست واقعية؟ اذ عندما يخرج مشهداً ما، لا يمكنه التحدث إلى الصور المتحركة وإسداء الإرشادات اليها. دانتي: "نحن نصنع شخصيات من قماش على مقاس الإنسان العادي ونجعل الممثل يحاورها ويتفاعل معها وكأنها الصور المتحركة كي يتمرن هذا الأخير ويعتاد الأجواء. ونمنح من يتقمص أدوار الشخصيات حرية الارتجال قبالة الكاميرا مما قد ينتج نصوصاً فضلى. نصوّر اللقطة ثم نستبدل بالدمية الصور المتحركة الأصلية. نملك كذلك عينين ملصقتين بقضبان إذا أردنا لممثلين أن ينظرا في الاتجاه نفسه، فنُمرّ اللقطة مرة ثانية على شاشة الحاسوب ونراقب مختلف مصادر الأضواء لنضيف الظلال على الشخصيات. بعدئذ، يعد المشرف الرسوم المتحركة، ببعض التعديلات كإضافة رسوم للشخصيات. فإذا استدار "باغز باني" وحرّك رأسه، رسمه في هذه الوضعية بالذات. وهذا هو إعداد الرسوم المتحركة البدائي. ثم نجرّب اللقطة لنرى هل نجد أموراً تحتاج الى مزيد من التغييرات. بعد أن ننتهي من ذلك، نرسل اللقطة إلى قسم التحريك. يقتضي عملي تصوير الممثلين يتفاعلون مع شخصيات وهمية، فيعمل معدّو الصور المتحركة على إضافة هذه الشخصيات، ولا أحد يملي عليَّ كيفية تحريك الكاميرا أو عدد العدسات التي يجب استخدامها. بل قالوا لي أن أصور كأنني أتعامل مع فيلم، كل شخصياته حقيقية، وتولّوا هم الباقي. لا بد أن أعترف بأنني شككت في نجاح الأمر في البدء. وقد أدى معدّو الصور عملاً ممتازاً يوازي براعة الأفلام القديمة التي استخدمت التقنيات نفسها تقريباً. أما الفرق بين حالة الفيلم قبل إخراجه وبعده، فلافتة جدا. لافتة للغاية. لقد شاهدنا النسخة غير المنتهية من الفيلم وكانت بالأسود والأبيض مع رسوم بدائية وتأثيرات صوتية، فلم يستمتع المشاهدون، إذ إن تخيل النسخة النهائية يتطلب قدراً كبيراً من الخيال. لذا نواجه عدداً من الصعوبات خلال إعداد هذا النوع من الأفلام لأننا لا نعرف كيف سيبدو إلا في اللحظات الأخيرة من انتهائه".

على الممثل في هذه الحالة أن يتمتع بقدرة على النظر إلى الفراغ وإقناعك بأنه ينظر إلى شيء حسّي. إنها موهبة رائعة، وهي توفر الكثير من الوقت. إنه أمر يتطلب التمرين. لذا ألصق دانتي وفريقه عينين على قضبان واستخدموا هذا الاختراع لمساعدتهم في تحديد الموقع الذي يجب أن يُنظر إليه. ثم كانوا يبعدون القضيب أو يوجهون الكاميرا إلى حيث لم يكن موجوداً، من أجل تصوير اللقطة. "لكنهما اعتادا الفكرة في نهاية الأمر وتمكّنا من الاستغناء عن هذه الأداة. لكن المشكلة الحقيقية تطرأ حين يتطلب المشهد ثلاثة ممثلين ينظرون جميعهم إلى شخصية تتحرك، فلا يمكنك عندئذ أن تعتمد على أدائهم هذا الدور من دون وضع شيء يلفت أنظارهم. ومع تطور برامجنا الإلكترونية، يمكننا أن نمحو الكثير من الأمور غير المرغوب فيها في المشهد".

أفلام كثيرة مسلّحة بنظام الأبعاد الثلاثة وبشخصيات من المخلوقات الغريبة العجيبة تسيطر على السينما حالياً، وبعضها يحتل المراتب الاولى في بورصة الأفلام العالمية. اليوم، اسماء هوليوود التي تبرق على أعلى الملصقات، باتت آخر شهود عصر الـ"ستار سيستم" (نظام النجم). أفلام هؤلاء تجابه جمهوراً مختلفاً (غالبيته من المراهقين) تستهويهم الآلات والشخصيات الكرتونية وحتى الديناصورات التي، يا للغرابة، تعيدنا بالزمن الى الخلف. على رغم ان من الصعب التأكيد أن الممثل المصمم الكترونياً سيحتل مكان الممثل الحيّ، فثمة مخاوف من مكننة السينما لدى الكثير من النقاد.فهل يأتي يوم يختفي الممثلون البشر من الشاشة باسم التطور والعصرنة، مثلما اطاحت السينما الناطقة السينما الصامتة، وأطاحت الألوان الأسود والأبيض؟ لننتظر.

السينما تولد مرة ثانية مع جيمس كاميرون؟

16 دقيقة من "أڤاتار" في "سينماسيتي"

بعد 12 عاماً من العزلة والتأمل انجز في غضونها مغامرتين وثائقيتين، يعود جيمس كاميرون، صاحب "تايتانيك"، الى الواجهة مع فيلمه "أفاتار" (يصدر في 18 كانون الاول من هذه السنة) الذي يعرض منه 16 دقيقة مساء غد الساعة 21:45 في كل من "سينماسيتي" و"اسباس" و"دون" و"ستارغايت"، بالتزامن مع عرضه في جميع انحاء العالم. طبعاً، سيكون الشريط بالأبعاد الثلاثة، وتجاوزت كلفته (315 مليون دولار) الموازنة التي وصل اليها فيلم الباخرة العملاقة التي صوّر كاميرون عملية غرقها على مدى ثلاث ساعات بعبقرية صارمة في أواخر التسعينات، مستعيناً بتقنية الـ motion capture التي سبق أن استعان بها روبرت زيميكيس لتحقيق "ذا بولار اكسبرس"، وهي تسمح بإعادة تجسيد ملامح الشخصيات وكيفية تحركها عبر خدعة الـ"غرافيكومعلوماتية" على نحو يقارب الكمال. الفيلم، الذي يقال انه سيشكل الولادة الثانية للسينما (!) قصة حبّ تحدث بين المجرات، يحاول فيه كاميرون رصد حكاية الانسان العصري ومخاوفه من التحولات الطبيعية التي ترغمه على الذهاب الى كوكب جديد والعيش فوقه. يعد المخرج المشاهدين بأنهم لن يلاحظوا الفرق بين الحقيقة والخدع البصرية التي بلغ عددها نحو 2000 لقطة، فالثورة الكاميرونية آتية، آتية لا محالة...  

بلا بقعة على جبينه!

ماريلين مونرو هل قبّلت فعلاً نيلسون مانديلا في إعلان "كوكا كولا"؟ هذا ما تظهره الصورة الرقمية. لكن كثيراً ما تكون الصور كاذبة وتنقل واقعاً مستقلاً مخالفاً لما تراه العين المجردة. قبل سنوات أقام متحف "التاريخ المعاصر" معرضاً للصور في فرنسا عنوانه "قرن من التلاعب بالصور". آنذاك، صرّح منظّم المعرض لوران جيرفورو: "هدفنا من هذا المعرض اثبات ان الصور ليس لها قيمة في ذاتها، ويكمن النجاح في التلاعب بها، أي أن الأهمية تكمن في الاطار التي تؤخذ فيه، وهذا لا يعني في الضرورة الكذب على المُشاهد". وقد أظهرت الصفحات الأولى من فهرس المعرض أن الصور ليست سوى تأويل وترجمة للواقع. فالصورة ليست خدعة، وواقعها مستقل عما يراه المرء بعينيه. الصورة الحقيقية غير موجودة.  

تضمن المعرض صوراً مختلفة التقطت في القرن العشرين، بينها واحدة للزعيم الروسي ميخائيل غورباتشيوف تظهره من دون البقعة الموجودة على جبينه، كذلك صور مروعة مأخوذة من الفيلم الذي أمر بتنفيذه هتلر ويصوّر بناء مدينة لليهود، ويتضمن أيضا صورة تُظهر امرأة اسبانية من الحزب الجمهوري تتظاهر مع طفل. وكلها استُغلت لأهداف سياسية. وكانت هناك أيضاً صور لأميرة ويلز ديانا يحوطها المولعون بها. ويركز على الطريقة التي حوّلت فيها الصورُ، في القرن العشرين، جسمَ المرأة الجميل الى قالب معمم على جميع النساء!

الا أن ثمة دراسة جريئة أظهرت أن التلاعب لا يكون بالصورة بل بالاطار التي تظهر فيه الصورة قبالة أعين المشاهدين. ويظهر ذلك في زمن يقلق لوصول الصورة الرقمية التي باتت تصور واقعاً غير موجود. نشير هنا الى اعلان "كوكا كولا" الذي جمع بين ماريلين مونرو ونيلسون مانديلا. كذلك الى الأغنية المصورة التي جمعت بين داليدا والمغني الفرنسي سيرج لاما. الرقمية نفسها أتاحت أيضاً لسينمائيين أن يمحوا برجي مركز التجارة العالمي الباديين في خلفية أفلامهم بعد سقوطهما على أيدي ارهابيين في 11 أيلول 2001. تطور التقنيات خدم مسألة تحريف الصورة ونسخها. الصور الزائفة لجون هرتفيلد ما هي الا اثبات على ذلك. أما الصور المستخرجة من أفلام الخيال فموجودة منذ زمن بعيد وينظر اليها المشاهدون على أنها صور واقعية. جيرفورو: "يعرف الجمهور الفرق بين الصور الاعلانية والصور المروّجة والصور الخيالية والصور المعلوماتية. انطلاقاً من هنا لم يعد الجمهور اليوم يؤمن بوجود الصور خلافاً للسابق حين كان الفرق واحداً بين الشيء المصوّر وما تقدمه الصورة. فلا شكّ أن الالتباس بين الأنواع يشكل خطراً في هذا العصر ويعني بذلك نشر الاعلانات المبهمة وخصوصاً على شبكة الانترنت حيث يُمزج بين الاستعراض والسياسة. ولا معنى لهذه الصور الا اذا وضعت في اطار محدد وخصوصاً ان الصورة حاضرة هنا لتشكل إثباتاً للكلمة. حذار التعليق على الصورة قبل الصورة نفسها، بغض النظر عن كونها رقمية أم غير ذلك".

النهار اللبنانينية في

20/08/2009