ينتمي الفيلم لسينما
العشوائيات
"الفرح" واحد من الأفلام التي يمكن إدراجها ضمن "سينما العشوائيات"، تلك
الموجة الجديدة التي اجتاحت السينما المصرية منذ العام الماضي تقريبا، كنوع
من التنويع في الموضوعات وأماكن التصوير المكررين، بعد سنوات من التركيز
على عوالم رجال الأعمال ما بين أحياء القاهرة الراقية وشرم الشيخ ومارينا
وهموم الطبقات المرفهة، التي لم تعد تلقى قبولا لدى جمهور المشاهدين؛
لكونها بعيدة عن حياتهم اليومية وهمومهم المختلفة تماما، بالإضافة إلى حالة
التشبع من هذا النمط الذي يمزج غالبا بين الغنائية والكوميديا، وإدراك صناع
السينما ضرورة البحث عن صيغة جديدة، تحافظ على إيرادات شباك التذاكر
المليونية، من خلال محاولة الاقتراب من أرض جديدة أو بالأحرى من عوالم
المهمشين، بكل ما فيها من تناقضات صادمة وعنف ومعيشة قاسية وعشوائية
وسوداوية في كل شيء.
انهزامية وأحادية
بعد مرتين من المشاهدة ترسخت لدي القناعة بأن فيلم "الفرح" يبدو للوهلة
الأولى جذابا شكلا، لكن حين تتأمله بعمق، تجده هزيلا للغاية من حيث الشكل
والمضمون، إن لم يكن سيئا، بما يطرحه من أفكار هروبية وانهزامية، تسلم بأن
الآخر هو الذي يتحكم في مصيري ومسار حياتي وأن الرهان عليه وحده، وأنه لا
مفر من الحال التي وضعت فيها، ولا أمل في التغيير، بالإضافة إلى ضرورة قبول
هذا القدر المحتوم وإلا ستصيبني لعنة السماء، لأني صنيعة الظروف ولست
صانعها، تلك الفكرة "البرجوازية" الهدامة التي تذكرنا بأفلام ما قبل ثورة
يوليو، والتي تنطلق من رؤية تكرس لاستدامة الأوضاع القائمة التي يغيب عنها
العدالة وتشهد اختلالا كبيرا بين طبقات يزيد الغني فيها غنى والفقير فقرا.
الفيلم كذلك يتبنى وجهة نظر أحادية فيها كثير من التعميم، فكل سكان الحي
العشوائي لهم نفس الملامح النفسية والسلوكية، ولا توجد شخصية سوية واحدة
ترفض حالة التواطؤ الجمعي أو بمعنى أصح "النصب" بإقامة فرح وهمي لجمع مبلغ
من المال يكفي لشراء سيارة ميكروباص من خلال تجميع "النقوط"، وكأنه في مثل
هذه المناطق لا يوجد شخص شريف واحد يقاوم الفقر والاحتياج بشرف وكرامة،
ويرفض التورط في مثل هذا "الفساد الصغير"، حتى الأم التي بدت مختلفة قليلا
وأظهرها بمظهر المتدينة، هي الأخرى لم تمانع من مسايرة ابنها في الكذب
والاحتيال، في منطق متناقض غير متسق مع الخطاب الديني الذي ينطلق منه
ويوظفه بشكل مغلوط ومتهافت من بداية الفيلم إلى نهايته.
إطالة وترهل
وبدا الفيلم مترهلا بدرجة كبيرة من كثرة الشخصيات التي لا داعي لها ولا
قيمة درامية لوجودها إلا لحشد أكبر عدد من نجوم الصف الثاني، فما جدوى دور
حسن حسني ومي كساب؟ على سبيل المثال، وما علاقتهما بالخط الدرامي الرئيسي؟
هل ثمة تماس أو تعميق أو إضافة ما؟ رجل عجوز يدعي الفحولة أمام زوجته
الشابة بعد تناول الفياجرا، لكنه لا يستطيع الاستمتاع بليلته معها نتيجة
ضجيج الفرح.
كذلك شخصية المصور الذي قام بأدائها علاء مرسي التي لا موقع لها في الفيلم،
وأيضا الراقصة الأولى، ووالد ماجد الكدواني في الفيلم الذي يبحث عنه في
الكبر بعد أن قام بتشويهه في الصغر، حتى شخصية المونولوجست صلاح عبد الله
لم تكن ذات قيمة كبيرة، فالرسالة التي أراد أن يوصلها أن الذوق العام اختلف
وانحدر، وبالمقاربة مع الواقع فإن مثل هذه المناطق الشعبية والعشوائيات لا
تبالي كثيرا بالذوق الرفيع، على العكس تجد نفسها في مثل هذه الأغاني
الهابطة التي تتحدث عن المخدرات أو وصلات الضجيج الراقص، والسؤال هنا: هل
إذا حذفنا هذه المشاهد وهذه الشخصيات هل ستؤثر على البناء الدرامي للعمل أم
ستزيده قوة وتضبط إيقاعه المرتبك؟!
وإذا كانت ذروة الفيلم المتمثل في وفاة الأم قد تأخرت أكثر من اللازم مما
أحدث إطالة في الأحداث غير مبررة، وتطورا دراميا بطيئا، فإن ثمة عدم منطقية
في الحبكة الفرعية، فأزمة ياسر جلال وجومانا مراد بها كثير من الافتعال،
وبعيدة عن الواقعية التي يتوخاها الفيلم، فليس مستساغا أن تعيش الفتاة حالة
من الخوف والهلع نتيجة أنها مارست الجنس قبل الدخول بزوجها، رغم أنهما في
الأصل تزوجا رسميا، ثم إنه من المتعارف عليه في الأحياء الشعبية أن مشكلة
الإسكان ليست أزمة كبرى؛ لكون الأسرة تتكيف معها بالإسكان الجماعي،
وإمكانية تعايش أكثر من أسرة داخل الشقة الواحدة، وليس الانتظار سبع سنوات
بزواج معلق.
ربما كان من الأوفق تقديمهما كمخطوبين فقط، ومتعلمين لتبرير الأزمة
الأخلاقية وتبرير أزمة السكن المنسجمة مع تطلعات هذه الفئة في الاستقلال
والحياة الأرقى.
نهاية مرتبكة
تبدو النهاية هي الأخرى انعكاسا لارتباك السيناريست أحمد عبد الله والمخرج
سامح عبد العزيز وحالة التشويش الفكري والفني، إذ لم يتمكنا من اتخاذ قرار
حاسم بشأنها.. فهل سيحبطان المشاهد بنهاية سوداوية تبدو غير أخلاقية، من
قبيل تصوير البطل زينهم "خالد الصاوي" شخصا انتهازيا أنانيا يغلب مصلحته
على الأعراف الاجتماعية بشأن "حرمة الميت"، وقدسية الموت التي تقدم على
الأفراح حتى لو كان الثمن فادحا يتمثل في خسارة حلمه المادي، أم سيقدمان
نهاية أكثر مغازلة للجمهور الذي يميل للأحكام الأخلاقية ويتفاديان إحباطه
بجعل زينهم يضحي بالفرح من أجل المأتم ويحافظ على ما تبقى من الأسرة متمثلا
في زوجته وأولاده مهما كلفه ذلك من مشقة ومعاناة؟.
وبالمثل الموقف من الراقصة، هل سيضربها زينهم، ويجبرها على الرقص رغما
عنها، بعد أن قررت التوبة عن التعري عملا بنصيحة الأم الراحلة، أم إنه
سيشجعها على طريق الهداية؟ وعلى ذات الحال هل سيجعلان "بائعة البيرة" تقتل
الشاب الذي تستجيب لمغازلته، دون قبول السقوط معه أم سينهيان الفيلم دون
دماء؟
وهل المونولوجست سينجح في الحصول على استحسان الجمهور والافتخار أمام ابنه،
أم سيكون مصيره الفشل والإحباط له ولابنه الذي يوهمه طوال الوقت بشهرته
وجماهيريته الزائفة؟ وهل ستجري جومانا مراد عملية ترقيع البكارة وتتعرض
للاعتداء والإهانة، أم ستواجه هي وزوجها أهلها بالحقيقة وتحفظ كرامتها؟
عدم حسم النهاية ووضع نهايتين -في تصوري- تعني غياب رؤية فنية وفكرية
وحالة تردد لا تتواجد عند صناع السينما المبدعين، وإنما عند هؤلاء الذين
تتسم تجربتهم بالضعف وعدم النضج.
ولعل ما يتصل بهذه النقطة زوايا التصوير وحجم اللقطات التي غاب عنها التنوع
وبدت في غالبيتها متمحورة حول اللقطة المتوسطة، ورغم أن اللقطة المكبرة
"كلوز أب" كان يستوجب اللجوء إليها كثيرا لإظهار الانفعالات والمشاعر
الإنسانية في مناطق عديدة من الفيلم فإنه نادرا ما كان المخرج يلجأ إليها.
صنعة ضعيفة
وزوايا التصوير في مشاهد عديدة بلا رؤية ولا إيحاءات، اللهم إلا في المشهد
الذي جمع بين سوسن بدر وخالد الصاوي في نهاية الفيلم حين كانت تقدم له
المساعدة المادية، إذ لجأ إلى زاوية "عين الطائر"، أو بالأحرى التصوير من
أعلى لزينهم جالسا مكسورا والراقصة واقفة لإظهار حقارة زينهم وضعفه في
مقابل قوة وأخلاقية الراقصة "التائبة" التي في داخلها شخص محترم، وما دفعها
لهذا العمل فقط هو الاحتياج.
ومما يحسب على المخرج كذلك المونتاج الذي كان ضعيفا ما جعل الإيقاع بطيئا،
نتيجة الانتقال غير السلس ولا الموحي من مشهد لمشهد، بالإضافة إلى طول مدة
المشاهد ذاتها والحالة الأقرب للثبات وغياب التنوع، وليس بعيدا عن هذا
الأداء التمثيلي الهزيل لغالبية الممثلين الذي تراوح بين الفتور الشديد أو
المبالغة في إظهار الانفعالات، ولا شك أن الفشل في السيطرة على ردود الفعل
وإظهارها بحساب على مستوى الحركة أو نبرة الصوت أو تعبيرات الوجه، يتحمل
مسئوليته المخرج.
وربما المميز بشكل رئيسي الفنانة كريمة مختار بحكم خبرتها الطويلة
واجتهادها الدائم، وكذلك سوسن بدر وروجينا اللتان تجيدان تنويع الأدوار
والأداء بحرفية، بينما كان الأسوأ أداء ياسر جلال وجومانا مراد.
في النهاية يمكننا أن نخلص أننا إزاء محاولة استثمار أو ركوب موجة جديدة في
السينما، وتوسل لواقعية مزيفة بها كثير من المبالغة والسطحية والاجتزاء
للمشاكل والشخصيات، برؤية ضيقة جدا، تخلو من النضج، وهو ما يتجلى في
الرسائل التي تطرحها مثل هذه الأفلام التي تفتقر إلى المعالجة النقدية
الواعية لهموم المهمشين في مصر.
ناقد سينمائي
ميدل إيست أنلاين في
18/08/2009 |