|
قبل عامين في مثل هذه الأيام ودع عالمنا المخرج السينمائي العالمي أنغمار
بيرغمان، صاحب أضخم ثروة فنية في السينما و المسرح و الفلسفة. الكثير من
المجلات و المواقع الفنية، تنتهز هذه الذكرى للتأمل و تكريم عبقرية هذا
الفنان. قليلة هي المجلات و المواقع العربية التي تستعيد و تكرم عباقرة
الفن و الابداع كونها تنشغل بالاخبار السطحية للنجوم وما شابه ذلك من
مواضيع هشة وتافهة. سنحاول عبر هذا الفضاء التوقف عند أحد أهم العناصر في
شعرية سينما بيرغمان، عبر التأمل في بعض أفلامه سنحاول تلمس "الحلم" كعنصر
شعري جمالي وروحي معقد في سينما مثيرة للجدل لا تزال ليومنا هذا منبع و
منهل خصب للابداع السينمائي. مشاهدة أفلام بيرغمان متعة روحية و فكرية، هي
رحلة لعالم الحلم بكل روعته و دهشته و رعبه.
أنغمار بيرغمان لا يبحث لتوصيل الواقع في افلامه، لغرض جمالي هو يلعب على
العناصر المكونه لهذا الواقع، شعرية سينما بيرغمان تولد بخلط الحلم مع بعض
عناصر الواقع، شخصيات بيرغمان تعيش مع أحلامها, تستعيد تذكرها، هناك اشبه
بالذهاب و الإِياب أو الكر و الفر بين الواقع و الخيال. في فيلمه "مونيكا"،
مونيكا فتاة فقيرة تعيش واقع بائس، تحاول الفرار من هذا الواقع، تطالع
مجلات الموضة، تحلم بان تترك مدينة استكهولم لتعيش حياتها حرة، تجد في هاري
منفذا للهروب، يأخذ الاثنان قارباً يقومان برحلة لجزيرة نائية بعيداً عن
أبوها المدمن على الكحول وبيتها الضيق ومضايقات الرجال في العمل. هنا
بيرغمان يعيد صياغة قصة بداية الكون نحن أمام آدم و حواء في جنة الخلد،
تحقق جزءًا من حلمها تعيش لحظات من السعادة، تشرب، تغني و تحلم الا ينقطع
الحلم، ينقلب الحلم الى كابوس بعد نفاذ الغذاء لا تتحمل اكل الفطريات في كل
وجبة، عندما تخبر صديقها انها حامل، يدور جدل حول العودة للواقع، ترفض
العودة لكنها لا تتحمل البقاء، تقوم بسرقة قطعة لحم من منزل قريب من
الجزيرة يمسك بها صاحب المنزل تستطيع الفرار، تتحول هذه الجميلة اشبه بوحش
تزحف بين الاحراش ممسكة بقطعة اللحم، ينتهي الحلم بل يتحول لكابوس مفزع،
تتحول الجنة لجحيم، تصبح سجناً، مونيكا مخلوق يعشق الحرية، الزوج والبيت
والامومة والمسؤولية لا تعني لها شيئًا، بعد عودتها، تخون زوجها مع صديقها
الاول ثم تتركه و تترك طفلتها، تركض وراء شبح الحرية والحلم واللذة.
عالم الحلم هو منطلق البداية ونقطة الوصول في العديد من أفلام بيرغمان، هو
عالم لإِعادة فهم الماضي و الواقع، هو إِبحار بدواخل النفس الإِنسانية بكل
تناقضاتها، هو محاولة لفهم الإنسان و الوجود وإِثارة جدل حول الحقائق
المطلقة و المواضيع الشائكة.
في فيلمه "الفروالة البرية"، نحن أمام شخصية اسحاق البروفيسور، على مشارف
الثمانينات من عمره، أمضى حياته بالعمل، يروي لنا حلماً غريبا، يتجول في
شارع خالٍ من الناس، تثير انتباهه ساعة من دون عقارب، عربة تسير، تتعطل،
شخص غريب يقترب منه، عندما يحاول لمسه، يسقط جسدا يخر منه الدم، تتعطل
العربة، تقفز إِطارات العربة، تتجه نحوه، يقترب أكثر، يسقط تابوت من
العربة، مع اقترابه، تخرج يداً من التابوت، تكون المفاجاة الجسد الميت هو
جسد البروفيسور.
الحلم هنا يمكن اعتباره رحلة في تجربة عالم الروح، رحلة للعالم غير المرئي.
بيرغمان يقدم الحلم عندما تكون العين مغمضة، تعود الشخصية لطبيعتها
الإِنسانية البدائية، بعيداً عن مغريات الواقع الزائف، الحلم تجربة ساحرة
من اجل معرفة ما وراء الواقع، هنا الشخصية امام حقيقة لا يمكن انكارها،
أمام قدر لا يمكن الفرار منه، انه الموت بكل قسوته و بشاعته وسحره.
الحلم ليس الهروب من الواقع، هو وسيلة لتعرية الواقع و الغوص في العمق
الإِنساني. بيرغمان يختار شخصيات مريضة و مضطربة، تتقلب بين احلام و كوابيس
مرعبة، يسجنها بيرغمان في واقع مرعب، لا يترك لها مجالاً للهروب كي تنهار،
كي تصرخ، يقودها للجنون كي تفضح و تعري زيف الواقع، واقعها وحقيقتها اولاً،
ثم الواقع العام ثانياَ.
في فيلم "صرخات و همسات" الديكور يسيطر عليه اللون الأحمر، هو عالم الروح و
الحلم، أربع نساء بملابس بيضاء، أمام الموت والحقيقة، هذا اللون الأحمر هو
للتعريف بالروح، بدواخل النفس الإِنسانية هو أشبه بروح تنّين نصفه طائر و
نصفه الاخر حوت.
آنيس صاحبة هذا القصر على وشك الموت، تعاني من مرض السرطان، تصرخ، تتالم،
تحاول الفرار من سطوة الموت، تجد في الحلم و ذكريات الطفولة بعض من السعادة
و الالم.
في احضان خادمتها تحس بحنان الام، الخادمة تجد في سيدتها الطفلة التي خطفها
الموت
آنيس نموذج إِنساني في عالم و عصر مادي يكاد ان يقضي على الروح و صفائها،
تعيش وحيده تصرخ من الالم، تبحث عن الخلاص و الهدوء، يأتي الموت
لإِنتشالها، لكن أبواب السماء تظل مغلقة. لم تستطيع صلوات الكاهن من
تحريرها من الشقاء، هي بحاجة لحب الاخرين للتخلص من هذا الجحيم، تطلب
مساعدة الاحياء، لكن الاخت كارين و الاخرى ماريا في حالة خواء روحي، لذلك
لا تستطيع اي واحده الاقتراب من الجسد الميت الذي يتحدث و يصرخ طالبًا
المساعدة و الرحمة، وحدها آن هذه الخادمة الفقيرة تملك الايمان، هي من
سيسعف و ينقذ الروح المعذبة بصلواتها بحبها و روحها الطاهر.
الموت هنا بالنسبة لمن يمتلك روحاً صافياً هو حلم للخلاص، اما للروح
المدنسة بالذنوب و المادة فهو كابوس مرعب. الخادمة تصلي بخشوع للرب رغم
انها فقيرة و فقدت ابنتها ثم سيدتها، تظهر في نهاية الفيلم تحتضن دفتر
ذكريات سيدتها، تظهر مباشرة من دون قناع. يظهر وجهها مشرقاً و منيراً،
بينما نرى كارين و ماريا خلف الاقنعة. رغم هذه التجربة أمام عالم الحقيقة و
الموت إِلا ان هذه الشخصيات تعود للحياة المادية من دون الإِستفادة من هذا
الدرس.
في فيلم "الختم السابع" نحن امام شخصية معقدة هي الفارس أو المحارب، هو رجل
ترك زوجته وشارك في الحروب الصليبية لمدة عشر سنوات. عشر سنوات من القسوة و
العنف، يعود مع مساعدة لارضه، خلال رحلة العودة يحاول البحث و فهم الحقيقة،
حقيقة وجود إِله و حقيقة الدين. يلتقي بملك الموت، يبارزه عبر لعبة
الشطرنج، يطرح الكثير من الاسئلة حول وجود الإِله، شخصية حائرة و لديها شك
في كل شيء غيبي و غير مرئي، يمكننا أن نفهم ان الحرب المقدسة و كل الحروب
ليست إِلا حروب من أجل الدنيا، و ليست من أجل الدين، هي حروب لاغراض مادية
و دوافع اقتصادية و سياسية، لكن بعض رجال الدين يقومون باستغلال البعض
لخدمة الساسة و الحكام.
نحن أمام شخصية لا تؤمن بالحلم و الخيال، لا تريد المعرفة المبنية على
النصوص و الحكايات الدينية، هي تشكك بهذه النصوص و تسخر من الخيال الشعبي
الذي كان وراء وجود فكرة الإِله، أساس الايمان هو الحلم و الخيال، و من
الصعب استخدام العقل و المنطق المادي للمس العالم الميتافيزيقي المعقد وغير
المرئي.
هذه الشخصية تعيش في قلق و اضطراب بسبب الشك و الكفر و الالحاد، لكنها تبحث
و لا تتوقف أمام التراث الشفهي و النصوص الدينية، هي تشبه شخصية المخرج،
بيرغمان طوال مسيرته الفنية يخوض في المسائل المعقدة بحثاً عن الحقائق
المطلقة، يقدم لنا عالم الكفر و الالحاد مقابل عالم الحلم والخيال، اي عالم
الإِيمان.
والموت هنا حقيقة قريبة من الانسان، نحن في هذا العصر نعتبرها حادثةً او
مصيبة تأتي من دون إِنذار، تأتي كخطأ أو حادث يقلب موازين التوقعات و يدمر
احلامنا بالبقاء، هنا بهذا الفيلم الموت يلبس قناع من الصعب لمس حقيقة وجه
الموت، لكنه حقيقة، بل واقع لا يمكن إِنكاره أو الهروب منه. في هذا الفيلم
خيال المخرج يقدم لنا صورة مفزعة هي استعارة لهذا المخلوق والقدر الذي لا
يمكننا الفرار منه، هو ذكي، يعرف عنا الكثير، لكننا في هذا العصر المادي
نصاب بنوع من الغفلة لذلك عند حضوره نصاب بالفزع و الخوف، لكننا لا نستطيع
الفرار أو الهررب من هذا القدر.
الموت يظهر بهذا الفيلم كجزء من الحقيقة و الوجود، بمعنى كل شخص حي يعيش مع
الموت كونه جزء من الطبيعة و الوجود. بواسطة شخصية الموت يحاول بيرغمان
الافصاح عن قلقه، يثير أسئلة شائكة للتعبير عن شكه و اضطرابه حول وجود إِله
و حياة ما بعد الموت.
قصة الفيلم تدور في العصور الوسطى، نرى فضاعة و قسوة الموت الذي يغتال
الفقراء و البسطاء مستخدما سلاح مرض الطاعون لتدمير الحياة، في قرية بسيطة
تتحول الى خراب بسبب الموت الذي يستمتع بتدمير ضحكات و احلام الضعفاء،
الصلوات و التضرع بالإِله او المسيح لا توقف همجية و وحشية الموت، يعلن
الكاهن فناء العالم لا مفر من الموت. هنا بيرغمان يقدم صورة لبشاعة الحرب
العالمية الاولى و الثانية و استخدام القنبلة الذرية و الاسلحة البشعة التي
قتلت الملايين من دون ذنب. جميع الحروب السابقة و اللاحقة ليست لخدمة
الدين، بل هي لمصلحة فئة برجوازية تستخدم الدين و الإِله لمصلحتها، هذا
الفيلم صرخة شاعر تجاه المادية و السياسة، و ليس مجرد سرد لحكاية شعبية.
بيرغمان لا يتاجر بأحلام البسطاء كما نراه اليوم من الافلام السطحية و
الهابطة التي تستخدم الفئة المهمشة كسلم للوصول للمجد و الشهرة. يمكننا
التوقف للحظة بسيطة و لا سبيل للمقارنة بين عبقرية و شفافية بيرغمان أمام
سخافة و هشاشة بعض الأفلام العربية التي تتخذ من الفئة المهمشة موضوع
لافلام ركيكة و سطحية ، يتم تقديم الاحداث بصورة سطحية مباشرة تخلو من
المعنى والجمال.
لا نريد تسمية او اعطاء اهمية لهذه التفاهة لكننا ندرك أن هولاءِ لا يعرفون
بيرغمان و ليس لديهم أي مؤهلات فنية، هي موجة أو سحابة صيف ستذهب لغير
رجعة.
بيرغمان يقدم لنا صورة المؤمن و رؤية هذا المؤمن، يقدم لنا صلابة و قوة
الايمان و الخيال الفطري والشعبي بكل بساطته و عفويته، بكل روعته وسحره، في
هذا الفيلم "الختم السابع" نحن امام شخصية حالمه مؤمنة، انها شخصية الممثل
الكوميدي و المهرج الذي يتخييل ويحلم بالسيدة العذراء والسيد المسيح، يشعر
بالسعادة لهذه الرؤية، باستطاعته ان يغني و يرقص بفرح لإِكتشافهِ العالم
الاخر، هذه الشخصية يمكننا ان نحس بانها الامل ضد التشاؤم، الايمان ضد
الكفر، الحلم ضد الكابوس.
في "الختم السابع" المهرج و زوجته و الطفل الصغير الذي يظهر عاريا و يحبو،
هذه الشخصيات الثلاث استعارة للثالوث المقدس "الاب، الابن و الروح القدس"،
المهرج و زوجته يحاولان الترفيه عن البؤساء بالغناء و الحكايات، أي ترويج
نوع من الاحلام و الفرح، يستطيع الموت ترويض الجميع و نراهم في نهاية
الفيلم يشاركونه في رقصة فلكلورية، لكن المهرج يفر بزوجته و طفله متجاوزا
الغابة و العواصف، للحفاظ على الطفل كونه الامل و الحلم، هذا الفيلم معقد و
كئيب، لكنه عميق، فكل لقطة مليئة بالاستعارات ليعطي لكل متفرج فرصة
للمشاركة الفعالة و الايجابية كلّ على حسب ثقافته، كل صورة يرسلها المخرج
للروح و الفكر و الخيال.
في فيلم " كما في المرآة" نجد اربع شخصيات هي كارين و زوجها و أبوها و
أخوها الصغير تعيش في جزيرة، الجزيرة أشبه بسجن، هذه الشخصيات تعيش في عزلة
و وحدة، كارين مريضة نفسياً، تدخل في عالم الخيال و الحلم، تقع في حب إِله
هو عبارة عن عنكبوت يختفي بين شقوق جدران غرفة خالية. من اجل هذا الإِله
تقرر ترك زوجها، تقع ايضا بالاعجاب بأخيها الصغير، ترغمه على ممارسة الجنس
معها، نحن هنا امام امرأة تصبح اسيرة لعالم ميتافيزيقي لا يدركه احد الا هي
وحدها. تشعر بالسعادة عندما تكون في هذا العالم، تتعقد العلاقة بين
الشخصيات بسبب هذه الاحلام المجنونه، في نهاية الفيلم تتعرض لاِنهيار عصبي،
يتم استدعاء الإِسعاف، من خلال نافذة البيت نرى هبوط طائرة هيلكوبتر، حركة
الهبوط اشبه بحركة هبوط عنكبوت، هذه استعارة لحلم كارين، بيرغمان ببراعته
السينمائية يمكننا من لمس و مشاهدة العالم الميتافيزيقي والخيالي، فيتحول
غير المرئي الى مرئي، لكنه لا يقدمه بطريقة ساذجة او مباشرة، هو يتيح
للمتفرج مساحة واسعة من الخيال و التفكير، يدعوه للحلم وتخطي العالم المادي
المحدود والضيق الى عالم روحاني مطلق.
في فيلم "العار" بيرغمان يتطرق لموضوع الحرب باعتبارها كابوساً مرعباً و
بشعاً يدمر كل شيء جميل هذه الحرب تدمر اسراة و حلم امرأة بان يكون لديها
طفلة جميلة تمنحها الحنان و الامان في عالم مضطرب يعيش على حافة الهاوية
بسبب العنف و الانانية. في جزيرة صغيرة يفر الزوج و زوجته هربا من جحيم
الحرب. نحن هنا امام صورة ادم و حواء، ادم ضعيف الشخصية، اشبه بطفل جبان،
ليست له القدرة على ذبح دجاجة، الزوجة شخصية شجاعة حنونه وحالمه. لدى هذه
الأسرة حياة بسيطة تعتمد على زراعة بعض الخضار و بيعها. تنقلب الأمور مع
وصول الحرب للجزيرة، تحاول الشخصيات الهرب لكن كل شيء مدمر. تعود لبيتها في
انتظار الموت، يتم القبض عليهما بتهمة دعم المقاومة، بعد التحقيق تعود
للبيت، ياتي المحقق، يرغم الزوجة على ممارسة الجنس معه. يحدث انقلاب في
شخصية الزوج فيتحول الى شخص عنيف، في نهاية الفيلم نرى الزوج و الزوجة مع
اخرين في قارب يسير وسط جثث الجنود. يسير القارب ببطء من دون اتجاه كأنه
يسير نحو العدم. في هذا الجحيم تحكي الزوجة حلمها بطفلة جميلة، الحلم هنا
تمسك بالحياة هو الامل الوحيد في فضاء الموت الذي نعيشه. هنا الحلم انتصار
للحياة و الانسانية، الحلم نسمعه من المرأة و ليس الرجل كون الاولى كائن
مقدس لدي بيرغمان، المرأة هي مصدر الحلم الجميل، هي صاحبة الروح الشفافة و
الطاهرة، لذلك ترى ما وراء هذا الواقع البائس و المؤلم.
في فيلم "الوجه" نحن امام السحر، عالم الخيال و ما وراء الواقع ضد العالم
المادي و العلم الذي لا يعترف الا بالمحسوس و المرئي، فولجر الساحر يأتي
لتقديم عرض امام الدكتور فولجير و مجموعة من الاثرياء، يفشل الساحر في
تقديم العرض او التاثير على هذه المجموعة، لكن سحره يجذب بعض البسطاء من
العاملين بالقصر وكذلك فئة النساء، البسطاء هم الاقرب للحلم و العالم
الميتافيزيقي، الخادمة الجميلة سارة تشتري دواء الحب الساحر، تقع في حب شاب
من اعضاء فرقة الساحر و تغادر معهم تاركة القصر و الحياة المريحة. الدكتور
فولجير يحاول اغراء زوجة الساحر بالبقاء و ترك زوجها، زوجة احد الاثرياء
تقع في حب الساحر. هذا الفيلم مناسبة لبيرغمان لمراجعة ابداعه و رؤيته
الفنية و السينمائية، هو استشعار للموت الذي أصبح يحس به قريباً منه. هو
محاولة لاكتشاف اكبر للعالم الميتافيزيقي و ايغال في دواخل الذات الانسانية
بكل تعقيداتها و كبريائها و غرورها، المخرج يحاول اكتشاف ذاته و عرض سيرته
الذاتية بصدق باسلوب غير مباشر، هو محاولة للافصاح عن القلق و الاضطراب
الداخلي لبيرغمان وللمجتمع والعالم الذي يحيط بالفنان.
في فيلمه "الشخصية" يتناول بيرغمان شخصية فنانه مسرحية فقدت صوتها خلل احد
العروض، يتم نقلها لمركز للعلاج النفسي ثم تغادر مع ممرضتها لقضاء فترة
نقاهة بجزيرة بعيداً من ضوضاء و صخب الواقع. الجزيرة هنا بعناصرها الطبيعية
هي عالم الحلم، عالم الصفاء و الدهشة، لكن الانسان المصاب بخلل واضطراب
داخلي وروحي قد يعجز عن التوغل في هذا العالم رغم سحره وروعته. تظل هذه
الشخصية مسجونه في عالم الصمت والعزلة رغم ديناميكية وضوضاء الطبيعة. في
المقابل تظل الممرضة تتحدث دون توقف الى ان تصاب بانهيار بسبب صعوبة وجود
علاقة مع روح اخرى تائهه ومريضة، بيرغمان في اغلب افلامه يتناول وجود
صعوبة في العلاقات الأسرية بشكل خاص والانسانية بشكل عام. هنا توجد علاقة
فيزيائية و جنسية بين المريضة والممرضة، لكن هذه العلاقة لا يمكن ان تدوم
في ظل شرخ روحي بين الشخصيات، كي يجد الانسان توازن روحي و قدرة على
الاحساس بالطبيعة و الاخرين عليه التخلص من الظلام و البشاعة و الانانية
الداخلية، ما يهدد عالمنا اليوم هي هشاشة الروح و قذارته وهو العائق امام
الشعور بروعة الحلم و مذاق الحياة
في فيلم" فاني و اسكندر" بيرغمان يعود الى موطن الطفولة لاستعادة احلام
الطفولة الضائعة، هو يرى ان قمة الابداع الفني امتلاك خيال و احلام طفولية
بريئة، صورة الطفولة ليست للمتاجرة بمشاعر المتفرج كما نراه في بعض الافلام
الاكشن السندويتشية، هي عالم الحلم دون حدود مفتوحة الافاق، هي مناسبة
لتلمس طهارة الروح الانسانية و الخيال الساحر، هي العودة لحقيقة و اصل
الانسان قبل ان تشوه روحة مادية عالم اليوم، الفن جنون و براءة ضد البشاعة
العصرية، السينما حلم طفولي هذه النقطة هي سر شعرية و عبقرية بيرغمان.
خلاصة
لا يخلو أي فيلم من افلام بيرغمان من عنصر الحلم، بيرغمان كان شديد التاثر
بالكاتب السويدي ستندبيرج، كان شديد التاثر بالتراث السويدي والاساطير هو
مولع بكل ما هو انساني و روحي. لم يكن متعصباً لدين اومذهب سياسي، كان
متعصبًا ومنحازًا للانسان والروح والحلم. نحن بحاجة لمشاهدة افلامه ليس
لتعلم السينما كفن تعبيري شعري، بل للتعرف على ذاتنا الانسانية. افلامه
فرصة للحلم، فرصة للتامل في الذات والروح، فرصة لتذوق روعة السينما كفن
شعري ساحر.
توصيات
في عالمنا العربي العديد من الكليات والمعاهد التي تدرِّس فنون الاخراج
السينمائي والتلفزيوني. أغلب هذه المؤسسات ليست لديها مكتبات سينمائية
لافلام تحوي الروائع السينمائية مثل افلام بيرغمان. هذا نقص فضيع، لمن يحب
دخول عالم السينما عليه مشاهدة افلام بيرغمان و غيره من عباقرة الفن
السابع. نحن نعيش في عالمنا العربي في حالة انقطاع مع هذه الروعة، الفضاء
التلفزيوني العربي يميل لكل ما هو سطحي و فارغ. الكثير من المهرجانات
العربية ليست لديها الشجاعة لعرض الفكر الجاد، فضاء الانترنت يظل بابًا
مفتوحًا لمشاهدة أو شراء مثل هذه الأفلام.
aloqabi14000@hotmail.com
إيلاف في
14/08/2009 |
