فبعد أن كان الصراع محوره الحصول علي معلومات عسكرية أو
حربية من دولة ما، أصبح هدف الجواسيس الحصول علي أسرار المنتجات الجديدة التي لم
تظهر بعد في الأسواق، وبعد أن كان وراء جواسيس الأمس أجهزة استخبارات تنتمي
إلي
دول، أصبح جواسيس اليوم
يعملون لحساب شركات متنافسة في نفس الدولة، وتصل
المفارقة إلي حدها الأقصي عندما نعرف أن هؤلاء الجواسيس الجدد
ليسوا في الحقيقة
إلاّ جواسيس معتزلين من العمل التقليدي لدي أجهزة استخبارات محترفة، ثم أن
الدوائر ستضيق من العمل لحساب دولة إلي العمل لحساب شركة وصولاً
إلي الدائرة
الأضيق وهي العمل لحسابهم الخاص.
فكرة بمليون جنيه كما ترون، ولكن
الملاحظة الأهم علي هذا الفيلم الذي قام ببطولته البريطاني كليڤ أوين
والأمريكية چوليا روبرتس إن الخط الساخر الذي يبدو في صميم الفكرة لم
يُعبِّر عن نفسه بالصورة الكافية،
فنحن أمام فكرة كوميدية بامتياز، بل أنها
فكرة كوميدية كافية لصناعة فيلم له أبعاد سياسية واجتماعية
واضحة إلي الدرجة التي
تعتقد أن مخرجين كبارا من طبقة الأخوين كوين
أو صانع الأفلام الكبير وودي
آلان يمكن أن يتحمسوا لإخراجه، ولكنك تشعر أن مخرج الفيلم
المزدوج
وكاتبه توني جيلروي أفلتت منه فرصة ذهبية لتفجير الضحك لأنه فضل -
فيما
يبدو -
أن
يهتم بتفاصيل اللعبة أكثر من اهتمامه بتقديم مواقف تضحكنا علي
تبدُّل الأزمان والظروف وضغوط المعيشة وتدهور أحوال جواسيس هذه
الأيام الذين كانوا
يبحثون في الماضي عن سرّ القنبلة الذرية، وأصبحوا مكلفين من الشركات التي
يعملون لديها بالبحث عن سرّ منتج جديد لعلاج الصلع،
وبعد أن كان الشعار
المطروح، والذي ترفعه الدول هو السلاح سرّ القوة
أصبح الجاسوس - من أجل
لقمة العيش - يرفع شعارًا جديدًا يقول
الشَعْر هو القوة،
هنا مفارقة
مدهشة تحتاج إلي معالجة كوميدية مجنونة،
ولكنك ستجد مواقف متناثرة هنا وهناك تكاد
تكشف عن حيرة المؤلف المخرج في اختيار المعالجة المناسبة ويبدو أن هذه
الحيرة لم
تدم طويلاً حيث انحاز أخيرًا إلي ما
يقترب من حبكة تشويقية بوليسية جيدة
الصنع، وضحّي بمشروع كوميديا من طراز رفيع تقول أشياء كثيرة عن زمن الصراع
الاقتصادي لا زمن الحروب العسكرية،
وتقول أشياء أكثر عن أزمة الجواسيس بعد سقوط
الاتحاد السوفيتي، ونهاية عصر الحروب الباردة.
المعالجة الكوميدية
إذن كانت ستعطي الفيلم مذاقًا مختلفًا،
كما كانت ستجعل البناء أكثر بساطة،
ولكن
اختيار معالجة تشويقية لا تختلف عن أفلام الجاسوسية جعل البناء معقدًا، ولم
تكن
هذه هي المشكلة في حد ذاتها، وإنما بدأت المشكلة عندما طالت بعض المواقف وزادت
مساحة الحوار للشرح والتفسير، وعندما هبط الايقاع تمامًا،
وأصبح التناقض واضحًا
بين مشاهد تمثل الحاضر وتدور خلالها محاولات لمعرفة أسرار منتج لعلاج الصلع
تنتجه
احدي الشركات، ومشاهد أخري تمثل الماضي تفسر وتشرح لنا تفاصيل العلاقة بين
طرفي
المغامرة وهما جاسوسة أمريكية سابقة،
وجاسوس بريطاني مستقيل،
وتأثر ايقاع
السرد -
رغم تماسك تفاصيل الحكاية
- بهذه الحيل البصرية الساذجة بتقسيم الشاشة
أو بتصغير حجم الكادر إلي درجة التلاشي مما
يذكرك بحيل برامج المنوعات في
التليفزيون المصري في سنوات الثمانينيات من القرن العشرين وخاصة اغنيات
المخرج فتحي
عبد الستار.
ويضاف إلي كل ذلك أن شخصية الجاسوسة الأمريكية والجاسوس
البريطاني تم رسمهما باعتبارهما شخصيتين تبحثان عن المغامرة لدرجة يمكن أن
يكونا لصين أو محتالين، ويعني ذلك أن المؤلف المخرج لم
يفطن إلي أنهما
يعكسان فكرة انهيار حرفة الجاسوسية بعد تغير الزمن،
ولولا خط رومانسي جيد ومؤثر
بين الجاسوسة والجاسوس لبدت الشخصيتان مُسطحتين تمامًا، ولاقتربنا كثيرا من
شخصيات فريق أوشن في السلسلة الشهيرة التي ظهرت فيها جوليا روبرتس وفي كل
الأحوال
أصبح عليك كمتفرج أن تبذل مجهودًا واضحًا لكي تصل إلي مغزي أكثر عمقًا من
مجرد
متابعة لعينة ممتعة لاكتشاف وسرقة منتج جديد،
وما يغيظ حقًا أن هذا المغزي في
صميم الفكرة الذهبية، وكان دومًا في متناول اليد ببذل بعض الجهد في تطوير
المعالجة.
هربت الكوميديا من فيلم المزدوج، وحتي التشويق أصبح -
هو الآخر في مأزق بسبب كثرة الفلاشات التي تفسِّر ما حدث في الماضي مما هبط
بالإيقاع، ولكن الحكاية نفسها بتفاصيلها،
وبمفاجآت النهاية متماسكة،
أما
طريقة سردها فهي ليست كذلك لدرجة قد تدخل المتفرج في حيرة قبل أن تتضح
الأمور في
النهاية، الحكاية بسيطة وقائمة علي هذا الصراع بين الشركات
الكبري التي تحولت علي
نحو ما إلي دول لديها القدرة علي الاستعانة بجواسيس محترفين في حربها ضد
الشركات
المنافسة.
لدينا شركتان ضخمتان تنتجان مستحضرات للتجميل ومعاجين
للأسنان.. إلخ، الأولي اسمها شركة بوركيت وراندال ويرأسها
هوارد تولي،
والثانية هي شركة اكويكروم برئاسة ديك جارسيك، ولدينا أثنان من الجواسيس
هما عميلة المخابرات المركزية الأمريكية كلير ستانويك
(جوليا روبرتس)،
وعميل المخابرات البريطانية راي دوفال (كليف أوين)،
من الواضح أنهما
يعملان فقط من أجل المال، والعلاقة بينهما أشبه بالقط والفأر لدرجة أن
كلير
تستدرج راي وتُخدِّره للحصول منه علي مظروف
يحتوي علي معلومات حصل عليها عن
مصر(!)، ومع استمرار العلاقة بينهما واللقاءات في مدن مختلفة مثل روما
ولندن وميامي تتبلورر أمامهما -
وباقتراح من راي -
فكرة أن يعملا
لحسابهما الخاص ولكن بعد تحويل نشاطهما من التجسس لدي الدول إلي التجسُّس
لدي
الشركات العملاقة،
وستكون الخطة ببساطة أن يعتزلا العمل لدي الـCIA
ولدي
المخابرات البريطانية التي يطلق عليها
M16،
ثم
يلتحق راي للعمل لدي
شركة اكويكروم، وتلتحق كلير للعمل لدي الشركة المنافسة
بوركيت
وراندال، ويكون الهدف هو الحصول علي سرّ
منتج جديد ستقدمه هذه الشركة أو تلك
للأسواق، علي أن يبيعا المنتج لحسابهما الخاص،
وبعد مغامرات متعددة تنجح
كلير في اكتشاف وجود منتج جديد تعدّ
له بوركيت وراندال هو شامبو سحري
للتخلص من الصلع، وتقوم بتسريب رسوم المستحضر الجديد إلي شركة
ايكويكروم
التي يعمل بها صديقها راي
ويقوم هو بدوره بالحصول علي نسخة من التركيبة
المرسومة ليقوما ببيعها لاحدي الشركات السويسرية مقابل 35
مليون دولار، ولكن
المشاهد الأخيرة تكشف عن أن مسئولي شركة بوركيت وراند ال اكتشفا العلاقة بين
كلير وراي
من البداية، ونجحا في استخدامهما لتسريب تفاصيل تركيبة كريم
للبشرة وليس تركيبة دواء للصلع،
وهكذا لا يبقي للجاسوسين المعتزلين إلا
علاقتهما العاطفية، ومن
يدري فربما
يعودان إلي الجاسوسية التقليدية لحساب
أجهزة المخابرات!
روز اليوسف اليومية في
13/08/2009 |