«تبدأ
العروض المحلية
للفيلم المصري الجديد «إبراهيم الأبيض» لمروان حامد بعد ظهر اليوم، في
صالات «أمبير
دون» (فردان) و«أمبير سوديكو» و«زوق» و«أبراج» (فرن الشبّاك) و«سيتي
كومبلاكس»
(طرابلس).
إنه الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج الشاب، الذي أبدع في فيلمه
القصير «لي لي»، والذي أعلن عن موهبة جدّية وحرفية خطت خطواتها الأولى
بثبات خفر
ومحبَّب في فيلمه الروائي الأول «عمارة يعقوبيان».
أثار مروان حامد، عند إنجازه «عمارة
يعقوبيان» في العام 2006، سؤال الولادة الإخراجية الحقيقية لابن السيناريست
والمنتج وحيد حامد، وللمتعاون مع «شركة غوود نيوز» التي وضعت ميزانيات
هائلة لإنتاج
أفلام لم تكن كلّها ذات مستوى فني راق، خصوصاً «حليم» لشريف عرفه (آخر
أفلام الممثل
الراحل أحمد زكي) و«ليلة البيبي دول» لعادل أديب، وهو الأسوأ
بينها. بمعنى آخر،
وُلد مروان حامد كمخرج أفلام روائية طويلة في ظلّ سلطتين لا يُستهان بهما:
سلطة
الأب المحتلّ مكانة كبيرة في المشهد السينمائي المصري، ككاتب قدّم أعمالاً
سجالية
عديدة ورائعة، قبل أن يجمع الكتابة إلى الإنتاج، ما أدّى به إلى مسايرة ما
لذائقة
جماهيرية أوسع، أفضت إلى هبوط واضح في أفلام عدّة له؛ وسلطة
شركة أقرب إلى
الامبراطورية الإعلامية التي احتلّ واجهتها الأخوة أديب، أبناء السيناريست
الراحل
عبد الحي أديب، الموزّعون في مجالات الإعلام المرئي والإخراج والـ «بيزنس»
السياسي
والتجاري، من خلال فنون الموسيقى والغناء والإنتاج السينمائي.
يد إخراجية
لكنه برع في إظهار شيء ذاتي في كيفية تحويله رواية علاء الأسواني إلى شريط
مصوَّر. لم يخرج كثيراً على الوقائع المنشورة في الرواية،
بحجّة قالها كاتب
السيناريو الخاص بالفيلم وحيد حامد نفسه، مفادها أن المقتَبِس لا يستطيع
تجاوز نصّ
الرواية. ومروان، المبدع في تحقيق «لي لي» شكلاً ومضموناً وإدارة ممثلين
واستخدام
الكاميرا والزوايا، أدرك أن الإطلالة الجماهيرية الأولى له مع
ممثلين «كبار» (عادل
إمام ونور الشريف ويسرا وإسعاد يونس ممثلي «الصفّ الأول» بحسب التعبير
السينمائي
المصري، وخالد الصاوي وخالد صالح وسمية الخشاب وهند صبري وأحمد راتب وأحمد
بدير
وغيرهم) لن تكون سهلة، لأن إدارة هذا العدد الهائل من النجوم
المتنوّعين، في فيلم
أول بُنِيَ على أساس المتتاليات القصصية المرتبطة بفصول متلاحقة وحكايات
متداخلة
وسرد متقاطع والسياسة والمجتمع والعلاقات الإنسانية والعاطفية والأصولية
وغيرها من
المواضيع الساخنة والتحوّلات الخطرة، تطلّبت (إدارة الممثلين)
حنكة وخبرة كبيرتين،
إلى درجة أن البعض لم يتردّد عن القول إن هناك «يداً» خفية ساهمت في إنجاح
العمل
إخراجياً.
غير أن هذه اليد، إن وُجدت في الفيلم الأول، بدت كأنها يد المخرج
الشاب نفسه في الفيلم الثاني «إبراهيم الأبيض»، لأن الدراية
التقنية والفنية
والجمالية أثمرت فيلماً جديداً متين البنية السردية وواضح الرؤية السياسية
والاجتماعية المغلّفة بنمط بصري شبه متكامل، على الرغم من المشكلة
«الأبدية» التي
تعانيها صناعة السينما المصرية منذ «الأزل»: التسجيل الرديء
للصوت، وإكثار الصراخ
النسائي تحديداً، إلى درجة لا تُحتمل أحياناً في فيلم سينمائي، وإن استُمدّ
الصراخ
من عمق البيئة الاجتماعية المصرية الصرفة، والسلوك اليومي لناسها. واليد
المذكورة
أخرجت فيلماً جميلاً، عن عالم بائس وعنيف وموغل في تمزّقاته وانهياراته
وجنونه. وهي
اليد المتعاونة، مجدّداً، مع الشركة الإنتاجية نفسها (غوود
نيوز)، من دون أي تدخّل
من صاحب السلطة الأولى، عنيتُ به والده وحيد حامد (قصّة وسيناريو «إبراهيم
الأبيض»
لعباس أبو الحسن)؛ علماً بأن نجوماً من نوع
آخر احتلوا واجهة الفيلم، أبرزهم محمود
عبد العزيز (وحده، من بين الممثلين الآخرين، ينتمي إلى الرعيل
السابق وممثلي «الصفّ
الأول»)، إلى جانب أحمد السقا (أكثر ممثلي جيله الشباب تطوّراً أدائياً،
لأنه أتقن
تقديم شخصيات ممزّقة بين جانب إنساني صرف وعالم موبوء بالفساد والعفن
والجريمة)
وهند صبري وعمرو واكد وسوسن بدر.
في «إبراهيم الأبيض» (قصّته مستوحاة من يوميات
شخص حقيقي يُدعى إبراهيم الأبيض، تردّد في القاهرة أن عائلته استاءت من
الفيلم
وأثارت جدلاً مع منتجيه حول مسائل متفرّقة)، بدا واضحاً أن تبديلاً جدّياً
طرأ على
علاقة مروان حامد بهاتين السلطتين، وبعدد الممثلين وآلية
اشتغالاتهم الفنية
والأدائية، وبالمناخ الدرامي النابع من قاع المدينة وبؤس مجتمعها الإنساني،
وبالسياق التشويقي المتماسك، إلى حدّ بعيد، في سرده حكاية إبراهيم الأبيض
(السقا)
منذ طفولته البائسة إلى نهايته المحتومة،
المعمّدة بالدم والدمع معاً. فالسلطة
الأبوية انزاحت، إلى حدّ ما (إنها غير مرئية تماماً، على
الأقلّ)؛ والسلطة
الإنتاجية نفسها حاضرة، لأنها قادرة على منح المخرج الشاب ميزانية كبيرة
(ذكرت
معلومات صحافية مصرية أنها بلغت اثنين وعشرين مليون جنيه مصري، في حين بلغت
ميزانية «عمارة يعقوبيان»، بحسب المعلومات نفسها،
ثمانية عشر مليون جنيه مصري) تخوّله
التحكّم بمشروعه هذا. أما الممثلون، فمحصور عددهم بقلّة أمسكت بمفاتيح
الحبكة
الدرامية على مستويين: المستوى الأول أساسي (عبد العزيز والسقا أولاً،
وواكد وصبري
ثانياً، كداعِمَين رئيسين للأوَّلَين)، والمستوى الثاني
مُكمِّل (شخصيات عابرة
شكّلت منطلقات المتاهة الدموية التي سقط إبراهيم الأبيض فيها، وشخصيات
ضرورية
رافقته في سيرته، وأكملت معه وله وعبره صورة بيئة المجرمين وعالمهم
ومجتمعهم).
قاع المدينة
لا يُعيب العنف الدموي الكثير فيلماً أُريد له أن يكون مرآة
صادقة لواقع إنساني مأزوم. فالأنماط الراهنة للحياة اليومية
منشغلة بشتّى أنواع
العنف، في اللفظ والسلوك والنقاشات والعلاقات والحبّ والعمل... إلخ،
والمسار
المتحكّم بعلاقات الفرد بذاته وبالآخرين خاضعٌ للغليان والارتباك والتوترات
المنبثقة من وقوع المجتمع المعاصر وناسه في فوضى الأنظمة
(السياسية والدينية
والاجتماعية والثقافية والتربوية والإعلامية وغيرها) وقمعها. بهذا المعنى،
يُمكن
فهم انجراف مخرجين سينمائيين مصريين عديدين إلى التقاط العنف بجوانبه
المختلفة،
لتقديمه في أفلام ملتصقة بيوميات الناس وأزماتهم المتنوّعة،
ومنبثقة من حيواتهم
وهواجسهم وذواتهم المقيمة في الوجع والقهر، سواء كان العنف مباشراً في
التصرّف
والتربية والحياة اليومية («السفّاح» لسعد هنداوي المستمرّ عرضه اللبناني
في صالة «غراند سينما كونكورد»)، أو غير مباشر، تمّ
التعبير عنه بمواربة سينمائية تكشف
حضوره في هذه الحياة اليومية من دون تصوير شكله الحسّي («احكي يا شهرزاد»
ليسري نصر
الله، المزمع إطلاق عروضه اللبنانية قريباً). وعلى الرغم من أن جديد مروان
حامد
أحال مصير إبراهيم الأبيض إلى طفولة معذّبة وفقيرة وبائسة
ويتيمة الأبوين، تماماً
كما فعل سعد هنداوي في «السفّاح»، المستلّة قصّته من واقعة حقيقية أيضاً،
متمثّلة
بالسفّاح حلمي أحمد المسيري، كما قال مطّلعون على خفايا المشروع، مع أن
منتجيه
(ميلودي
للأفلام) تجنّبوا الإيحاء بأن الفيلم توثيق للسيرة الحياتية للشخصية
الحقيقية؛ إلاّ أن المشاعر الإنسانية الصادقة إزاء الأم المتوفاة (حنان ترك)
والحبيبة المسلوبة منه بالإكراه والغصب (هند صبري) والصديق الذي غرق معه في
بحر
الدم والجريمة والتيهان وتعاطي شتّى أنواع المخدرات الرخيصة، قبل خيانته له
(عمرو
واكد)، أشاعت مناخاً شفّافاً وسط القتل والصراعات الحادّة
والعجز عن الخروج من
الموت المقيم في الأزقة والنفوس. ومع أن الفيلم تحاشى التحليل النفسي
والاجتماعي
المباشر، لأنه ركّز بنيته الدرامية على سرد فصول من الحياة القصيرة
لإبراهيم
الأبيض، إلاّ أن التشريح النفسي/ الاجتماعي، المُضاف إلى نقد
قاس ومبطّن للتحوّلات
الخطرة التي تعانيها البيئة المجتمعية المصرية في ظلّ سطوة الاقتصاد
الليبرالي
والانفتاح غير المشروط وتنامي سلطة التجّار وهيمنتهم على الناس العاديين
(هناك
مشاهد قليلة ظهر فيها زعيم المحلّة الزرزور الكبير، الذي أدّاه
محمود عبد العزيز،
واقفاً على تلّة عالية وسط القبور والمنازل الفقيرة في ما يُشبه
العشوائيات، كإله
يأمر وينهي فيُطاع فوراً)، شكّل (التشريح) جانباً موازياً لتلك الحكاية
المعروفة،
المستمرة في نبش أعماق الذات الفردية وصداماتها مع الجماعة، و«انحراف» هذه
الذات عن
الطريق القويمة بحسب المعتقدات الاجتماعية والدينية والتربوية
التقليدية. فهذا عالم
يكاد يخلو من سلطة الأمن (وإن ظهر رجال المن في مشاهد قليلة جداً)، ومن
سلطة
القانون (المحكمة في لقطات سريعة)، لأنه خاضع بالكامل لسلطة أخرى (الزرزور)،
استمدّت جبروتها من الديني والدنيوي، وإن لم ينكشف الأول
كثيراً.
بعيداً عن هذا
كلّه، يُمكن القول إن «إبراهيم الأبيض» أكّد امتلاك مروان حامد أداوت
سينمائية
جدّية ومحترفة، وإن شَابَت فيلمه الثاني هذا هنات قليلة في
تصوير بعض اللقطات
وتسجيل الصوت والتقاط مشاهد وغيرها من التفاصيل الصغيرة، التي يتغاضى النقد
عنها
لأن الفيلم برمّته متماسك ومشغول بذهنية مخرج موهوب وجميل وصاحب مخيّلة،
على أمل
ألاّ يسقط في فخّ الميزانيات الضخمة التي يُمكن أن تُجرِّد الصنيع الفني من
لغته
الإبداعية، إذا لم يُحصّن المخرج نفسه من تلك الهيمنة الاقتصادية الخانقة.
السفير اللبنانية في
13/08/2009 |